15-مارس-2017

طارق التلمساني في كواليس تصوير أحد الأفلام (فيسبوك)

إذا فتحت صفحة ويكيبديا الخاصة بطارق التلمساني ستجد الآتي: "طارق التلمساني مدير تصوير وممثل مصري، ولد في 22 أبريل 1950 في القاهرة، عمل كمدير تصوير بالعديد من الأفلام المصرية الهامة مثل المواطن مصري، عرق البلح، أيام السادات، بحب السيما وقص ولزق. كذلك شارك بالتمثيل في العديد من الأعمال الفنية مثل أفلام السلم والثعبان، قضية أمن دولة، إستغماية، ومسلسلات مثل مسألة مبدأ، لقاء عالهوا، محمود المصري ولحظات حرجة وأوقات فراغ وجبل الحلال".

الغريب أن الصفحة لا تأتي على ذكر سيرة التلمساني كمخرج رغم شهرة فيلمه الوحيد "ضحك ولعب وجد وحب"، الذي ضمّ في طاقمه التمثيلي عمر الشريف وعمرو دياب ويسرا، والذي يمكن اعتباره واحدًا من أفلام السيرة الذاتية أو أفلام النوستالجيا، ولا أعرف فعلًا لماذا توقف التلمساني عن استكمال تجربته الإخراجية، حيث كانت التجربة إلى حد كبير جيدة وثرية وواعدة.

طارق التلمساني هو ابن لمدير التصوير حسن التلمساني، الذي كرّس حياته للعمل في السينما التسجيلية وصنع لنفسه اسمًا في المجال

لكن التلمساني الذي ظلّ دومًا وفيًا للوقوف خلف الكاميرا منذ بدايته كمدير تصوير عام 1984 في فيلم "خرج ولم يعد" لمحمد خان، جرَّب العديد من المهن السينمائية، فهو الممثل والمخرج، ولا شك في مدى جودته في كل ما عمله تقريبًا بالإضافة لكونه صاحب طَلَّة خاصة في ما قدّمه من أدوار تمثيلية، إنه فنان ذو طابع مميز في جميع التجارب التي خاضها، ومن الواضح أنه لجأ إليها بنفسه، عن طيب خاطر وكامل اقتناع.

اقرأ/ي أيضًا: الإنسانية المأزومة بين ميلر وفرهادي

التلمساني هو ابن لمدير التصوير حسن التلمساني، الذي كرّس حياته للعمل في السينما التسجيلية وصنع لنفسه اسمًا في المجال، وقد بدأ التلمساني الابن عقب تخرجه مباشرة في العمل كمصوِّر في أفلام تسجيلية عديدة، إلا أن قائمة أفلامه كمدير تصوير للأفلام الروائية تكشف أن مجموعة الصحبة، أو الأصدقاء التي يمثّلها كل من محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة، كانوا في حاجة إلى عين للكاميرا من طراز التلمساني، الذي ظهر مع بدايات كل منهم، أو بعد ظهورهم بسنوات قليلة، خاصة محمد خان الذي كان أول من أسند له تصوير فيلمين في عام واحد، هما "خرج ولم يعد" و"مشوار عُمَر" عام 1984، وهو العام نفسه الذي صوّر فيه "الطوق والإسورة" لخيري بشارة.

أن نقول إن طارق التلمساني ارتبط في بداياته بمحمد خان فهذا يعني في المقام الأول أنه مدير تصوير عليه أن يُغرم بالشوارع والميادين والمناظر الخارجية والأماكن المفتوحة، وفي الأفلام الثلاثة المشار إليها كان الطريق والريف هما البطلان الرئيسيان، بالإضافة إلى الأفق والأرض الريفية الممتدة باتساع، وقد كانت تلك سمة واضحة في أغلب أفلام الفنان طوال رحلته، فالكاميرا في ترحال ملحوظ: الخروج من المدينة التي تنهدم بيوتها القديمة في المنيل لتتابع رحلة البطل إلى الأسفلت الذي يخترق الحقول، ثم يختفي هذا الأسفلت لبعض الوقت، ولا يكاد يظهر إلا في نهاية الفيلم، حين يريد الموظف السابق عطية عبدالخالق (يحيى الفخراني في "خرج ولم يعد") العودة مرة أخرى إلى المدينة لإنهاء علاقتها بها نهائيًا.

