07-نوفمبر-2022
mainstream

من الفيلم

انتقاد السوشيال ميديا عبر السوشيال ميديا، وانتقاد التكنولوجيا بوسائط تكنولوجية، وانتقاد التريند بتريند مقابل، وبالتالي فإن عكس التريند هو تريند في حد ذاته.. تلك هي المسائل التي يطرحها فيلم "Mainstream" لمخرجته جيا كوبولا، حفيدة المخرج الأمريكي فرانسيس فورد كوبولا.

هي دوامة إذًا، وهي دوامة في بحار لا قبل لنا في مجابهتها أو الخلاص منها. إنها بمثابة الحاضنة التي بتنا نعيش في داخلها. الفكاك منها بالكامل مستحيل، لذا يجب التعامل معها، وبذلك التعامل مع روح العصر لأنها هي روح العصر وعصارته، وعبثًا تأتي محاولات التصدي لروح العصر المتمثلة بالتكنولوجيا الحديثة والإنترنت وانفجار الذكاء الاصطناعي من كل حدب وصوب.

انتقاد السوشيال ميديا عبر السوشيال ميديا، وانتقاد التكنولوجيا بوسائط تكنولوجية، وانتقاد التريند بتريند مقابل، وبالتالي فإن عكس التريند هو تريند في حد ذاته

الفيلم من بطولة أندرو غارفيلد (لينك) ونات وولف (جايك) ومايا هاوك (فرانكي) وهي ابنة الممثلة إيما تورمان والممثل إيثان هاوك. صدر الفيلم عام 2020 ومدته 96 دقيقة. القصة من تأليف جيا كوبولا وشارك في كتابة السيناريو معها توم ستيوارت.

قصة الفيلم

يحكي الفيلم قصة صعود الشاب لينك إلى موقع الشهرة على يوتيوب وعبر وسائط السوشيال ميديا، وحصده ملايين المعجبين بسبب المحتوى الفريد والمميز الذي قام بتقديمه. تكتشف موهبته، عن طريق الصدفة، فتاة تعمل كنادلة ولديها شغف بتصوير أفلام الفيديو. تقوم بتحميل فيديو عفوي للشاب لينك، وهو شخص ذو نزعة بوهيمية مجنونة. وسرعان ما يصبح لينك مدار إعجاب كثيرين ويبدأ بتقديم برنامج مخصص على قناة يوتيوب بعدما تكفله أحد المنتجين الراغبين في الاستثمار به كونه استثمارًا رابحًا.

وما يبدو في بداياته بكونه عملًا نبيلًا يهدف إلى توعية الناس من مخاطر الإنترنت، سرعان ما يتحول إلى بقرة حلوب تستدر المال بعد جذب المنتجين والمعلنين وتوجيههم للمحتوى وفق "ما يطلبه الجمهور"، مما يحول المحتوى الأساسي المميز إلى محتوى "رائج" كما بقية المحتويات الأخرى. فالرواج هو الهدف حتى لو كان هذا الهدف يتناقض مع أبسط المعايير الأخلاقية والحقوقية والإنسانية.

الجمهور يتحمل جزءًا من المسؤولية!

ليست المقاربة بجديدة، وقد عُلكت كثيرًا وأشبعت نقاشًا وقيل حولها الكثير. لكن هل هذا ما تريد مخرجة الفيلم وكاتبته قوله فقط؟ نعرف ونسمع كثيرًا أن الهاتف يمكن أن يتحول إلى رصاصة، وبأن السوشيال ميديا يمكن أن تكون قاتلة. هذه أمور أدركناها منذ زمن ويعرفها القاصي والداني.

