24-سبتمبر-2023
فيلم مدينة الكويكب

يقوم الفيلم على بحر من الحكايات واللحظات العاطفية (الترا صوت)

لن تستيقظ إن لم تخلد للنوم، ولن تصعد للمسرح إن ظللت تنسى الكلام، ولن تختار فائزًا حتى تتعلم كيف تختار، ولن تجد الكنز حتى تحفر عميقًا، ولن تستيقظ إن لم تخلد للنوم". هذه قصيدة شعرية يقدّمها المخرج الأمريكي ويس أندرسون في فيلمه الجديد "مدينة الكويكب" (2023) الذي شارك في بطولته نخبة من نجوم هوليوود، وتدور أحداثه زمنيًا عام 1955. 

في هذا العام، تجتمع مجموعة من الطلاب والآباء من أجل حضور مؤتمر خاص بالفضاء، ولكن مسار المؤتمر يتعطل حين يتعرض العالم لسلسلة من الأحداث غير المتوقعة. هذه هي ببساطة القصة التي يحكيها لنا ملك الحكايات ويس أندرسون في فيلمه الطويل الحادي عشر. والقصة بحد ذاتها مسرحية ألّفها كونراد إيرب (إدوارد نورتون)، ويخرجها شوبرت غرين (أدريان برودي)، ويرويها لنا الراوي (براين كرانستون) من خلال برنامج تلفزيوني داخل الفيلم نفسه. 

يقوم فيلم أندرسون على بحر من الحكايات واللحظات العاطفية التي تكشف الصراع الداخلي لشخصياته إلى جانب قلقها من الحياة والزواج والموت والفقدان

بدأ أندرسون بكتابة سيناريو الفيلم إلى جانب رومان كوبولا في عام 2020 مُحاطَين بقواعد وإجراءات الحجر الصحي من كل صوب. إذ تحدث أندرسون عن دور وباء كوفيد - 19 في صياغة الفيلم وقصته، حيث قال إن الحجر الصحي ما كان ليكون جزءًا من القصة لو أننا لم نختبره بأنفسنا. وأضاف: "الكتابة هي الجزء الأكثر ارتجالية في العملية كلها، فهي تعتمد على وجود اللا شيء".

في الفيلم ثمة مسرحية تصوَّر للتلفاز، ويقدّمها الراوي، ويتنقّل الفيلم بين كواليس إعدادها وعرضها. وفي نهاية الفصل الثاني من المسرحية المقدمة في مدينة "استرويد"، يظهر إدوارد ويقول إنه يود أن يصنع مشهدًا يتم فيه إغواء كل شخصياته بهدوء وسرية وصولًا إلى أعماق أحلامهم نتيجة تجربتهم المشتركة للغز سماوي محير ومذهل، ربما مشهد نوم ولكنه لا يعرف كيف يكتبه بعد. فكّر حينها: ماذا لو ارتجل الممثلون؟ 

تدور المسرحية حول الأبدية وحيرتها التي تتجلى في عنوان الفيلم "صحراء الكون" الذي لم يعجبه، فسأل الممثلين إذا كان قد أعجبهم أم لا، ثم سألهم عما إذا كانوا قد فهموا المسرحية. لم يفهم أحد شيئًا، وكانت الإجابة واضحة بأنه ليس من المهم أن تفهم المسرحية، وإنما أن تكون قادرًا على الاستمرار في سرد القصة. 

يقدّم ويس أندرسون في هذا الفيلم فهمه الكامل للمسرح ومحاولة دمجه في الشاشة، فيتنقّل بين الحكايات الثلاث برشاقة وإزعاج متعمّد ضد المشاهد الكسول، فتظهر شخصياته التي تحاول أن تقول شيئًا ما ولا يستعرض حياة أي أحد منها بقدر ما يحاول، بجد وتعمّد، إظهار التخبط الإنساني فيدمر جملة بودلير التي تقول أنا الذي مررت قافزًا فوق الأشياء أريد أن أصير ملًا لأحد. لكن أندرسون ينتصر لهذا القفز والوثب ولا يحبذ فكرة الركود رغم إيقاع الفيلم الهادئ.