وجد مدير التصوير نفسه أمام الطبيعة المفتوحة، حيث الخضرة الكثيفة وأشجار الفاكهة والزينة، فانطلقت الكاميرا تنهل من الطبيعة الجميلة وتصوِّر لوحات حيّة أشبه بالبطاقات التذكارية، وقد تكرّرت نفس الكادرات في الفيلمين التاليين، فالكاميرا تتجوّل منطلقة مع سيارة عُمر (فاروق الفيشاوي في "مشوار عمر") الذي هرب بسيارته أيضًا من المدينة متجهًا نحو القرية عبر طريق أسفلتي، وعبر تجربة أشد قسوة وأقل رومانسية من خلال أشخاصها.

أما في "الطوق والإسورة" فالريف يمتزج بالقسوة وبظروف اجتماعية مختلفة في ظرف تاريخي خاص، قد لا تبدو مختلفة كثيرًا عن الواقع، باعتبار أن الريف لم تتغيّر مناظره كثيرًا عبر السنين.

في العام التالي، 1986، عمل طارق التلمساني مع المخرج أحمد فؤاد في فيلمين مشابهين مكانيًا وليس من ناحية الموضوعات، ففيلم "الحدق يفهم" تدور أحداثه في نوع آخر من الريف، إنها قرية مليئة بالمشاكل والمتاعب، قرية صعيدية أقرب إلى قرية "الطوق والإسورة"، يأتيها مجرم يرتدى مسوح رجل الدين وعليه أن يتوب من خلال مجموعة من الأحداث، وقد انطلقت كاميرا التلمساني بين الجبال والسهول والأراضي الزراعية وجنبات القرية فعوّضت بعضًا من سطحية السيناريو المقتبس عن الفيلم الفرنسي "مدافع سان سباستيان" للمخرج هنري فرنوي.

أن يرتبط طارق التلمساني في بداياته بمحمد خان فهذا يعني أنه مدير تصوير عليه أن يُغرم بالشوارع والميادين والمناظر الخارجية

أما الفيلم الثاني لأحمد فؤاد "الأوباش"، فتدور أحداث كثيرة منه في الشوارع والطرقات، حيث تُغتصب فتاة حديثة الزواج (هالة فؤاد) على أيدي مجموعة من الشباب فوق منطقة جبلية، ويقرر البطل الصحفي (يحيى الفخراني) الانتقام للفتاة لمعرفتها بها طفلًا وينجح في التوصل إلى الجناة قبل أجهزة الأمن ويقتلهم جميعًا، كل بطريقة مختلفة وفي أماكن مختلفة، وفي أثناء ذلك كله تتجوّل كاميرا التلمساني بين الطرق والدروب في أجواء معتمة يجيد تصويرها.

في العام التالي، 1987، اتجه التلمساني إلى أماكن أخرى مفتوحة، عبارة عن مسطحات خضراء أيضًا في الفيلم الأول لشريف عرفة بعنوان "الأقزام قادمون"، فهؤلاء قصار القامة قد قاموا بالاعتصام في مكان من منطقة المعمورة بالإسكندرية، وبدا واضحًا أن كاميرا التلمساني تحب كثيرًا الأفق المفتوح والاتساع والخضرة، وبدا كأنه يختار الأفلام التي يعمل فيها متكئًا على أفضلية تواجد تلك العناصر فيها، واتضح ذلك في فيلم "نهر الخوف" لمحمد أبو سيف عام 1988، ثم الراعي والنساء" لعلي بدرخان عام 1991، و"آيس كريم في جليم" لخيري بشارة 1992، ثم "أمريكا شيكا بيكا" عام 1993.

