06-مارس-2023
أنطونيو رودريغيز

كاريكاتير لـ أنطونيو رودريغيز/ المكسيك

لم أعد أريد لأطفالي أن يعيشوا في كنف أولاد الزعماء إياهم. بهكذا جملة بسيطة يمكن اختصار المشهد بأكمله. فبعد عقود وعقود من حكم العائلات التقليدية، وتلك الجديدة، على "الساحة" اللبنانية وفي نظامها الطائفي. وبعد عقود من إعادة إنتاج الأزمات ذاتها، جرّاء الذهنية التي تحملها السلطة وتدير لا بل تستبيح الدولة بها.

يمكن القول إن المواطن اللبناني، وبكل ثقة، لم يعد يريد أن يحكم أولاده ومستقبلهم ما حكم أهله، وأهل أهله، وما حكمه هو شخصيًا، وأوصل البلد، بأشكال متكررة، إلى ما وصل إليه من انهيار وتحلل. لم يعد من الممكن القبول بالخنوع، ولا بالطموحات الشخصية التي تحوّل كل شيء إلى إمكانية للاسترزاق، سواء في المناصب، أم في المال، أم في أي وضعية يمكن أن تشكّل قيمة ولو مزيفة. فهذا، وبكل بساطة، السبب الأول الذي يمكن أن يتسلح به اللبنانيون فيُستكمل بالوصول إلى قرار الهجرة.

يمكن القول إن المواطن اللبناني، وبكل ثقة، لم يعد يريد أن يحكم أولاده ومستقبلهم ما حكم أهله، وأهل أهله، وما حكمه هو شخصيًا، وأوصل البلد، بأشكال متكررة، إلى ما وصل إليه من انهيار وتحلل

تتخطى التقديرات الأولية لعدّاد المهاجرين اللبنانيين المئة ألف لبناني ولبنانية في السنتين الأخيرتين، حتى كانون أول 2022، وفق "الدولية للمعلومات". علمًا أن جوازات سفر اللبنانيين كانت مصادرة بشكل من الأشكال من الأمن العام في هذه الآونة، حين تم فرض آلية ما للاستحصال عليها، بما يخالف أبسط شروط حرية المواطن اللبناني في التنقّل. فكان الأمر شبيهًا بالمعتقل، كما كان له تداعيات كثيرة لناحية خسارة بعض اللبنانيين واللبنانيات فرص عمل كثيرة في غير دولة عربية وغربية.

كما أن مجموع الأوهام التي كانت متمحورة حول إمكانية معالجة الانهيار، والتي كانت تتخطى في كثافتها ونوعيتها ما ينتشر الآن، بدأت بالتضاؤل والانحسار مخلفة ازديادًا مضطردًا في أعداد الساعين إلى الهجرة. لقد بدأ يتزايد شعور الناس بالمأزق الذي يعيشون فيه، ويزداد الشعور باستحالة أي علاج في القريب العاجل، ما يعيد خلط أوراق الهجرة من جديد في رؤوس أولئك الذي كانوا يستبعدونها كخيار ضروري وعاجل ولا بد منه.

وأمر الهجرة ليس متعلقًا بالمال أو بالعمل أو بالسكن فحسب، بل تخطى ذلك ليرتبط بشرط الشروط الإنسانية الأولى، أي البقاء. بالإضافة إلى ما يرتبط بمشاعر الخوف والذعر الناتجة عن فقدان الأمان والاستقرار. فمع ازدياد حالة الانهيار، ومع تجذرها، يزداد الشعور بالخوف على الحياة، والخوف على السلامة الشخصية، وازدياد منسوب القلق، وتدهور الشعور بالطمأنينة. لقد ازدادت نسب حالات الانتحار، وازدادت واتسعت رقعة وحدّة الجرائم وتنوع آلياتها، من حالات إطلاق النار، إلى عمليات السلب، وانتشار المخدرات.. إلخ. وقد تكثّف كل ذلك حين تكشّف خطرًا من نوع جديد، هو الخطر على مستقبل الأولاد الناجم عن بقائهم في المنازل بسبب الإضرابات المستمرة والممتدة في القطاعات بمجملها، وعلى رأسها القطاع التعليمي.

كل هذا دون أن تحرك الطبقة الحاكمة ساكنًا لمعالجة الأزمات الداهمة التي يعيشها اللبنانيون، ولم تشعرها بأي حرج. فما زال الفراغ في الاستحقاقات الدستورية سيد الموقف. ما زالت عمليات الابتزاز، والاستغلال، وأخذ الناس ومصيرهم ومستقبلهم رهائن بهدف تحقيق انتصار هنا أو هناك؛ تسجيل وزير ونائب بالزائد أو بالناقص، الفوز بمنصب رئيس الجمهورية من قبل هذا الطرف أو ذاك. إن الوضع الاجتماعي والاقتصادي والمالي يتفاقم، والمسؤولون لا علاقة لهم بأدنى مشاكل الناس، بل يستغلونها بأبخس الأثمان ولو حولوا الجميع إلى مجموعات ميليشيوية يستخدمونها ويضغطون بها بهذا الشكل أو بذاك.

