08-سبتمبر-2022
اغنية القلوب-فيلم تركي

من الفيلم

تقول إحدى قصائد الكتاب الخالد "أغاني الغجر" الذي جمعه هانزيكون فويكت:

صباح الخير أيتها الجميلةْ

من أجل نظرةٍ منكِ

ألفُ دينارٍ قليلةْ

من أجل صدركِ

أسير عشر سنوات على الأقدام

من أجل شفتيكِ

سأنسى اللغة.

الألف دينار والسير عشر سنوات ونسيان اللغة.. بمثابة مستحيلات عند الشاعر المجهول كحال معظم الشعراء الشعبيين. إلا أنه يبدو مستعدًا لفعل هذه المستحيلات، داخل قصيدته، في الحيز الذي تتيحه، له ولنا على السواء، من التمني والتخيل والهذيان.

وحين يأتينا الفيلم التركي الجديد "أغنية القلوب" فإنما يأتي ليقول إنّ المستحيل في الواقع هو الممكن إذا ما حدث في مخيم غجري، بين أناس يفهمون الحياةَ على أنها قصيدة، يساهم كلُّ واحد منهم بطريقة عيشه في كتابة سطر أو مقطع منها.

المستحيل في الواقع هو الممكن إذا ما حدث في مخيم غجري، بين أناس يفهمون الحياةَ على أنها قصيدة، يساهم كلُّ واحد منهم بطريقة عيشه في كتابة سطر أو مقطع منها

ليس إيراد القصيدة التي ضمها فويكت إلى كتابه شاهدًا عابرًا هنا، بل هي مدخل إلى قوة الحب البريء حين يكون محفوفًا بالمخاطر، كما يقدمه لنا الفيلم، مثل أن يحبّ الغجريُّ قرويةً، أي من أولئك الناس الذين يرون الغجر مجرد مهرجين وشحاذين ومشعوذين، لا بشرًا تُقام معهم علاقات طبيعية، كالمصاهرة مثلًا. وعلى الرغم من أن تزويج المرأة "الخاطئة" في كثير من الأعراف الشرقية يدرأ العار، إلا أنّ زواجها من غجري يبدو عارًا أكبر من العار الجنسي.

في الفيلم قصة حب بين شخصين من طرفين بينهما صراع غير مرئي، شيء من قبيل قصة روميو وجولييت، لكنّ الأبعد من ذلك أنّ هناك صراعًا آخر، بين الحب والحياة من جهة، والحب والموت من جهة أخرى. هناك عاشق يجب أن يموت ليقابل حبيبته، وعاشقة يجب أن تظل على قيد الحياة لتعيش مع حبيبها.

لتوضيح ذلك لا بد من سرد جانب من الفيلم. منذ البداية نتعرف على ميرزا، الشاعر والمغنّي الطاعن في السن، المصاب بهوس اللقاء بحبيبته الأولى ديلو التي أضاعها، والتي يريد أن يذهب إليها، لكنّ ابنيه يمنعانه من ذلك كل مرة، ويحدث أن ابنه الأصغر بيروز يقع في حب فتاة هي سمبول أثناء إحيائه عرسًا في إحدى القرى، دون أن يعرف أنها هي العروس التي يزفها في تلك الليلة. يجدها بسبب لحن، ويحبها من اللحظة الأولى بسبب ذلك اللحن.

ينهار العرس وتُتهم العروس سمبول في شرفها، ولهذا تُرسل إلى أهلها كي يغسلوا عارهم بأيدهم، وهنا سيجد العاشق نفسه في حالة من الجنون، إذ عليه إنقاذها. يلجأ إلى أبيه فيجد منه الدعم، كما يمكن أن نتوقع من الشاعر، إلا أننا بعد قليل نرى أن الأب أراد من وراء ذلك عقد صفقة غير مسبوقة. إنه يريد أن يعطي حياته لحبيبة ابنه التي ستُقتل في جريمة شرف، وأن يأخذ منها موتها ليعبر إلى ما وراء عالمنا أملًا في أن يقابل حبيبته.

 

بتلك الصفقة العجيبة سيعيش من يجب أن يموت، ويموت من يجب أن يعيش.

