27-أغسطس-2019

من الفيلم (vimeo)

يحكي حازم عن منام وصل فيه إلى ألمانيا، وهناك حتى يتأكدوا من أنه سوري يسألونه عن مقاهٍ في اللاذقية فلا يعرف، ليتم إرجاعه إلى اليونان، ويختم كلامه عن حلمه "حتى بالحلم ما عم يزبط.. أنا كشاب ما عندي وطن أرجعله"، فنسمع صوت خاله يرد عليه "عندك بُلم (قارب مطاطي)" في إشارة تحيلنا إلى البحر، الوسيط إلى ملاذ آمن للكثير من الهاربين من جحيم الطغاة والغزاة في أوطانهم.

في "قمر في سكايب" يسرد غطفان غنوم عدة حكايات للاجئين سوريين في اليونان يحاولون الوصول إلى الشمال الأوروبي

قصة حازم وخاله هي حكاية الفيلم الوثائقي "قمر في سكايب" – تم إنتاجه عام 2016- للسوري غطفان غنوم، فيما بدا أنه حكاية مكررة عما جرى في سوريا ولعشرات الآلاف من اللاجئين السوريين في أوروبا، إذ طغا في السنوات الأخيرة موضوع الأزمة السورية على عدد من الأفلام لمخرجين سوريين وجدوا أنفسهم معنيين بنقل معاناة شعبهم.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة غطفان غنوم

لكن حتى لو كانت الحكايات متشابهة فهل تتشابه التفاصيل؟ وما الذي يمنع من تناولها في عدة أفلام؟

كفلسطيني، كنت دومًا أتوق لمعرفة أدق التفاصيل حول خروج أبي لاجئًا مع أهله من فلسطين وهو ابن ثماني سنوات، ولم أسمع سوى حكاية ناقصة، وكنت أظنه يتعمد ألا يتحدث عن الأمر لأنه نسي أو استسلم لواقع استحالة عودته، لذا حاولت البحث عن تفاصيل حكايات جديدة في الروايات والأفلام الكثيرة التي صُنعت عن النكبة وتغريبتنا، حتى ذلك اليوم -بعد تحرير الجنوب اللبناني- حين كان والدي يشاهد في التلفاز والحزن بادٍ على وجهه عددًا من اللاجئين عند بوابة فاطمة بالقرب من السياج ينادون على أقرباء وأحبة في فلسطين المحتلة قدموا لملاقاتهم بعد غياب طويل، يومها قلت له بلؤم واضح "مين اللي ضربكم على إيدكم تطلعوا من البْلاد؟"، ليرد علي بشتيمة" يلعن أبوك، هو احنا طلعنا بكيفنا؟!" قبل أن ينفجر في البكاء، وهو الرجل الصلب الذي لم أشاهد دموعه حتى عند وفاة جدتي.

أدركت حينها أن القهر في النفس أحيانًا كثيرة يُفقد المرء القدرة على التعبير عن ألمه، فتكون حكايته ناقصة، ولا تُختزل في رواية أو بفيلم واحد، فهناك دوما ما يستحق أن يُحكى طالما استمر اللجوء ولم تنته حكاياته بالعودة إلى الوطن، حتى لو كانت حكاية لاجئ واحد مصاب بالعودة مثل أبي، ظل 64 عامًا يتحسر على البْلاد ويأخذه الحنين إليها كما سمع اسمها.

أمضى الفلسطينيون أكثر من 70 عامًا يروون حتى اليوم حكايات من هُجّروا عام 1948، ويوثقونها شفويًا ونقلوا منها إلى الأفلام ما استطاعوا إليه سبيلًا، يوّرثون الأمل بالعودة إلى أولادهم وأحفادهم، وما تزال أمي تكرر قصة الأم التي استولى عليها الخوف حين اقتحمت العصابات اليهودية قريتها فظنت الوسادة ابنها الرضيع وحملتها هاربة بها، وقد شاهدناها بأم أعيننا تمثيلًا في مسلسل "التغريبة الفلسطينية" عام 2004، أي بعد 56 عامًا على النكبة.

اليوم يعيد السوريون رسم أوجه تفاصيل لجوئهم حتى لا يخطفها النسيان، وفي "قمر في سكايب" يسرد غطفان، الذي يعيش لاجئًا في فنلندا، عدة حكايات للاجئين سوريين في اليونان يحاولون الوصول إلى الشمال الأوروبي الأكثر أمنًا، ساعيا لتوثيق تفاصيل ذاكرته وذاكرة من يعرفهم ومن التقاهم في فيلمه لتكون جزءًا من فسيفساء تعددت مكعباتها وتشابكت صورها، باحثًا بالإضافة إلى الحكاية الأساسية لحازم وخاله عن حلم في السينما بدأ في سوريا واستمر في بلد اللجوء، مستعينًا بالخيال في مشاهد تمثيلية، وبحق اللاجئ في أن يصنع فنًّا يعبر بذاته ويتجاوز بها الحدود، رغم محدودية الإنتاج.