في ظل الانسداد الذي يعيشونه، وبسبب كل ما ذكر أعلاه، لم يعد أمام اللبنانيين إلا استعادة طريق الهجرة. فبعضهم يرحل بشكل قانوني، وبعضهم يخاطر بحياته في البحر ومن دون أدنى شروط السلامة، ما ينتج الكثير من حالات الغرق ومآسيها، خصوصًا بين صفوف أولئك الذين يهاجرون من منطقة الشمال بعد أن سُدّت أمامهم كل إمكانات العيش، فبات الموت في البحر خلال محاولة الهرب من الجحيم الذي يعيشونه أفضل من البقاء والموت في لبنان.

هذه الأنواع من المعادلات بدأت تهيمن في لبنان، بعد استفحال الأزمة. المفاضلة بين الموت دون محاولة النجاة، أم الموت بانتظار اللاشيء؟ وغيرها الكثير من الأسئلة التي لم تتبادر إلى أذهان اللبنانيين منذ مدة طويلة، عادت لتبدأ اليوم، خصوصًا وأن عدّاد الهجرة لم يسجل أرقامًا مرتفعة للمرة الأولى في تاريخ لبنان، بل لطالما كان على هذا النحو، منذ الحرب العالمية الأولى والمجاعة التي رافقتها واضطرت اللبنانيين إلى الهجرة باتجاه كل اصقاع الأرض، ولاحقًا مع الحرب الأهلية وهجرة اللبنانيين إلى الخارج برًا وبحرًا وجوًا. منهم من رحل مخلفًا عائلته خلفه، في هجرة جزئية بهدف العمل، ومنهم العائلات التي رحلت بأكملها وتركت خلفها كل ما يمت إلى هذا البلد بِصلة.

السلطة اللبنانية لم تشجع، في أي يوم من الأيام، اللبنانيين على البقاء في أرضهم. بل لطالما شجع النموذج الاقتصادي السائد اللبنانيين على الرحيل عن لبنان في عز عطائهم، والعودة لاحقًا بعد أن يجمعوا ثروة

ناهيك عن أن السلطة اللبنانية لم تشجع، في أي يوم من الأيام، اللبنانيين على البقاء في أرضهم. بل لطالما شجع النموذج الاقتصادي السائد اللبنانيين على الرحيل عن لبنان في عز عطائهم، والعودة لاحقًا بعد أن يجمعوا ثروة تخوّلهم إنشاء مؤسسة خاصة تعمل في البلد، تحقق الأرباح وتشغّل غيرهم من الطبقة العاملة، سواء اللبنانية أم غيرها. لذلك، لم تكن الهجرة يومًا مطلبًا آنيًا، بل لطالما عالجت السلطات المتعاقبة أزماتها على وقود الهجرة، وبابها، إذ تخلّصت، وبشكل مضطر، من اللبنانيين الذي يشكلون عائقًا في دربها، عائقًا لا تستطيع توظيفه في الإدارات العامة ووظائف الدولة ومؤسساتها التي تستبيحها، وقبل أن تشكّل حركة معطلين عن العمل تنشط في وجه الزمرة الحاكمة، ويمكن أن تشكّل حركة ضاغطة ضدها.

من هذا المنطلق يمكن النظر إلى الهجرة، وإلى المأساة الناجمة عنها في هذا البلد. فهي ليست سوى انسلاخ تعيشه العائلات فيفصل بينها ليس مكانيًا فحسب، بل زمنيًا، وروحيًا، ونفسيًا، وتاريخيًا أيضًا. يفصل بينها على مستوى الوعي، على الرغم من توثيق الرباط العاطفي بأشكال مختلفة في البداية. إلا أن اللافت هو أن أمر الهجرة لم يعد يعني للبنانيين حالة مؤقتة، بقدر ما أصبح تحولًا في الانتماء، خصوصًا وأن الهجرة اليوم تأتي على وقع انهيار وحيد من نوعه، يطال مؤسسات الدولة وأجهزتها وقطاعاتها بأكملها، ويطال المجتمع والمنظمات القيمية والأخلاقية. هو انهيار على وقع أزمات طبقية تزداد حدّة مع مرور الأيام، وتزداد تغوّلًا أيضًا.

كل هذه الأسباب، وتكرارها المستمر، لم تترك مجالًا أمام اللبنانيين إلا التفكير بالانفصال التام عن لبنان دون التفكير بالعودة، خصوصًا وأن سياق الأمور يذهب باتجاه عدم وجود أي إمكانية للحل، وإن بشكل متأخر، إلا عبر القوى ذاتها التي كانت سببًا للانهيار، وبالتالي الذهنية ذاتها التي استباحت الدولة وخاطرت وحاربت بمستقبل الناس ومستقبل أبنائهم وطموحاتهم. لذلك، من غير المستهجن أن يبحث اللبنانيون القادرون على الخروج من هذا المأزق إلا عن دولة تؤمن لهم أبسط وأوفر وأكثر شروط العيش أمانًا، بعد كل تلك المأساة التي عاشوها ويعيشونها في بلاده منذ عقود. فبعد كل ما جرى ويجري، يبدو أن اللبنانيين قد بدأوا بالاقتناع بأن الوطن ليس مكان الولادة وعيش الأهل، بل هو المكان الذي يعيشون حاضرهم ومستقبلهم بكرامة فيه، ويطمئنون إلى مستقبل أولادهم.