31-ديسمبر-2016

لقطة من فيلم زينب تكره الثلج (مواقع التواصل الاجتماعي)

تخيّل أن يموت والدك وأنت في سنّ التاسعة، وتكتشف وأنت لا تزال تحت وقع الصدمة أن والدتك ستتزوج رجلًا آخر يقطن الأراضي البعيدة، وتجبر على مفارقة بلدك ومن تحب لأن والدتك قررت الانتقال إلى منزل زوجها في كندا، ثمّ تنفصل والدتك عن زوجها الجديد فتجد نفسك عالقًا هناك رغم انتفاء سبب قدومك الأصليّ، ألا تستحق الحكاية أن توثّق؟ لا شكّ أنّ الصدفة سمحت لكوثر بن هنيّة بأن تلتقط كاميرتها هذه القصّة الفريدة. لكن قدرة المخرجة على فرز الأحداث هي التي تقف وراء اختزال ست سنوات بتفاصيلها الطريفة والمرّة في ساعة ونصف بنجاح.

ترسم الفتاة في "زينب تكره الثلج" باستمرار صورًا لعائلة سعيدة في استعادة رمزيّة لصورة عائلتها المفقودة

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الحالمون".. الثورية الحالمة وسذاجة المثالية

تتبّع بن هنيّة في فيلمها الوثائقيّ "زينب تكره الثلج" قصة زينب الطفلة التي يتوفى والدها وهي في سنّ التاسعة وتضطر لقبول اختيار والدتها التي تقرر الزواج مرّة أخرى بحبيب قديم ومغادرة تونس نحو كندا. ويتطرّق الشريط إلى مجموعة من المشاكل المركّبة من خلال مسار شخصيّة واقعيّة. حيث تمرّ زينب، وبدرجة أقلّ شقيقها هيثم الأصغر منها سنّا، بمجموعة من الصدمات بدءًا بوفاة والدها، ثم بزواج أمها مرة أخرى، وبالهجرة، وانتهاءً بتبدّل السياق الثقافيّ والحضاريّ الذي تحيا ضمنه.

يبدأ الفيلم بعد وفاة والد زينب، فتظهر الكاميرا تشبثها بصورته. حيث ترسمه الفتاة باستمرار ضمن صور لعائلة سعيدة في استعادة رمزيّة لصورة عائلتها المفقودة. وتسترجع في كلّ حين ذكرياتها معه، وتصرفاته، وملامحه وتكتب له رفقة هيثم رسائل يطمئنانه فيها على حالهم في غيابه.

تشبّث زينب بوالدها يجعلها تشك في أمر والدتها حين تكتشف حديثها السريّ على الهاتف مع شخص غريب في أوقات متأخرة من اللّيل. وتعمّق قهقهة والدتها في حواراتها الهاتفيّة شكوكها في أنّها تتحدث مع رجل وربما تفكر في الزواج مرّة أخرى. سرعان ما تتأكد شكوك زينب وتشهد علاقتها بأمها انقلابًا وجدانيًّا. فتؤكد في حوارها مع نفسها أمام المرآة على التشابه بين ملامح وجهها وملامح وجه والدها، وعلى أنها لا تشبه والدتها البتّة. وتوسّع امتعاضها ليشمل خطيب والدتها، فترفض التفاعل مع تودده إليها وتحاول الوقوف في وجه تطور علاقته بأمها.

تقفز كوثر بن هنيّة مسافة زمنيّة فتظهر وجدان، ابنة ماهر من زواج سابق، التي تقارب البطلة في السنّ، والأيقونة الحضاريّة المقابلة لها. وجدان تتحدث الفرنسيّة ولا تعرف العربيّة، رغم أن والدها تونسي، ومتأثرة بوالدتها من ناحية الانتماء الدينيّ للمسيحيّة. ترفض زينب التعامل معها في البداية تناسقًا مع موقفها المبدئيّ في رفض العلاقة التي تجمع بينها. لكن تتطوّر علاقتهما مع الوقت، فنشاهد طوال الفيلم نقاشات بينهما حول الدين والاختلافات بين تونس وكندا ومخاصمات طفوليّة. وفي نهاية المطاف، ترضخ زينب لاختيارات أمها رغم رفضها لتعويض ماهر مكانة والدها في العائلة ورفضها مغادرة تونس وكرهها للثلج الذي حاولوا إغراءها به لترغيبها في الانتقال إلى كندا.