هناك أداء تمثيلي جذاب من أندرو غارفيلد، بطل سبايدرمان. أداء مشحون بالطاقة والزخم مما حمل الفيلم برمته، ولولاه لكنا أمام عمل أقل من عادي، سيما وأن صناع الفيلم أهملوا بقية الشخصيات على حساب إظهار شخصية البطل المدعو "لينك". في المقابل، فإننا لا نعرف من هي بقية الشخصيات، لا تاريخهم ولا أي نبذة تشير إلى من هم هؤلاء وما الذي يحركهم في القصة، وكل ما نراه شخصيات مركبة بشكل سطحي. المنتج وكأي منتج يريد زيادة المشاهدات، الفتاة التي تسعى خلف أحلامها وتبحث عن الحب (لكن لا نعرف أي شيء أخر عنها) والشاب العاشق الولهان المتستر على غرامه.

تبدو ثيمة الحب في الفيلم وكأنها حشرت حشرًا للإشارة إلى أن الحب موجود في الواقع وليس في العالم الافتراضي. لكن جميعنا بتنا نعلم أن العالم الافتراضي يمكن أن يحمل عاطفة ويمكن أن يكون حاضنة للحب والزواج والسعادة والعلاقات الغرامية. هذه بديهيات اكتشفناها قبل عشر سنوات وأكثر، واكتشفنا كذلك أن الإنترنت ليس كله مساوئ كما صوّره لنا أساتذتنا في المدرسة، وكذلك فالهاتف ليس خطيرًا على الأطفال بالمطلق، وليس مليئًا بالسلبيات بنسبة مئة في المئة. المسألة لا تقاس وفق ثنائية مع/ضد أو معيار الخير والشر أو الأبيض والأسود والجيد والسيئ. المسائل نسبية هنا.

يظهرنا الفيلم وكأننا أطفال مسلوبي الإرادة، لكأننا بشر تافهون وأفراد مجردون من حرية الاختيار التي سلبتنا إياها السوشيال ميديا والإنفلونسرز ورجال الإعلام والسليبريتيز! لكن هذا ليس صحيحًا. فهناك إرادة وهناك حرية اختيار وهناك اتخاذ قرارت لدى الجمهور، حتى حين تختار هذه الإرادة اختيارات سلبية.

عبادة القوة

غير أن الفيلم يحمل محتوى كامنًا أكثر عمقًا يضاف إلى المحتوى الظاهر الذي يطرحه ببديهية. أحيانًا يكون المحتوى الظاهر للفيلم مختلفًا كليًا عن المحتوى الكامن، ويطرح صناع الفيلم قالبًا ومسارًا ووسائل بغية الوصول إلى غايات أخرى. في الفيلم هنا تضع كوبولا مسألة السوشيال ميديا كوعاء خارجي، بينما توجه نقدها في العمق للجمهور المسؤول الأول والأخير عن صناعة هذه الشخصيات المستبدة النرجسية والمضطربة.

يقدم فيلم "Mainstream" تفكيرًا في العلاقة بين الجمهور والشخصيات الدكتاتورية بأنواعها المختلفة التي تحتل المنصات والشاشات والتطبيقات كافة، أو في العلاقة السادية والمازوتشية القائمة بين المستبد والجمهور

يمكن القول بأن الفيلم بمثابة حالة تفكر في العلاقة بين الجمهور والشخصيات الدكتاتورية بأنواعها المختلفة التي تحتل المنصات والشاشات والتطبيقات كافة، أو إن صح التعبير، في العلاقة السادية والمازوتشية القائمة بين المستبد والجمهور. وكذلك تفكر تساؤلي أيضًا في الأسباب التي تدفع الجمهور لعبادة القوة وتمجيد من يهينها ومن يشعرها بالإذلال وبمن يملك مواصفات الألوهة والشيطان في آن معًا.

هذه الرغبة لدى الجمهور وهذا التعطش لتأييد القوي والسلطوي هي الفكرة التي تثيرها كوبولا. فحتى فرانكي حبيبة لينك فإنها تستمر في علاقتها معه حتى بعد اكتشافها لكذبه وفعلته الشنيعة مع الفتاة حين أجبرها على الضغط على الزر وكشف عاهتها أمام المشاهدين.

