20-مايو-2017

لقطة من الفيلم

تدور أحداث فيلم "رحلة إلى إيطاليا Journey to Italy" (اصدار سنة 1954) -دون حرق- حول الزوجين الإنجليزيين، أليكس وكاثرين. ترث كاثرين بيتًا في مدينة نابولي الإيطالية، بعد وفاة عمها المستقر هناك منذ الحرب العالمية الثانية، لتقرر أن تذهب مع زوجها أليكس إلى نابولي من أجل بيعه، ولما كانت علاقتها مع زوجها قد بدأت تشهد فتورًا بعد ثمان سنوات من الزواج، سترى في السفر فرصة رائعة لبث الحياة في علاقتهما من جديد، أو بشكل أدق إنقاذها.

يعتبر البعض فيلم "رحلة إلى إيطاليا" أهم فيلم لمخرجه روبيرتو روسيليني، يرونه أهم حتى من فيلمه "روما، مدينة مفتوحة"

يعتبر البعض فيلم "Journey to Italy" أهم فيلم لمخرجه روبيرتو روسيليني Roberto Rossellini، يرونه أهم حتى من فيلمه "روما، مدينة مفتوحة Rome، Open City". فإن كان هذا الفيلم الأخير من الأفلام التي ساهم من خلالها روبيرتو روسيليني في تأسيس الواقعية الجديدة الإيطالية Italian Neorealism، والتي كان من أهم سماتها: التصوير في المواقع الحية خارج الإستوديوهات، واستخدام ممثلين غير محترفين، وتصوير يوميات الطبقة العاملة، وما تعانيه من فقر وظلم ويأس، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في إيطاليا؛ فإن فيلم "رحلة إلى إيطاليا"، هو الفيلم الذي وضع من خلاله روبيرتو روسيليني أساسيات ما سيعرف فيما بعد بالموجة الجديدة، والتي سيتلقفها المخرجون الفرنسيون، وعلى رأسهم جان-لوك جودار Jean-Luc Godard وفرنسوا تروفو François Truffaut، وستنسب لهم French New Wave. وكأن روبيرتو روسيليني قضى بيديه في فيلمه "رحلة إلى إيطاليا" على الواقعية الجديدة التي ساهم في بدايتها، ودفع السينما إلى فضاءات جديدة بعيدًا عنها.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم الفتاة الدنماركية "The Danish Girl" وسؤال: هل تعيش ذاتك؟

ما جعل فيلم "رحلة إلى إيطاليا" مهمًا إلى هذه الدرجة، وملهمًا للسينمائيين الفرنسيين، هو حبكته الغير تقليدية، والغير خاضعة للمعايير الأدبية السائدة وقتها. فالفيلم لا يركز على شرح علاقة الزوجين أليكس وكاثرين، لا يصور لنا ماضي هذه العلاقة، ولا يسوق على لسان طرفيها معلومات كافية تساعدنا على فهم لماذا آلت الأمور بينهما إلى هذا الحد، ولا يمنحنا أي تمهيد لحبكة الفيلم، يرمي بنا منذ مشهد البداية في وسط الحبكة، مع معلومات قليلة جدًا.

يُفتتح الفيلم بمشهد للزوجين أليكس وكاثرين في سيارتهما، وقد بقي أمامهما قرابة مئة كيلومتر على مدينة نابولي. سنعرف خلال هذا المشهد مدى التباين بين نظرة الزوجين إلى علاقتهما؛ الزوجة قررت السفر برًا ظنًا منها أن هذا سيمنحهما وقتًا أطول سوية، مما قد يقرب بينهما، بعد الفتور والجفاء اللذين لحقا بعلاقتهما، وترى في السفرة رحلة للمتعة والحب؛ أما الزوج فلا يبالي بكل ما تقوله زوجته، وكان يفضل لو سافروا بالطائرة، ويبدو عليه الضجر، والندم على موافقته على السفر برًا، ولا يرى في الرحلة إلا رحلة بمهمة محددة وهي بيع العقار، فلا متعة هنا، بل هنالك تعطيل لمصالح كثيرة تركوها وراءهم في لندن، ولا يرى في علاقتهما أي فتور أو خلل يستحق التصحيح.