اقرأ/ي أيضًا: "باترسون".. أغنية هادئة عن النثر

وفي تجارب أخرى، حوَّل التلمساني أدغال المدينة إلى متسع له رؤية خاصة رغم ضيق المكان أو ازدحامه، مثل "إشارة مرور" لخيري بشارة و"عفاريت الأسفلت" لأسامة فوزي عام 1996، وبالطبع "يوم حلو ويوم مُرّْ" لبشارة أيضًا، وفيه بدت الكاميرا مختنقة مع الأماكن الضيقة والقذرة التي يعيش فيها أبطال الفيلم، إنه عالم داخلي شدشد الزحام داخل شقة سفلية تتكدّس فيها أسرة كثيرة العدد بأكملها، فعكست الكاميرا هذه الازدحام بشكل ملحوظ.

إلا أن التنوع كان سمة ملحوظة في الأفلام التي يصوّرها التلمساني، فهو يعود إلى الريف حتى وإن كان ريفًا صحراويًا في "عرق البلح" لرضوان الكاشف عام 1999، كما أن الكاميرا تعاود زيارة شوارع المدينة في أفلام لاحقة، خاصة "قص ولصق" لهالة خليل عام 2007، حيث يتم التعارف دومًا بين شاب وفتاة، كل منهما يبحث عن ونيس وصاحب في زحمة المدينة الخانقة.

نحن أمام حالة من النشاط والتوقّد، فما إن وجد وجهه وشخصيته تصلحان للسينما، حتى عمل في التمثيل بشكل مكثف، وفي أغلب أدواره كان الرجل الرائق الوقور، الجنتلمان، ابن الذوات، صاحب المناصب المرموقة، مثل دوره كصاحب مؤسسة شركة إعلانية في "السلم والثعبان" لطارق العريان، وأيضًا الأب الحازم مع الشاب الذي غرّر بابنته في "أوقات فراغ" لمحمد مصطفى، ومن الواضح أن طارق التلمساني الممثل جاء في زمن قلّ فيه عدد المخرجين الماهرين في إدارة الممثل، فرأيناه يعمل في أفلام مثل "45 يوم" و"إستغماية" و"غرفة 707"، وإن كان حظه كممثل في الدراما التليفزيونية أفضل منه في السينما، من خلال أدواره في "مسألة مبدأ" و"لقاء ع الهوا" و"محمود المصري" و"بنت من شبرا" و"لحظات حرجة".

تبقى تجربته كمخرج ذات سمات خاصة، تستحق الالتفات إليها والكتابة عنها، فقد راح التلمساني يسرد ذكرياته مثلما فعل بطل "صيف 42" لروبرت موليجان، حيث ذاق حلاوة الحب لأول مرة على يد امرأة وحيدة، وسار في فيلمه على نهج كل من يسري نصر الله في "سرقات صيفية" و"أحلام صغيرة" لخالد الحجر.

اقرأ/ي أيضًا: نجوم أبيض وأسود.. حكايات من زمن فات

وقد استوحي التلمساني، وهو كاتب القصة والسيناريو أيضًا بالاشتراك مع مجدي أحمد علي، اسم فيلمه من أغنية مشهورة كانت تُردد في أوائل الستينيات، ولكن الأغنية الوطنية التي بدأت بها أحداث الفيلم وهي "عدّى النهار" لعبد الحليم حافظ كانت تمثّل حالة وطنية خالصة سكنت فينا وارتبطت بالأحداث السياسية الكبري التي شهدتها مصر في عام 1968، حيث تدور أحداث الفيلم.

في البداية، يتصوّر المشاهد أنه أمام فيلم سياسي، خاصة أن عام 1968 شهد الأحداث الشبابية الكبرى في كل أوروبا، لكن التلمساني استجلب ذكرياته الخاصة في منطقة مصر الجديدة، في زمن "مدرسة المشاغبين" حين استطاعت مجموعة من الطلاب تحدي طاقم العاملين في المدرسة ولم تروّضهم سوى غانية حسناء يطلّ بيتها مباشرة على فناء المدرسة، إنها "إش إش" أو عائشة (يسرا) التي تحوّلت إلى بؤرة جذب لجميع الرجال والشباب في محيط الدائرة التي تعيش فيها.

