09-مايو-2023
غرافيتي في بيروت-فن الشارع في بيروت

غرافيتي في بيروت

يظهر في لبنان، عند كل منعطف، بعض الناشطين الذين يسطّحون العمل السياسي عبر الركون إلى أقل المواقف خطورة وإشكالية، وأكثرها راحةً وأمانًا. فيعلنون أنهم يقفون إلى جانب المدنيين العزّل غير المسيّسين، في هذه أو تلك من المواجهات والمناوشات الكثيرة التي تجري في لبنان. إنهم الناشطون "التسطيحيون الوسطيون"، "المدنيون" من "غير السياسيين". وهم بهدف التضامن وتحقيق الموقف الأقل خطورة وحدّية في السياسة، وبهدف البقاء على الهامش ذاته الذي يسمح لهم اللعب بالموقف السياسي، وبالتالي التهرّب من الخسائر جرّاء إعلان موقفٍ واضحٍ وتموضعٍ بيّن، يجهدون في عملية انتاج مدنيين متَخيَلين من خارج المكان والزمان، مدنيين بلا أي رائحة ولا طعم ولا لون ولا علاقة لهم بأي إشكال سياسي أو أي مواجهة مسلحة في شارع. يقف هؤلاء الناشطون ومن دون سابق إنذار، في أكثر المنعطفات تجريدًا ولا تاريخية، يتموضعون إلى جانب "أُناس" منهمكين في حياتهم اليومية: أستاذ أو حاجب المدرسة، صاحب الدكان، موظف توصيل، الناس المشاة العابرين في الطريق، سائق سيارة الأجرة.. إلخ، بوصفهم هؤلاء غير متعينين، بوصفهم أشخاصًا بلا ملامح، بلا رغبات، ولا أسماء، ولا أي رأي سياسي.. إلخ.

إن تعليب الناس بشكل يصادِر رأيهم السياسي، يستبعد حيثيتهم الممتدة في جغرافيا سياسية لبنانية معينة، ويجرّد كينونتهم المتواجدة في زمان محدد له منطقه، ويصادر حق تلك الكينونة المغروسة في مكان ممتد له حدود وأبعاد

ينبني هذا التجريد على هروب، ليس ﻷن "المدنيين" لا يحتاجون إلى دعم، بل ﻷنه لا وجود لمدنيين دون أي انحياز أو رأي أو انتماء أيديولوجي. إن تعليب الناس بشكل يصادِر رأيهم السياسي، يستبعد حيثيتهم الممتدة في جغرافيا سياسية لبنانية معينة، ويجرّد كينونتهم المتواجدة في زمان محدد له منطقه، ويصادر حق تلك الكينونة المغروسة في مكان ممتد له حدود وأبعاد، وله سردية و"هوية" سياسية واجتماعية مهيمِنة. فليس هناك من "مدنيين حاف" (كالخبز الحاف، أي مجرد الخبز من دون أي طعام فيه أو معه) يلجأ الناشطون إليهم ليريحوا ضمائرهم في إعلان موقف سياسي لا يرتقي إلى مستوى الموقف، كله بهدف تسجيل موقف بأقل الأثمان السياسية الممكنة. والرد البسيط على هذا الخطاب هو أنه لا مناص من حقيقة أن الأشخاص ينوجدون في لحظة تاريخية ما، في مسرح سياسي معيّن، ضمن صراع، يحملون إرثًا وثقافةً ما، وينتمون إلى فكرة وطائفة وإلى تصور وأيديولوجيا، وحتمًا إلى موقف سياسي. هم مدنيون بموقف سياسي، يمكن أن يكون مع طرف سلطوي، أو يمكن أن يجيّر لصالح من يرفضون كل ما هو قائم في السلطة أو من خارج بنيتها ومخيالها. هذا لا ينسف حقهم بالتضامن معهم. فالمدنيون هم أناس يمارسون حقهم بالانحياز السياسي أيضًا، دون كل محاولات تجريدهم وتعليبهم التي تحاول الايحاء بأنهم مجموعة بشرية على هامش السياسة والاجتماع، على هامش الصراع، لكي يسهل هضمهم ويسهل توظيفهم في هذا أو ذاك من الهوامش الأيديولوجيّة، وفي الصراعات، ليس بهدف حمايتهم، بل بهدف زجّهم في خطاب ليس لهم، زجّهم في مظلومية يمكن استخدامها لكي تكون أرنبًا يظهر من القبعة عند الحاجة والضرورة.