لا يخبرنا روبيرتو روسيليني عن سبب هذا التباين في توقعات الزوجين ونظرتهما إلى الرحلة، وستمر جميع مشاهد الفيلم دون تقديم أي شرح. لن نرى إلا مزيدًا من التباين، خيبة أمل الزوجة من تصرفات زوجها، وضجر الزوج من هذه الرحلة المملة. لكن غياب الشرح والإسهاب في رسم الشخصيات، لا يعنيان أبدًا ركاكة حبكة القصة، وضعف الشخصيات، بل الأمر في الحقيقة عكس ذلك تمامًا.

إذ أن بناء شخصية الزوجين ورسم علاقتهما من الدقة والإتقان، ما يجعل الفيلم يتربع على رأس قائمة الأفلام التي تناولت موضوع انهيار العلاقة الزوجية، متفوقًا في هذه النقطة من وجهة نظري على أفلام مثل "زوجة رجل مهم" لمحمد خان، و Juliet of the Spirits" للإيطالي الآخر فيديريكو فليني، بل وعلى أعمال أدبية مثل رواية "السعادة الزوجية" للفرنسي المغربي الطاهر بن جلون.

ما جعل فيلم "رحلة إلى إيطاليا" مهمًا وملهمًا للسينمائيين الفرنسيين هو حبكته غير التقليدية، وغير الخاضعة للمعايير السائدة وقتها

لا يمكن تبرير هذا الإتقان الذي ظهرت به الشخصيات والحبكة في فيلم رحلة إلى إيطاليا، إلا بأن روبيرتو روسيليني بنى على الورق أو في ذهنه الأمور بطريقة كلاسيكية، فخلق لشخصياته ماضيًا ثريًا، وفهمها جيدًا، ثم قرر بعد ذلك التخلص من كل ذلك، مبقيًا فقط على فصول الرحلة إلى نابولي، ليصورها لنا بذلك الشكل المتقن المقنع الواقعي، تاركًا لنا حرية تخيل ماضي الشخصيات، وجذور مشاكلها، وطبيعة حياتها منذ تعرفهما على بعضهما وحتى وصولهما إلى ما نراه على الشاشة أمامنا. وكأن روبيرتو روسيليني يتعامل مع الفيلم بعقلية الرسام لا الأديب، يقتطع من الزمن لحظة يرسمها أمامنا بكاميرته، تاركًا لنا حرية تخيل ما قبل تلك اللحظة وما بعدها.

وحتى لا يكون مقالي تنظيرًا جافًا لا دليل عليه، سأتناول أحد المشاهد الحوارية في فيلم رحلة إلى إيطاليا بالتحليل، وهو المشهد الذي يبدأ في الدقيقة 37: 20 حسب نسخة البلوراي التي أصدرتها Criterion Collection سنة 2013، المشهد الذي نرى فيه عودة أليكس وكاثرين إلى البيت الذي ورثته، بعد زيارة للدوق ليبولي، زيارة كانت كاثرين فيها سعيدة بأحاديثها مع الدوق وضيوفه، مما يثير حنق الزوج. يبدأ المشهد بدخول كاثرين إلى البيت متجهمة، وكأنها لم تكن سعيدة منذ دقائق في بيت الدوق، ليدور الحوار التالي (ترجمة: Aghyad 9):

