07-سبتمبر-2020

تمثال بودلير في حدائق لوكسمبورغ في باريس

كيف يمكن لشاعر اختتم مرحلة أدبية وافتتح مرحلة أخرى، ألا يكون مصابًا بالفصام؟ وكيف يمكن لعملٍ شكّل مكمن الشقّ في شخصية هذا الفصامي، أو توّج مرحلة الازدواج الباريسية الرهيبة التي عاشها، ألا يكون مثيرًا لكلّ هذا الجدل العابر للأزمنة؟ أهي مفارقة غير بريئة أن تكون الرومنطيقية، لا الرمزية، هي أولى الحركات التي انبرت للدفاع عن شاعر اللعنة الأبدية شارل بودلير؟

كيف يمكن لشاعر اختتم مرحلة أدبية وافتتح مرحلة أخرى، ألا يكون مصابًا بالفصام؟

الرومنطيقية التي كانت تلفظ أنفاسها في منتصف القرن التاسع عشر، احتاجت على الأرجح إلى بودليرها - مخلّصها، فانتصرت له وأعلنت، على لسان أحد أفضل "جنودها" الشاعر فيكتور هوغو "أن أزهار شرّك تشعّ وتبهر كالنجوم".

اقرأ/ي أيضًا: هل كان بودلير مريضًا بحب أمه؟

يمكن ان نتحدّث اليوم عن كتاب "السحاقيات". فقد كان مقررًا أن يحمل العمل، الذي شكّل صفوة مشوار الشاعر الأدبي والحياتي، هذا العنوان، لولا تدخّل أحد الأصدقاء الذي نصحه بتغييره لأنه "صادم". لكن هذا التغيير لم ينفع كثيرًا مع "عدالة نابوليون الثالث"، كما سخر هوغو ذات رسالة، إذ قرّرت هذه "العدالة" جرّه إلى المحاكمة في المحكمة التأديبية السادسة في باريس، أمام المدعي العام إرنست بينار، الذي سبق له ملاحقة صاحب "مدام بوفاري". كانت الحجة يومذاك "قدح الأخلاق العامة وذمّها" و"قدح الأخلاق الدينية وذمّها". أُدين بودلير وناشره في الأولى، وبُرّئا من الثانية. كانت المحاكمة سريعة، كأسوأ ما يمكن المحاكمة أن تكون. اختار بينار مجموعة من العبارات والصور المجتثّة من سياقها العام، وربط في ما بينها، للبرهان على الإساءة المؤكدة للأخلاق. دفاع المحامي شي ديست - آنج لم يكن لامعًا، إذ واجه في عمله معضلتين: معضلة الدفاع عن متّهم يرفض الخوض في بعض النقاط المرتبطة بحياته الخاصة والعائلية، ومعضلة الحديث بلسان كاتب يفضّل الدفاع عن نفسه وحيدًا. لذا اكتفى المحامي، عمومًا، بالمقارنة بين ما ورد في "أزهار الشر" وما ورد في أعمال أخرى معروفة جدًا، أثارت الكثير من الجدل، من دون أن تصل المسائل إلى حدّ محاكمة كتّابها. على إثر هذه المرافعة، قررت المحكمة أن العمل لا يمسّ الأخلاق الدينية، لكنه يحتوي، في ما يتعلّق بالأخلاق العامة والتقاليد، على مقاطع وعبارات "فاحشة" و"غير أخلاقية". هكذا، تقرر حذف ست قصائد "مسيئة الى الأخلاق"، من بينها: "الجواهر"، "إلى حبيبة مرحة"، "النساء اللعينات"، و"تحوّلات قاتل". وغُرّم بودلير مبلغ 300 فرنك فرنسي، وناشره مبلغ 100 فرنك فرنسي.

إثر ذلك، تلقّى بودلير رسالة من فيكتور هوغو أثنى فيها على "أزهار الشر"، وهنّأه على شرف المثول أمام "عدالة نابوليون الثالث". وإذا كانت المحاكمة قامت على أساس مقال كتبه ج. بوردان في "لو فيغارو" انتقد فيه "لا أخلاقية" أزهار الشر، فإن مقالًا آخر اختتم هذه المحاكمة وأعاد الى بودلير بعض الاعتبار هو مقال هوغو، الذي كتب في العام 1859، وفيه أن العمل يُدخل "قشعريرة جديدة إلى الأدب". بعد ذلك، اضطرّ بودلير إلى كتابة رسالة يرجو فيها الإمبراطورة خفض غرامته إلى خمسين فرنكًا فرنسيًا.