قلنا إن بيروز تعرّف إلى سمبول بسبب لحن، وحين يسجنها أهلها في حظيرة سيعثر على سجنها بسبب اللحن نفسه، وحين تدعي الانتحار بسبب الدواء المخدّر الذي جلبه لها، كي يدفنونها ويأتي ليأخذها من القبر، سيعرف قبرها بسبب اللحن نفسه حين تغنيه من تحت التراب.

يغيّر الحضور الحسّاس للأب العاشق مجرى الفيلم من صراع لأجل الحب، إلى تحويل الحبّ معنى مطلقًا للوجود. هذا العاشق القديم أخطأ في الماضي وخسر حبيبته، وها هو يعيش نادمًا على ذلك. ألّف القصائد. آخى الربابة. حفر قبرين متجاورين في البرية، لها وله. ومع ذلك كله ظلّ أسير الخيبة ولم يصل إلى منية نفسه.

خدعه ابنه الكبير وقدّم له دميةً من القش على أنها ديلو. واشترط عليه أن يبقى بعيدًا عنها لأنها مريضة، ولأن لمسة واحدة ستقتلها. قضى العاشق وقتًا مع حبّه الخيالي، يناجيها من مسافةٍ، إلى أن اكتشف أنه مع دمية. لكن ذلك لم يؤثر عليه، فلم تكن الدمية طوطمًا للحب عنده، بل جسدًا ينتظر أن تسكنه روح الحبيبة لعل المعجزة تقع فتحيا من جديد.

من أجل ذلك قرّر ميرزا أن يموت بالنيابة عن حبيبة ابنه، بالمسدس الذي جاء يقتلها غسلًا للعار. أعطى الأب العاشق حياته لحبيبة ابنه، وأخذ موتها. ليس كرمًا ولا حبًّا بالتضحية، فهي من يجب أن تعيش لأن حبيبها، ابنه، لا يزال حيًّا، وهو من يجب أن يموت لأن حبيبة حياته ميتة، لأجل أن يلتحق بها.

في الفيلم التركي "أغنية القلوب"، سيعيش من يجب أن يموت، ويموت من يجب أن يعيش

 

في النهاية، تغني سمبول أمام القبر الأغنية التي تجعلها تحظى بشرف الانتماء لتلك الجماعة، أو تدخل في الطقس الذي يكرسها غجرية كاملة. وتكون المعجزة أن ينهض الميتان، الأب وديلو، لكن التي تنهض هي ديلو البشرية لا الدمية، ويظلان يرقصان بين الجبال، وكأن الأغنية هي "الخروج للنهار"، بالتعبير المصري القديم، أي هي حياتهما الأبدية، التي نرى أنها ستكون رقصة بلا نهاية.

"أغنية القلوب" فيلم غريب في شكله البصري الصارخ، في جنون أفكاره السريالية، في عواطفه الحارة، في سخريته الكاريكاتورية، لكنه فيلم يعيد لنا قوة الحلم والتخيل والجنون، ناسجًا قصة عن معنى الوجود الذي لا يمكن أن يكون له معنى دون حب، وعن الحب الذي لا يمكن أن يظل حيًّا دون سقايته بالموسيقى والغناء والشعر.

يقدم الفيلم إجابات شعرية عن الكثير من الأسئلة، فعن: لماذا يغني البشر؟ يقول لنا: كي يذهبوا إلى أبدية الحب. وعن سؤال: لماذا لدى البشر مغنون؟ يجيبنا على نحو قاطع: كي تقودهم إلى طريق تلك الأبدية.

من زاوية أخرى، نحن أمام مفهوم خاص للشعر، فحيث إن المغنين هنا شعراء يكتبون أغانيهم بأنفسهم، يقدم لنا الفيلم وجهة نظر مفادها أن القصيدة، أو الأغنية، ليست سوى صفقة مع الحياة. يعطي الشاعر الحياةَ نفسَه لأجل أن تعطيه قصيدةً أو أغنيةً. وفي مشهد النهاية حين تغني العاشقة سمبول أغنيةً من أغاني الشاعر ستحييه ثانيةً. سيخرج من قبره مع الدمية، التي تصير امرأة حقيقية هذه المرة. وبالشعر، بالغناء، تصبح صفقة الحياة إنصافًا.