أليكس: هل قضيت وقتًا ممتعًا؟
كاثرين: كلا.
أليكس: غريب. لم أرك بهذا المزاج الرائق منذ فترة طويلة.
كاثرين: وأنت بدوت مسرورًا جدًا أيضًا.
أليكس: ماذا تريدين مني أن أفعل؟ أن أبدو ضجرًا؟
كاثرين: لماذا لا تعترف بأنك استمتعت بوقتك؟
أليكس: لا أريد أن أتكلم عن الموضوع، كل هؤلاء الإيطاليون يتحلقون حولك، ماذا كانوا يفعلون؟ يقصون عليك حكايات طريفة؟
كاثرين: أتشعر بالغيرة؟
أليكس: أهذا ما تظنينه؟
كاثرين: منذ أن أدركنا أننا لا نعني الكثير لبعضنا البعض، وأنت تفعل كل ما بوسعك لتجعل الأمر أسوأ.
أليكس: وماذا عنكِ؟ لم تقولي كلمة أو تقومي بفعل، تحاولين فيه أن تنقذي القليل المتبقي من زواجنا.
كاثرين: لماذا يجب أن أبذل الجهد وحدي؟
أليكس: لأن الخطأ خطؤك. الأمر كله خطؤك.
كاثرين: أعتقد أنه يجب أن تعرف أنني لم أستغرق وقتًا طويلًا بعد زواجنا لأدرك ما الخطأ، دائمًا هناك إنتقاد في عينيك، إنتقاد حتى سحقتني.
أليكس: هراء، لكن من المدهش أن أسمعك تقولين، أن ما أشعر به مهم بالنسبة لك.
كاثرين: ماذا تعني؟
أليكس: تمامًا كما قلت. أنتِ تتهمينني بإنتقادك، حسنًا، هذا ليس صحيحًا، بالطبع هناك أشياء قليلة لا تروقني فيكِ.
كاثرين: أعرف ذلك.
أليكس: إنعدام حاسة الفكاهة عندك، رومانسيتك السخيفة.
كاثرين: لكن عندما تضاءلت منزلتي من زوجة إلى مجرد مضيفة لأصدقائك، ثم لتدبر علاقاتك العامة، كنتَ تبدو مسرورًا حينها.
أليكس: اسمعي، لا أريد التحدث عن الموضوع أكثر من هذا. بدأتُ أشعر بالغثيان من هذا البلد المجنون، إنه يصيبني بالكسل، أريد أن أعود إلى المنزل، أن أعود إلى العمل.
كاثرين: أوه، أخيرًا. هذه الكلمة الكبيرة! لم أسمعك تذكرها منذ مدة، "العمل". أتوقع أن حديثك التالي سيكون عن الواجب.
أليكس: ألم تعد كلمتا "عمل" و"واجب" تعنيان لك شيئًا منذ وصولنا إلى هنا؟
كاثرين: لا تكن منافقًا.
أليكس: هذا يكفي.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Django" وانتصار الموسيقى على التهميش

يستحيل أن يكون حوار متقن وثري كالحوار السابق، ارتجالًا كتبه روبيرتو روسيليني بدون جذور للشخصيات وفهم عميق لطبيعة العلاقة بين أليكس وكاثرين، وكوننا لا نرى هذا على الشاشة لا ينفي وجوده. نرى في هذا الحوار القصير غيرة الزوج، ولومه لزوجته على ما آلت إليه العلاقة، وتحميلها وحدها مسؤولية إصلاحها، لإعتقاده أنه لم يخطئ في شيء حتى يصلحه، ونرى عملية يبدو أنها ممنهجة لتدمير ثقة الزوجة بنفسها، باللوم أو النقد الدائمين لها، والأهم من ذلك نرى طبيعة موازين القوى بينهما، الزوج هو السيد المنزه عن الخطأ الذي لا يسأل عما يفعل، وأما الزوجة فهي الناقصة ذات العيوب التي لا يحق لها التذمر، وعليها السعي لإرضاء زوجها وإصلاح ما أفسدته. كل هذا يتم تصويره بتكثيف مذهل في مشهد لا يتجاوز الدقيقتين!

سكورسيزي عندما صنع فيلمًا وثائقيًا عن تأثير الواقعية الجديدة الإيطالية على سينماه، أسماه "رحلتي إلى إيطاليا"

ولا يقف التجديد في فيلم عند حدود البنية السردية في قصة الزوجين، بل يتجاوزه ليشمل خطًا آخرًا يتخلل الحبكة الرئيسة، ويكاد يشغل نصف زمن الفيلم تقريبًا، خط يصور الفرق بين الشعب الإيطالي والإنجليزي، ويصور أهم المعالم السياحية في مدينة نابولي، مما يجعل الفيلم يشبه حملة دعائية لترويج السياحة في المدينة، وهو خط سيمنح للفيلم بعدًا وثائقيًا سيكون فيما بعد من أهم سمات الموجة الجديدة الفرنسية.

ختامًا، لا يسعني للتدليل على أهمية فيلم "رحلة إلى إيطاليا" إلا الإشارة إلى أن المخرج مارتين سكورسيزي عندما صنع فيلمًا وثائقيًا عن تأثير الواقعية الجديدة الإيطالية على سينماه، أسماه "رحلتي إلى إيطاليا My Voyage to Italy"، في إشارة لتأثره الشديد بفيلم روبيرتو روسيليني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إعادة نظر: Les Petits Chats.. الحنين لماضٍ ليس لنا

لماذا ننتظر فيلم "Dunkirk" بكل هذا الشغف؟