هذا التجريد للناس من الموقف، لا يمكن توصيفه إلا بأنه محاولة التفاف على التفكير، ومحاولة مصادرة لفعل التضامن ذاته. فهو موقف سياسي غير معلن وغير محدد، موقف سياسي يستبعد السياسة، سواء بشكله الليبرالي أو الجوهراني، موقف يلبس لبوس اليقين ويركن إلى المطلق خارج التاريخ وخارج الواقع، لأنه لا يبغي إلا الراحة، فيبحث عن المطلق وعن الراحة في أبعد نقطة متخيَلة عن السياسة وعن الحراك الاجتماعي.

هو موقف فوق سياسي في لحظة توتر وحراجة سياسية، ويُترجَم بأنه استقالة وهروب لحظة توزيع المسؤوليات. إنه بالأحرى، موقف من لا موقف لهم، ليس بمعنى أنه خاطئ بالضرورة، بل لأنه يريد أن يبتعد عن أي مواجهة، ويريد أن يرضي الأطراف المهيمنة بالوطء والعبث خارج "مستعمارتهم". إنه موقف اللاموقف، وهذا اللاموقف يخدم ويصب في صالح السلطة وهيمنتها.

نقول هذا ﻷن لا وجود لمواجهة سياسية/ أيديولوجية/ عسكرية من هذا النوع المتخارج عن التاريخ، وعن قواعد الصراع. ليس هناك من لحظة سياسية فيها تساوٍ مطلق في المسؤولية، وإن بين قوى نظام واحد، أو بين دول بأنظمة مختلفة. بل هناك دائمًا من يعتدي ومن يتلقى الاعتداء فيمارس حقه بالدفاع عن النفس. هناك من هو أقرب إلى "براءة" واقعية ما. هناك من أخطأ، وفي مقابله يوجد من يدفع هذا الخطأ بعيدًا عنه. بالمحصلة، يوجد على الدوام من يتحمل مسؤولية أكبر، من يمكن أن يُلام أو أن يواجَه بوصفه نقطة ارتكاز لحظة تسلطية تعيق تطور المجتمع والأفراد. لا يمكن الوقوف على مسافة واحدة من هؤلاء وفقًا لتعدد قوى السلطة، إلا إن كان الموقف استكمالًا لخلفية رتيبة ومملة في مشهد سياسي تجري تفاصيله ومحدداته في مكان آخر. وفي تلك اللحظة، يمكن وصف الموقف بأنه لزوم ما لا يلزم، مجرد ارتضاء على الانسحاب من وحل الواقع الذي هو مجال النشاطية السياسية.

فمن يريد أن يخوض مواجهة سياسية لا يمعن في وضع نفسه خارج مجال حسابات الخسارة والربح، خارج المغامرة، وخارج إمكان الفعل القائم على دراسة علاقات القوّة في نظام سياسي آخذ في الانهيار لدرجة انكشاف وتعرّي قطبيته السياسية. ليس هناك من تساوٍ بين أطراف سياسية في نظام سياسي، هذا محض تخيّل ووهم نفعي تعتمده الطبقات الوسطى. ﻷن مطلق نظام فيه من علاقات القوة ما فيه، ورفضه بهدف إسقاطه لا يعني إلا اللعب على علاقات القوة تلك بهدف القضاء على الطرف الأقوى فيها، الطرف الذي يُعدّ بمثابة نقطة ارتكاز النظام وقواه. هذا إن كنا نريد فعلًا أن نقفز خارج شروط القائم، تجاه متخيّل وسردية تقوم على بعض العدالة المنقوصة.

هذا الموقف التوصيفي الجوهراني والرافض لكل الشروط التاريخية، أي محاولة البحث عن "مدنيين مجردين"، هو الذي تمارسه جماعات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية في لبنان، تمامًا كما تمارسه أحزاب التغيير وأحزاب السلطة، كلها وفقًا لأهداف أيديولوجيّة وحسابات سياسية ومصلحية. هو موقف أيديولوجي وسطوي يخدم السلطة وقوى الأمر الواقع، يخدم ويغذّي القابضين على طوائفهم في لبنان، وبالمحصلة يخدم الأحزاب الطائفية التي ترمز إلى المتفلتين من قبضتها بوصفهم مدنيين لا انحياز سياسي لهم، ولا هوية سياسية قائمة بذاتها متخارجة ورافضة لسلطتهم ولهيمنتهم من داخل طوائفهم، أي من كماشة تسلطهم. فبالنسبة للسلطة في لبنان، وبالنسبة لأحزابها الطائفية الميليشياوية، كل من في الطائفة إما معهم بوصفهم طرفًا مسيطرًا، وإما هم خارج السياسة؛ مجرد مدنيين لا علاقة لهم بكل ما يجري.