أما الناشر الذي لجأ إلى بلجيكا، بعد الحكم بسجنه لمدة ثلاثة أشهر، فأصدر في العام 1866 ثلاثًا وعشرين قصيدة لبودلير تحت عنوان "الحطام"، من ضمنها القصائد الستّ الممنوعة، ما عرّضه الى المحاكمة مرة أخرى أمام محكمة ليل التأديبية. ولم تظهر النسخة النهائية لـ"أزهار الشر" إلا في العام 1868 واحتوت على 151 قصيدة، وخلت من القصائد الستّ الممنوعة، التي طُبعت في ما بعد مع مختارات من "حطام" في بروكسيل في العام 1869.

شكّلت كلمتا "أزهار" البالغة الرومنطيقية و"الشرّ" الصادمة عنوانًا عريضًا انضوت حياة بودلير بكاملها تحت لوائه

بالعودة إلى العنوان، شكّلت كلمتا "أزهار" البالغة الرومنطيقية و"الشرّ" الصادمة عنوانًا عريضًا انضوت حياة بودلير بكاملها تحت لوائه. من حيث إنهما عبّرتا خير تعبير عن مذهب بودلير الجمالي: إذا كان الرومنطيقيون أثاروا تيمة الطبيعة، ممجّدين الألم في أعمالهم، فإن الشّاعر المجدّد عامل الطبيعة في وصفها قبيحةً من حيث التعريف، ومن حيث الجمال في وصفه مجرّدًا، وبالتالي، اصطناعيًا ودخيلًا على هذه الطبيعة ("وأرى الربيع والخضرة يُشعران قلبي بالذلّة"). في هذا المعنى يكون بودلير ناقض الطبيعة - مصدر الجمال في المعنى الرومنطيقي، ليضع تعريف الطبيعة - مصدر القبح والانحلال في المعنى الرمزي. لكنه بحسب رأي بعض النقّاد، احتفظ بلوثته الرومنطيقية من حيث تمجيده الألم هو أيضًا ("الألم هو المجد الوحيد الذي لا تأكله النار")، كما احتفظ بمخزون دينيّ هائل وظّفه بطريقة معكوسة، في معنى التنبّؤ بهزيمة "العفاف" الديني أمام الجمال ذي الطبيعة المثيرة والمغوية، والتي تستطيع جرّ الكائن البشري نحو "الخطيئة" المحمّلة هنا ثقلها الديني كلّه.

اقرأ/ي أيضًا: بودلير.. روائح أزهار الشرّ

يتألف العمل من ستة أقسام: "سوداوية وكمال"، "لوحات باريسية"، "الخمر"، "أزهار الشر"، "ثورة"، و"الموت". ويمثّل هذا التقسيم رحلة بودلير وبحثه الدائم عن معنى لحياته. إذ يعرض في القسم الأول مفهوم العالم الواقعي كما يراه، في حين يحاول في الأقسام الثلاثة التالية فهم السوداوية، من أجل بلوغ مرحلة الكمال. وهو يغامر في فتح كوّة للنهاية من خلال المخدرات (الخمر) والغرق في الملذات الجسدية حتى الثمالة. ثم يحاول بعد ذلك أن يغرق في جموع باريس غير المتجانسة سعيًا إلى نوع من أنواع الجمال (لوحات باريسية)، قبل أن يعود إلى الجنس والملذات الجسدية "أزهار الشرّ".

وبعد سلسلة الإخفاقات التي مُني بها، تأتي ثورته العاصفة على الوجود واللامعقول، هذه الثورة التي تتحوّل عبثية، فتقوده في النهاية إلى الموت. في عمله هذا، الذي ألهم شعراء كثرًا من بعده، مثل آرتور رامبو وستيفان مالارميه، لعب بودلير على الاستعارات أفقيًا وعموديًا، وشيّد قصائده بكاملها حول سيرورة أخلاقية، روحية وفيزيائية.

يعتبر الناقد بور في مقدمته عن بودلير و"أزهار الشرّ" التي رفعها إلى الأكاديمية الفرنسية، أن بودلير ظلّ غريبًا عن الأدب الأوروبي حتى جاء أشخاص مثل آرثر سيمونس وجورج مور ونقلوا "أزهار الشر"، إضافة إلى أعمال فيرلين ورامبو إلى الإنجليزية، ما شغل الأوساط الثقافية الإنجليزية طويلًا، بعدما جذبها فجور بودلير وتهتّكه أكثر من قيمته الأدبية.

