16-مارس-2017

لقطة من الفيلم

تحاصرك الثرثرات والحكايات في بداية الفيلم وتجعلك مشدودًا لمتابعة حديث يبدو لاحقًا غير هام، مبني في وقتٍ سابقٍ عن وقت الشريط السينمائي، ليخلق تداعيات سمعية وأخرى تخيلية حول كلام كثير يتناثر ويأتي ليمهد لحديث جديد. في مقاربات ربما تأخذك إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي في نصوص الكاتب الإنكليزي هارولد بنتر المسرحية، هذه الثرثرات التي تغطي على مايجب قوله وتمهد لأحداث ستتراكم عليها.

ربما مقدمة مشهدية مناسبة في حيّ أميريكي في الخمسينيات، يقف رجلان يعملان في جمع القمامة على حافة سيارة القمامة ممسكان بها وبالحديث والنظرات جيدًا. لتعبر بنا أجواء الحيّ البسيطة، التي ريثما ستتعقد عندما ندخل إلى بيت تروي ماكسون لاعب البيسبول المحترف وحياته المعرضة للهزات بسبب لون بشرته وتهميشه وإقصائه. فالذي يفعله تروي على طول الفيلم هو محاولة إثبات نفسه في البيت وخارجه، مع زوجته وأولاده وصديقه، ولكن كل منهم بطريقة مختلفة عن الأخرى.

لا يغيب بفيلم fences تأثير لغة النص المسرحي الذي كتبه أوغست ويلسون وقُدم على مسارح برودواي عام 1983 حين لاقى نجاحًا كبيرًا

تخلق لعبة البيسبول هذه همًا كبيرًا يُلاحظ في حياة تروي وبيته وعلاقاته، الحديث عنها بالعرج كل مرة إلى مجده الشخصي وماضيه، يحاول أن يبقى منتصرًا رغمًا عن كونها سوادًا قاتمًا في ذاكرته، وهذا مايحدث بعلاقته مع ابنه كوري الذي يريد احتراف لعبة كرة القدم الأمريكية، لما في هذه اللعبة من خصوصية أميريكية يرى تروي بأن ابنه سيقصى منها بعيدًا وسيهدر وقته وتعليمه على احترف الممنوع منه.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم فرنسي مستقل يثير جدلًا واسعًا قبيل الانتخابات

أمّا الابن الأكبر الذي يحضر إلى البيت فقط لاقتراض عشرة دولارات من والده، كتعويضٍ عن عدم إيجاده عمل مناسب له، فهو لايحب جمع قمامة الأخرين كوالده حتى لوكان يعيش منها. تبدو علاقة تروي بابنه ملوية فلاسلطة له عليه إلا بواجب إعطاءه الدولارات، على عكس الولد الأخر الذي لا يريد له أن يكرر تاريخه مع رياضات البيض أو الملونين كما يسميهم.

البيسبول أو كرة القدم الأمريكية كرمزية ذكورية في مجتمع يبنى على مهل قد تأخذ بعين الاعتبار الأبيض والأسود وتفرق بين رجل وأخر، ضمن خطة لبناء وتحصين تلك الرمزية الأمريكية والتي يرى تروي نفسه مقصي فيها، ملهي بالقمامة وحلم لم يحققه.

واحد من أهم الأفعال المستمرة على طول الفيلم والتي تدخل من الثرثرات وتخرج منها، هي بناء السور حول البيت، والذي يفاجئك في أول مشهدًا من الفيلم، بكونه امتداد أخر للشارع لا فاصل بينهما، حيث واجهته المهملة ومدخله الضيق المؤدي إلى حديقة صغيرة في الخلف، يُعلق على الشجرة الكبيرة الوحيدة فيه كرة بيسبول ومضرب قديم، يمضي تروي وابنه وقتًا أمامها في محاولة من الأول لتذكر مجده، وشغف الثاني بها.

حتى منتصف الفيلم تشعر بأنه من الضروري أن يُخلق ذلك السور الذي يحيط به ويفصله عن الشارع، لما صار فيه من تعقيدات ومشاكل لا تجعل منه فريدًا على قدر ماتُحيل لخصوصية كل فرد فيه وعلاقته مع الداخل والخارج والتي يجب أن تقطعها وتفصلها الأسوار.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "A Monster Calls" فانتازيا حقيقية

الحضور الوحيد للرجل الملون كان في شخصية بونو صديق تروي الذي يعمل معه في جمع القمامة، رغم أنه لم يترقَ مثله ولم يصبح سائقًا، الأمر الذي يغير تلك العلاقة ويضع عليها مجهرًا مقربًا. بونو يعرف عن حياة تروي بكل مشاكلها وتشعباتها أكثر من الأخير نفسه. يأخذ منها مكانًا حياديًا متأملًا، ولايهمل شأنه بالنصح والاستشارات. ولكن ريثما تنقلب الأمور يبتعد الاثنان عن بعضهما بعد أن كشف تروي لزوجته التي يتغنى بحبه لها، بأنه متزوج من أخرى وينتظر مولدًا منها.

مع نص مسرحي، تبدو تجربة واشنطن وويلسون في إعداد فيلم fences للسينما والحفاظ عليه أمريكيًا يسبح بين تعقيدات أُناس تريد إثبات نفسها

تحمل روز "فيولا ديفيس" هم المرأة الأخرى وعلاقته بها وهم حياتها معه بكل مايضيفه على البيت والأولاد من تعقيدات ومخاوف. لتكوّن لحظة الاعتراف هذه فجوة مبدئية بينهما، تعود لتندمل بعد أن تلّد زوجته وتموت فتدخل إلى حياتهما ابنة جديدة غير متوقعة، تنضم إلى تاريخ عائلة لها حصة من العنصرية والتهميش لاشأن لها بها.

لا يغيب تأثير لغة النص المسرحي الذي كتبه أوغست ويلسون وقُدم على مسارح برودواي عام 1983 حين لاقى نجاحًا كبيرًا، ليخلق تراكم الكلمات بعدًا دراميًا حافظ إخراج دينزل واشنطن على مرونته وشكل تطور التعقيدات والصراعات فيه.

مع هذا النص الدرامي المسرحي تبدو تجربة واشنطن وويلسون في إعداده للسينما والحفاظ عليه أميريكًا يسبح بين تعقيدات حياة أُناس تريد إثبات نفسها والمضي قُدمًا رغم ماتتعرض له من تهميش، يجعلها تجربة فريدة أخذت النص معها في عام سينمائي بامتياز كعام 2016 لمكانٍ فيه خصوصية إبداعية في الكتابة والإخراج، أمام أعمال سينمائية أخرى اعتمدت على نصوص من المسرح.

اقرأ/ي أيضًا:
طارق التلمساني.. خرج ولم يعد
الإنسانية المأزومة بين ميلر وفرهادي