ما هو محيّر في الفيلم، أكثر من دور الراوي، هو موقف المتفرج الذي كلما اتضحت له فكرة المشهد، يعود الفيلم للمسرح. قد يبدو ذلك مزعجًا لأول وهلة وغير مفهوم، لكن الفكرة تتضح لاحقًا ويتبيّن أن هذه العشوائية في التنقّل بين الأزمنة أمر مقصود لإزعاج المشاهد غير المهتم، بينما سيفهم المهتمون أن هذه التنقّلات مدروسة. 

لا يزال بعض البشر مشغولين بالتركيز على إيجاد طريقة للخروج من المتاهة المسماة "الحياة"، والتي لا يقصد بها هنا أن تكون جسدية مثل المشاكل المالية أو الأمراض، بل مواجهة التعقيدات داخل العقل الحقيقي الذي يكون شاسعًا وغامضًا عندما يتعلق الأمر بمواجهة هذه المشاكل، سواء كان مهووسًا بإيجاد معناه أو حله. وفي هذه الحالة، يبدو إدراك أشياء مثل الحروب والكوارث الطبيعية، اختبار القنبلة النووية أو حتى التغيّر الكوني، مجرد عنصر واحد في الكون العظيم لأذهاننا. والفيلم، في النهاية، يقدّم للمشاهد ملخصًا للحياة العميقة كما لو كانت جملة مريحة للمخلوقات التي ولدت في الكون.

تتشارك أفلام ويس أندرسون حمضًا نوويًا يميزها عن غيرها، ويبقيها متشابهة في الوقت ذاته. ومن خلال اشتغاله على العلاقة الوثيقة بين النص والصورة، ابتعد كل البعد عن الكتابة الكسولة أو المشاهد الجاهزة، وظل ينبذ التعطش الزائد لـ"الفهم" في سينماه؛ محاربًا الأسلوب الشرحي وداعيًا المتلقي للمشاركة في عملية إنتاج الفيلم، فإذا أردنا المعنى من فيلم "مدينة الكويكب"، فعلينا أن نصنعه بأنفسنا.

قدّم أندرسون في "مدينة الكويكب" معجزة خافتة ومتألقة لعالم غير مستقر، حيث تظهر فيه العناصر المرئية الشكلية "الأندرسونية" المعتادة، وتُهيمن بطريقة مغرية ورؤيوية لكنها في الوقت نفسه مقلقة إلى درجة الإزعاج.

لا يستعرض ويس أندرسون حياة أي شخصية من شخصيات فيلمه بقدر ما يُحاول، بجدّ وتعمّد، إظهار التخبط الإنساني من خلالها

يقف أندرسون في جديده على حافة تشويه منمّق آخر يتسم كل شيء فيه بالتطرف: التداخل بين الشخصيات (مع عدد لا يحصى من الممثلين)، واللمسات الكرتونية في أسلوب "وارنر براذر" القديم ثنائي الأبعاد، وهيكل درامي فوق بحر من الحكايات واللحظات العاطفية التي تخرج من الشخصيات التي تتصارع داخليًا، وتكشف قلقها من الحياة، والزواج، والموت، والفقدان. 

وفوق كل هذا، يعرض لنا أندرسون فيلمه هذا بعلامات بدء للفصول التي تتكون منها القصة، والإشارة بالأرقام الرومانية إلى المشاهد التي سيتم عرضها، والتأرجح بين المسرحية والمطبخ الخاص بها، وبرنامجها التلفزيوني. 

"مدينة الكويكب"، ببساطة، أعظم نزوات أندرسون الذي أيقظ فينا ذكرى أفلام الفرنسي جاك ريفيت مبدع الأكوان المسرحية السينمائية، التي تُرى فيها الحياة في مرآة الفن.