وما يشفع للفيلم هو مشهده الأخير المكثف والذي يمكن أن نستشف من خلاله الفكرة الكامنة التي جعلت من الفيلم حاملًا لمغزى محفز للتفكر إلى حد ما. فالمشهد الأخير وهو برمته عبارة عن رقصة وخطاب يلقيه البطل على المسرح. رقصة وخطاب حملا جمالية بصرية شعورية وفكرية. فمن الناحية الفكرية اجتمعت زبدة الفيلم في مشهده الأخير حيث نشهد جنون العظمة عند البطل وهي صفة من صفات كثير من الحكام والزعماء وشيوخ القبيلة وشيوخ العشيرة والرؤساء والملوك ألخ.. في مقابل خضوع وخنوع العوام للقوة وامتثالهم للقوي وهتافهم له. وهذا ما يدفعنا للتساؤل حيال سيكولوجية الجماهير وما يحركها ويحفزها في تأييدها للقوي والقوة.

وعلى نحو لافت، نجد لينك إبان خطابه الأخير، وكما كان معدًا سلفًا من قبل المنتج، يريد أن يلقي تحية إلى الفتاة المنتحرة إيزابيل روبرتس، ويريد أن يعبر عن أسفه وحزنه لموتها. ولكن تخونه شخصيته المضطربة عن فعل ذلك، وبدلًا من الالتزام بما هو مقرر سلفًا، يقوم بتغيير نبرة خطابه الحزينة الأسفة، واستبدالها بنبرة استعلائية هجومية رافضًا تحميل نفسه المسؤولية عن انتحار الفتاة، وقاذفًا بالتهم على الآخرين، ومحملًا إياهم المسؤولية عما جرى. ومن ضمن المسؤولين عن الجريمة يشير إلى الجمهور، وبدلًا من استنكار خطابه من قبل هذا الجمهور، نجدهم يصفقون له بحماسة، ونجده قد أيقن السر وفهم اللعبة وعرف مفاتيح العامة من الناس لمن أراد اقتيادهم وراءه.

يظهر البطل في المشهد الأخير بزي مصاص الدماء، يلبس بذلة بيضاء، وفوقها يضع معطفًا أسود. حركات يديه وملامح وجهه العنجهي وكوريوغرافي الرقصة، ومع ما يرافقه من موسيقى أوبرالية وخلفية لسماء مليئة بالغيوم والبرق والرعد.. كلها تشي بكونه ملكًا في حفل تنصيب فرعوني. إنه تنصيب إلهي للحاكم والدكتاتور والملك والمستبد.

إذًا نحن إزاء شخصية مضطربة من الناحية النفسية بجنون العظمة، ونحن بصدد جماهير غفيرة تستلذ بالألم من قبل جلادها، جماهير لديها نزعة للانقياد وراء القوة والسلطة. جاهير بحاجة إلى شخص "لا استثنائي" للسير خلفه والتماهي به. شخص يحمل المتناقضات تمامًا كما يحملها أليكس أو لينك، الشخصية الرئيسية في الفيلم. شخص لطيف وقاس معًا. شخص محبوب ومخيف في آن واحد، تمامًا كما هي الصفات التي طرحها ماكيافيللي والتي يجب أن تتوافر في الأمير: الحب والخوف من قبل الناس معًا (نشير هنا إلى أن الفتاة المنتحرة هي نفسها من قامت بعناق لينك في المقبرة في وقت سابق) مما يشير إلى أنها معجبة ومتابعة لنجوميته ومتأثرة به، وفي ذات الوقت، تهابه، حيث إنها لم تستطع رفض أوامره التي كان يمليها عليها إبان تصوير البرنامج فخضعت لابتزازه). وربما لو جاء تعبير البطل صادقًا عن أسفه وحزنه وتحمل مسؤوليته عن انتحار الفتاة، لربما لم يكن ليحظى بالحفاوة التي حظي بها من الجماهير.