يشاركه سينماه الأخوان ملص وهما فنانان مسرحيان، سبق واعتقلهما النظام في سوريا، فنرى أحدهما في بداية الفيلم يحمل كاميرته ومقابله فتاة هي الأخرى لاجئة مثله، يصور البحر محاولًا تصوير الفتاة قبل أن يمشي كل منهما في الاتجاه المعاكس للآخر.

في مشهد من "قمر في سكايب، يبكي الطفل محمد في حضن والدته، وهو يحكي ما حدث له بسوريا وكيف تم قصف منزلهم

يستعين غنوم بلقطات من الفيلم التلفزيوني اليوناني "سقراط" 1971 للإيطالي روبرتو روسيللني، مخاطبًا الإنسانية بكلمات سقراط للآلهة عند معبد البارثنيون على جبل الأكروبوليس: "أيتها الآلهة أثينا ابنة زيوس ومصدر الحكمة والحرب والفنون، أنتِ التي أنعمت علينا بالزيتون وعلمتينا استخدام عصا توجيه السفينة، اذكري الذبائح التي قدمناها لك، ليت قضاءك يوحي لنا، ليت درعك يحمينا".

اقرأ/ي أيضًا: غطفان غنوم: كانت سوريا بلدًا بلا أكسجين

في مشهد يبدو فيه المخرج قاسيًا، يبكي الطفل محمد في حضن والدته، وهو يحكي ما حدث له بسوريا وكيف تم قصف منزلهم. في استعادة لحالة الخوف وما عاشوه. فهم أيضًا لم يخرجوا طوعًا كما أخبرني أبي عنه وعن أهله قبلها بسنوات عدة.

لا أحد ينسى، هي ذاكرة تبقى عالقة صورها ليس لدى المشاهد الذي قد ينسى سريعًا بمجرد انتهاء الفيلم، إنما يخبرنا المخرج أن الذاكرة أشد وطأة على نفس من نجا من الموت والمجزرة ومن كل القهر في بلده الذي هرب منه، هذه الذاكرة لا بد وأن تقود لاحقًا صراعًا على الرواية، كما هو حال صراع الفلسطيني مع المحتل بحسب الراحل إدوارد سعيد، فعلى هذا الطفل وكل اللاجئين أن يدافعوا عن روايتهم ضد ورواية من أخرجهم من بلادهم، وسيتعين عليهم الدفاع مثل الفلسطينيين عن أنفسهم ضد تهمة "تركوا بلادهم وباعوا أرضهم"، أو بأنهم لا يعرفون شيئًا عن أوطانهم، فهم يعيشون في النعيم خارجها، وبالتالي روايتهم يشوبها النقص، وهذه التهمة وُجهت إلى المخرج نفسه حينما عُرض فيلمه في مهرجان قليبية بتونس قبل ثلاث سنوات، وكانت بلسان مدير مهرجان قرطاج السينمائي إبراهيم اللطيف الذي عبّر عن رأيه في الفيلم، بحسب أحد المواقع الإلكترونية، بالقول" المخرج يعيش بفنلندا وليس على دراية بما يجري في بلاده، بل لا يعرف ما يعانيه اللاجئين السوريين في أوروبا"، ليرد عليه غطفان حينها موضحًا حقيقة أنه خرج هو الآخر لاجئًا إلى لبنان مشيًا على الأقدام بعد تدمير مدينته، بل إن بطل فيلمه "قمر في سكايب" إنما هو شقيقه.

الحقيقة التي ستحاكم الطغاة وكل من يحاول إنكارها، كما يخبرنا المخرج بلسان سقراط في مشهد آخر استعان به من فيلم روسيليني، ويؤكدها في مشهد وثائقي يبدو للحظة متخيلًا يعيدنا فيه إلى الواقع حين نسمع صوته يقول "سينما.. سينما" مخاطبًا طفلًا سوريًا وصل إلى اليونان "بالبُلم" ويسأله "يعني مو تلفزيون أورينت؟"، وبعد أن يتأكد الطفل أن الكاميرا تسجل صوتًا وصورًا، يقف منتشيًا ممثلًا بأنه يحمل ميكروفونًا ليقول "نحن السوريين، هاربون من الحرب والقصف، العنف الشديد، نريد أن نتعلم ونكبر في حقوقنا الإنسانية.. إلى اللقاء".

يحكي بعدها عن القصف على المدارس والبراميل المتفجرة، ويطلب من المخرج أن يكتب على اليوتيوب "مجازر المزيريب"، فهناك حكايات أخرى يجب أن تُروى.

بالعودة إلى أصل الحكايات، نشاهد لقطات لقصف في سوريا وأصوات أعيرة نارية وقذائف، وصورًا لشظايا تقطع صوت القصف الذي يخلف أشلاءً تغيب هويتها، وبلقطات بالأبيض والأسود نشاهد لاجئين يتظاهرون للمطالبة بحقوقهم، لقطات ستصبح من الأرشيف، فقد يطول انتظارهم وانتظار صغارهم في المنفى مثل أبي أكثر من ستين عامًا.

