26-سبتمبر-2023
بوستر الفيلم وأبطاله

ينطوي الفيلم على حوار فلسفي مُضحك ومُريح (الترا صوت)

تستلهم المخرجة الكورية الجنوبية - الكندية سيلين سونغ أجزاءً من حياتها الشخصية لبناء فيلمها "حيوات سابقة" (2023). والفيلم حكاية امرأة ولدت في سيول، لكنها هاجرت مع عائلتها إلى كندا عندما كانت تبلغ من العمر 12 عامًا، لتنقلب حياتها حينها رأسًا على عقب.

تعيش نورا (غريتا لي)، بطلة الفيلم، التي تبلغ من العمر 36 عامًا مع زوجها في مدينة نيويورك، وقد مضى على مغادرتها سيول أكثر من 20 عامًا. وبعد كل هذه السنوات، يتواصل معها صديق طفولتها هاي سونغ (يوو تيو) الذي انفصلت عنه بعد الهجرة إلى كندا، ليُخبرها بأنه يريد زيارتها في نيويورك. فتتجدد حينها مشاعر التعلق التي كانت في الطفولة، لكن ما شعرت به لا يمكن التعبير عنه لأنها لم تعد بمفردها، ولأن المشاعر التي نحملها لبعضنا البعض، قد لا تكون ممكنة في بعض الأحيان.

ينطوي الفيلم على حوار فلسفي ينبض بالحياة، مُضحك ومُريح، ومُفجع بما ينطوي عليه من مشاعر أحيانًا، ومُبهج في أحيان أخرى 

يأخذنا الفيلم لاكتشاف مشاعر شخصياته وعُقدها وتداعيات القرارات التي تتخذها بشكل تدريجي، سواء نورا، أو هاي سونغ، أو حتى آرثر (جون ماغارو) زوج نورا. وهذه من ميزات الفيلم إلى جانب الإيقاع السردي الهادئ الذي يسمح للمشاهدين بفهم واستيعاب شخصياته تدريجيًا. ويمكن أن نضيف أيضًا الطريقة التي صوِّرت بها نيويورك بعد وصول هاي سونغ إليها، حيث تظهر المدينة المعروفة بازدحاهما من حولهما وكأنها فارغة، الأمر الذي يعطي مشاهد لقاءاتهما ميزة خاصة إلى جانب مشاعرهما المعقدة. 

"حيوات سابقة" فيلم عن الحب والحياة مليء بالحيوية بقدرٍ لا يمكن التنبؤ به. وقد خططت المخرجة الكورية لقصته المكونة من 3 أشخاص حالمين بدقة. ومن خلالهم، يقدّم الفيلم نظرة متأملة في عمر العشرينيات الصاخب، ثم الثلاثينيات التي وصل إليها أبطال الفيلم بشخصياتهم المتناقضة التي تدفع المشاهدين للتكهن حول طبيعة علاقتهم ببعضهم. 

وفي الفيلم حوار فلسفي نابض بالحياة، مُضحك ومُريح، ومفجع بما ينطوي عليه من مشاعر أحيانًا، ويُشعر المشاهد بالبهجة في أحيانٍ أخرى. والحوارات، إلى جانب الروائع البصرية والصوتية والعاطفة والفكر والروح، منحت هذه التجربة السينمائية أهميتها. وهي تجربة تعكس شخصياتها، في جانب منها، مسيرة طويلة في مدينة تتحقق فيها الأحلام وتتحطم كل يوم.

في أحد مشاهد الفيلم، يجتمع هاي سونغ ونورا وزوجها آرثر لتناول المشروب في حانة. وبدلًا من الاستماع إليهم، يستمع المشاهد لحديث الحاضرين في الحانة عنهما، حيث يتساءل هؤلاء عما يربط الرجلين بالمرأة الجالسة بينهما. يقترح أحدهم أن نورا وهاي سونغ سائحان، وآرثر هو صديقهما الأمريكي. بينما يخمن شخص آخر أنهم زملاء. 

ومع استمرار المشهد، يُشير الحضور  إلى مدى قرب الثلاثة منهم، وإلى كيفية استجابتهم لبعضهم البعض؛ كل ذلك بينما تقوم كاميرا سونغ بالتكبير ببطء على نورا، بينما الأغنية في الخلفية تمسك المشاهد على بعد مسافة قصيرة من ملامح أبطالها، مما يزيد من حدة غموض المشهد.

يبدو فيلم سيلين سونغ مليئًا بالأشياء غير الملموسة، المشاعر وحتى الكلمات. وفي الكثير من الأحيان، تركّز كاميرتها على نورا وهاي سونغ وهما في مواجهة بعضهما البعض، كما لو أنهما يقتربان من بعضهما، لكنهما لا يفعلان ذلك بسبب وجود خط غير مرئي بفصل بينهما.

 يتناول الفيلم مسألة تداخل خيوط الماضي بالحاضر، ويُبيّن كيف يمكن لفعلٍ مضى أن يشكّل حاضرًا معاشًا، ويؤثر على مستقبل آتٍ

الفيلم من الأفلام التي تحفّز التفكير المكثف. فعندما تنتهي من مشاهدته، تبدأ بالتفكير لا في الفيلم نفسه فقط، بل في كيف يتردد صدى المواقف في حياتنا الخاصة. وبغض النظر عن هويتنا أو من أين أتينا، فإننا جميعًا نتشكّل من خلال مجموعة لا حصر لها من المصادفات والخيارات. ففي بعض الأحيان نتخذ قرارات واعية لتغيير حياتنا. بينما تتغير حيواتنا في أحيانٍ أخرى بمهارة، ولا ندرك أن التغيير قد حدث إلا بعد فوات الأوان. كما أنه من الممكن أن تتغير مصيرنا أمامنا مباشرة، ونعلم أنها تتغير، لكننا عاجزون عن منع التغيير أو إيقافه. 

يتناول الفيلم مسألة تداخل خيوط الماضي بالحاضر، ويُبيّن كيف يمكن لفعلٍ مضى أن يشكّل حاضرًا معاشًا، ويؤثر على مستقبل آتٍ. فيلم يغوص في بحر الاحتمالات اللامتناهية لسؤال: ماذا لو؟ ويدعو لتحمّل المسؤولية وعقد سلام مع الواقع مهما كانت مرارته واختلافه عما كان مخططًا له. 

فيلم يدعو للتفكير في الوقت القصير المعطى لنا بهدف غلق صدوع النفس والاغتراب الذي يمكن أن نعيشه في حياتنا القصيرة، هذه مقارنة بعمر الكون وتاريخنا البشري.