لا يتوسّع الشريط كثيرًا في عرض تفاصيل ما واجهته العائلة في كندا، ويعود ذلك على الأرجح لرغبة المخرجة في الإبقاء على طول متوسّط للفيلم. وتظهر التفاصيل المعروضة انفصال والدة زينب عن زوجها وبقاءها في كندا رفقة طفليها. كما تظهر كذلك تحوّلًا واضحًا في شخصيّة زينب التي تبلغ من العمر عند نهاية الفيلم 15 عامًا.

في الشريط الوثائقي "زينب تكره الثلج"، يبدو جليًا تحوّل زينب من كره الثلج إلى الذوبان فيه

اقرأ/ي أيضًا:فيلم أماركورد (1973): هيّا نضحك على الفاشية

ويمكن تلخيص التحوّل الهوويّ الذي عاشته في مشهدين معبرين أحسنت المخرجة توظيفهما. حيث يعرض المشهد الأوّل زينب وهي تلقي خطاب الوداع على زملائها وأساتذتها في حفلة نهاية العام المدرسيّة في تونس. حيث تتحدث عن تونس الحبيبة ومدرستها التي زوّدتها بعلم يسمح لها بمجابهة الصعاب، كما تتحدث عن الثورة التونسيّة التي تسكن عقلها.

ويعرض المشهد الثاني زينب مختلفة، حين عرضت عليها المخرجة نسخة أوليّة من الشريط. حيث تعلّق بازدراء، عند مشاهدتها لقطات من حفل زواج والدتها بماهر، على شكل الحيّ الذي تعرضه اللقطات فتقول "انظر إلى هذا الغيتو العربيّ"، وتعّلق عند عرض لقطات لحوار جمعها بوجدان "كم كنت منبهرة بالله وبتونس، من الجيّد أنّي لم أعد كذلك".

تكمن مشكلة هذا التحوّل في أنه قابل للتأويل في اتجاهين متناقضين. فمن ناحية، يمكن القول إنّه يرمز إلى اندماج ناجح لزينب في المجتمع الكنديّ متعدد الثقافات. فقد صارت شابّة كنديّة، حتى أنّها تتحدث بالفرنسيّة مع والدتها وشقيقها في المنزل، وكسرت الشرنقة التي كانت تعيش داخلها وغدت قابلة بالتنوّع السائد هناك. لكن من ناحية ثانية، لا تبدو زينب سعيدة في حياتها الجديدة. إذ دائرة أصدقائها محدودة، ويبدو عليها الضيق والتوتّر باستمرار. حيث يبدو جليّا تحوّل زينب من كره الثلج إلى الذوبان فيه.

وبصرف النظر عن التأويلات المختلفة، تتمثّل فرادة فيلم "زينب تكره الثلج" في إلقائه الضوء على مسار تشكّل حياة وشخصيّة الإنسان على يد ظروف خارجة عن إرادته. وتبرز براعة كوثر بن هنيّة الإخراجيّة في التقاطها التفاصيل الفارقة في ذلك المسار من خلال ما عاشته زينب. وقد تحصّل الفيلم في السنة الأولى لعرضه على التانيت الذهبيّ في "مهرجان قرطاج السينمائيّ" في دورته السابعة والعشرين، كما تحصّل على جائزة أفضل فيلم وثائقيّ في "مهرجان مونبليي" للفيلم المتوسطيّ في دورته الثامنة والثلاثين.

اقرأ/ي أيضًا:

9 وثائقيات تناولت الحرب السورية

أفضل 6 أفلام خيال علمي على الإطلاق