للحظة يُشعرنا غنوم أننا أمام قصص متناثرة، هي واقع الحال لتغريبة متشعبة وحكاياتها كثيرة، يتتبعها بكاميرا حرة دون اعتبار لحجم اللقطة، إنما الاعتبار لتلك اللقطات الأصدق والأقرب للحظة، فنرى ونسمع شخصًا يتحدث بالهاتف عن قصة هربه وتهريبه إلى صريبا وتغريبته، وينقل لنا حديثا عن صعوبة تأمين المبالغ لعصابات التهريب، ووجوه أطفال ينظرون إلى الكاميرا، ولاجئًا يحكي عن صعوبة العيش في تركيا وعن طرق الموت للوصول إلى اليونان، وكيف علق الكثيرون فيها، وفي كوميديا سوداء نسمع حازم وخاله يحكيان وهما يضحكان بشدة عن محاولاتها للهرب من اليونان عبر مقدونيا، وكيف تم الإمساك بهما وإعادتهما إلى الحدود بعد سرقة نقودهما ودراجتيهما.

في الفيلم تحضر لقطات من المونتاج الذي يختزل الحكايات مهما كان طول سنواتها في الواقع، وكما يقول المخرج الأمريكي أورسون ويلز "غرفة المونتاج هي المكان الوحيد الذي أسيطر فيه بشكل مطلق، وإننا لنضع بلاغة السينما في غرفة المونتاج"، ويعيدنا المخرج إلى سينماه بمشاهد تمثيلية تجربية لنشاهد لاجئًا يحمل صليبًا على كتفه، وغربة لا تنتهي يجسدها المخرج بنفسه خارجًا من البحر مبتلًا قبل أن تعيده تغريبته إلى البحر مرة أخرى، تترافق هذه اللقطات مع صوت الحلاق منالمشهد الختامي لفيلم "الديكتاتور العظيم" لشارلي شابلن- والذي يسخر فيه من أدولف هتلر - وهو يخاطب الناس حول عدم رغبته في أن يكون إمبراطورًا، بل يريد مساعدة الجميع، ففي هذا العالم مجال لكل الناس بعيدًا عن الكراهية والعنصرية والجشع وإراقة الدماء، طالبًا من الشعب الاتحاد والكفاح من أجل الحرية.

لكن الحرية التي ينشدها المخرج كما ينشدها غيره من اللاجئين ليست حرية الطغاة ولا الغزاة، وفي مفارقة لافتة نشاهد حسام ابن شقيقه - الذي كان يدرس في إيران وهرب منها بسبب نشاطه الموالي للثورة السورية، يحكي لوالده عبر السكايب، كيف حفظ النشيد الوطني الإيراني عن الحرية، فيسأل ابنه: ماذا تعني الحرية.. فيجيب "أزادي".

يُشعرنا غطفان غنوم، في "قمر في سكايب"، أننا أمام قصص متناثرة، هي واقع الحال لتغريبة متشعبة

السكايب، كما يقول غنوم في أحد اللقاءات معه، فسحة الأمل لتواصل اللاجئين مع أحبابهم، وهي فسحة الأمل نفسها التي كانت للفلسطينيين ذات يوم أثير إذاعة تنقل مشاعر اللاجئين الفلسطينيين وسلاماتهم لأهاليهم في الوطن وبلسان برنامج "رسائل شوق" للمذيعة الراحلة كوثر النشاشيبي على الإذاعة الأردنية، وكان يبدأ بصوت فيروز تغني "جايبلي سلام عصفور الجناين، جايبلي سلام من عند الحناين"، أما القمر فهو "عالم واقعي بعيد"، هو الوطن الذي تتضاءل احتمالات العودة إليه.

اقرأ/ي أيضًا: غطفان غنوم.. متوجًا في "هوليوود للأفلام المستقلة"

ما بين زمني رسائل شوق وقمر في سكايب تمر الحكايات مفرحة وموجعة في آن معا، لكنها لا تشفي جراح الذاكرة، ولا تخفف ألم من يرويها ويوثقها، والسينما "لا يمكنها شفاء أي شيء، يمكنها فقط أن تساعدك على الاستمرار في الحياة" كما يقول المخرج الكمبودي ريثي بان، مخرج الفيلم الوثائقي "الصورة المفقودة"، الذي يحكي فيه عن سيرته وتفاصيل معاناته ومعاناة شعبه تحت حكم الخمير الحمر في بلده.

في "قمر في سكايب" نسمع صوت مذيع أخبار يتحدث عن اعتصامات في أثينا للاجئين سوريين، ونشاهد المخرج يمسح بيده على الشاشة (عدسة الكاميرا) ليخفيها، فالصورة كاملة لا يمكن أن تُختزل في إطار شاشة لا نرى كامل ما يحيط بها، وإنما فيلمه هو محاولة لرواية ما يُمكن من حكايات اللاجئين، ومحاولة بحث عن السينما التي كانت يجب أن تُصنع في الوطن.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "Border Politics".. جوليان برنسايد يحكي محنة اللاجئين المحزنة

فيلم "Born In Syria".. رحلة الهاربين من الجحيم