اليوم، بعد قرن ونصف قرن، ماذا بقي في "أزهار الشر": بودلير الماجن أم بودلير الشاعر؟ في الواقع لا يمكن للعاقل الفصل بين الاثنين. قامت حياة الشّاعر على مجموعة من الأضداد والثنائيات، كالفجور والتبتّل، اللذة والألم. وعلى الرغم من أنّه أضنى نفسه في تفحّص أعمال القلب البشريّ، فإنّه لم يكن مازوشيًا عابدًا لفشله.

قد تكون قصيدة "النّساء اللعينات" أفضل قصائد "أزهار الشر" تجسيدًا لنفسه المتنازعة ما بين حب الفضيلة والميل الذي لا يُقاوَم إلى الرذيلة

للبحث عن أصل الصّدع لا بد من العودة إلى البداية: بودلير ابن عائلة مؤلفة من أم شابة جميلة وأب شيخ عاشق للفن. شاب يجسّد "عقدة أوديب" على أكمل وجه: يتمرّغ في حرير أثواب والدته، ويتلذذ بعطورها، وينعم بحبّها اللّامحدود له. يصاب بطعنة القدر الأولى، بعد موت والده الذي لم يكن منافسًا له بسبب تقدّمه في السن، وزواج والدته للمرّة الثّانية من الكومندان أوبيك. تاريخ زواج والدته سيكون إذًا تاريخ انفجار أحاسيسه المحرّمة كلها، الأحاسيس التي ستغشي بصره كيفما نظر، وتلطّخ رومنطيقيته وإيمانه الدينيّ إلى الأبد. هذه الأحاسيس وجدت تجلّيها الأول في ميله الدائم إلى كل ما هو ممنوع: في المدرسة ذات النظام الصّارم أهمل دروسه، وراح يقرأ أعمال مثل "الرغبة الجامحة" لسانت بوف. ثم تطوّرت لتصبح نمط حياة كامل عاشه في باريس، حيث انغمس في حبّ جنسيّ متوحّش مع فتاة زنجيّة تدعى جان دوفال، معاقبًا نفسه في الوقت عينه، عبر تعذيبها في حب عذريّ مع ماري دوبرين ومدام ساباتييه، وقد تكون قصيدة "النّساء اللعينات" أفضل قصائد "أزهار الشر" تجسيدًا لنفسه المتنازعة ما بين حب الفضيلة والميل الذي لا يُقاوَم إلى الرذيلة. في هذا المعنى فإنّ تحفة "أزهار الشّر" هو الجنين الوهمي للحبّ المحرّم بين بودلير ووالدته. الأزهار ليست أزهارًا للشرّ، بمعنى تسويد الصورة الرومنطيقية، قدر كونها بنات أوديب الشرعيّات. البنات اللّقيطات لبودلير، "الرّجل الشقي الذي أصابته عين القدر".

اقرأ/ي أيضًا: مختارات من "كحول" غيوم أبولينير

يظهر في قصائد عدّة من الكتاب، أن بودلير كان على بيّنة من العلاقة الوثيقة التي تجمع الموت باللّذة، والجمال بالفناء. لذا تناول الأضداد كما لو أنّها مترادفات، في قصيدته شكوى مثلًا، حيث يقول: "إن الجمال يحرق كلّ مدعٍ/ ويحرّم عليَّ الشهرة التي أبتغيها بعد الموت/ أن ينقش اسمي على الهاوية المسمّاة قبري". ليصف، في مكان آخر، تنقيبه عن أجوبة في وجوه البشر ناقلًا خيبته بالقول: "لماذا ينظرون إلى السماء/ كل هؤلاء العميان".

"أزهار الشر" الكتاب الذي وصل إلى قرّاء العربية عن طريق ترجمات عدّة كان تجسيدًا للجمال كما رآه بودلير بنفسه. "وماذا يهمّ أجاء من الجنة أم من الجحيم؟".

 

اقرأ/ي أيضًا:

 ذكريات ميغيل دي أونامونو.. حوار مع الذات

استعادة "حكاية أزرق" لمولبوا: عن الشّعر الطّالع من الفظاظة