نحن أمام أربع قصص صغيرة، بمعنى أن أبطالها صغار السن، حتى أدهم (عمرو دياب) الذي تجاوز الثامنة والعشرين، فهو لا يزال في المدرسة الثانوية وتتمثل معاناة كل منهم في أن يمارس حبه الأول على طريقته أو أن يعاشر النساء بما يرضي رجولته المبكرة، لكن المساحة الكبرى مخصصة لأكبرهم سنًا، الكابتن أدهم، وهو أيضًا أضخمهم جسمًا وأكثرهم حظًا في الحصول على ما يشاء من النساء لوسامته وفحولته.

التلمساني الذي ظل دومًا وفيًا للكاميرا منذ 1984 بفيلم خرج ولم يعد لمحمد خان، جرب العديد من المهن السينمائية، فهو الممثل والمخرج

وأبطال هذه الحكايات ليس لهم من همّ خاص أو عام سوى الحب، حتى من أخطأ منهم، فإنه سرعان ما يجد حلًا لمشكلته، حتى العلاقة غير المتكافئة بين أدهم وإش إش انتهت أيضًا نهاية سعيدة دون مشاكل، بعد أن يعتقد المشاهد أن وجود الأب ضابط الاستخبارات يمكنه أن يضع العراقيل في طريق هذا الحب، يعد قيامه باستدعاء المرأة من أجل تخويفها وإبعادها عن ابنه، فإذا به يقتنع بعد حوار قصير أن غادة كاميليا هذا الزمان تحب ابنه، فيوافق على زواجهما.

وسط هذا العالم يعيش كل منّا حنينه الخاص، ويجد نفسه في جزء من هذه القصص، أو فيها جميعًا، ليس فقط في الجمل الحوارية التي يرددها أبطال الفيلم، والمأخوذة رأسًا من قاموس الستينيات، وإنما أيضًا في الجو العام الذي يصدّره لنا الفيلم، فهؤلاء الشباب تصرّفوا بما أملتهم عليهم تجاربهم الصغيرة وانتماءاتهم الاجتماعية، فلسنا أمام أي توجه سياسي لهؤلاء الشباب في زمن النكسة ومنظمة الشاب الاشتراكي والقائد الزعيم الملهم، حتى أن المظاهرة الوحيدة التي خرجت من المدرسة قام بها التلاميذ احتجاجًا على فصل أدهم من المدرسة.

والفيلم به القليل من الضحك والكثير من الصفاء، صفاء التجربة الأولى، كما تبيّنه لنا مواقف الشخصيات، فهناك من لا يجيد التعامل مع البنات ويفتقد القدرة على الاتصال بهن، حتى إنه في أثناء محاولته لملامسة عاملة الهاتف، صديقة "إش إش"، يتفاجأ بأنها فتاة "غير محترمة"، أما الآخر فالدنيا قامت من حوله حين زلّت معه حبيبته مها، فالتجأ إلى القسّ يسأله النصيحة وإلى أصدقائه بحثًا عن عون، وقد تشابكت القصص الأربع في ضفيرة واحدة تجدلها "إش إش"، التي تتصل بأم مها لكي تطمئنها على ابنتها التي نامت لليلة خارج المنزل، ثم هي تساعد في إجهاض الفتاة على يد طبيب، سوف تدفع له تكاليف العملية ليلة متعة يقضيها معها. هكذا، صاغ طارق التلمساني فيلمه الأول والأخير بإيماءات رومانسية وحانية تجعل قرار توقفه عن الإخراج غير مفهوم إلى الآن، فلو أنه استمر كمخرج لكان له مذاق مختلف ومليء بالثراء. لقد خسرنا مخرجًا مميّزًا وكسبنا مدير تصوير رائع.

اقرأ/ي أيضًا:
سينما هيتشكوك.. التأسيس لتشويق مبتكر
أفلام كلاسيكية لن تصدق أنها لم تحصل على الأوسكار