23-نوفمبر-2022
بوابة مقبرة في فرنسا

بوابة مقبرة في فرنسا

على منصة نتفليكس، ما زالت ميريل ستريب شابة شقراء في فيلم "كرامر ضد كرامر"، المرأة التي أسّنت وشاخت في "لا تنظر للأعلى" هي ميريل ستريب أخرى. تمت بصلات إلى تلك الشابة لكنها ليست هي. إذ كيف يمكن أن تكون هذه السيدة المسنة هي نفسها تلك الشابة في اللحظة نفسها وفي الوقت نفسه؟ تلك المرأة الشابة ولدت في زمن إنتاج "كرامر ضد كرامر"، وبقيت معنا طوال هذا الزمن على صورتها نفسها ولم يطرأ عليها أي تغيير. العجوز التي تظهر في "لا تنظر للأعلى" هي امرأة ثانية، ولدت وهي بهذه السن، وستبقى على ما هي عليه إلى ما شاء الله. الزمن التكنولوجي الراهن يتيح للبعض ولادات كثيرة، لكنها ولادات مواليد ضد الزمن والوقت. لا يعبر الوقت في زمنهم المفتوح على اللحظة الحاضرة أبدًا.

الزمن التكنولوجي الراهن يتيح للبعض ولادات كثيرة، لكنها ولادات مواليد ضد الزمن والوقت. لا يعبر الوقت في زمنهم المفتوح على اللحظة الحاضرة أبدًا

على نحو مشابه، نكتشف أننا أيضًا لا نشيخ. آراؤنا، أفكارنا، صورنا، أصدقاؤنا هم أنفسهم ولم يتغيروا. ذات يوم، لم تنته دقائقه بعد، تحدثنا أنا وصديقي عبر وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي عن بعض شؤوننا، لكن هذه المحادثة لم تعبر. ها نحن نقرأ ما كتبناه يومها كما لو أنه حدث اليوم بالتحديد. كل ما يمكن أن نشهده من تغييرات على هذه الوسائط التي تشكل جزءًا أساسيًا من اجتماعنا المعاصر يتصل بتعداد الشهور والأيام. لكن السنوات لا تمضي. فقط يأتي تشرين، ويعقبه تشرين آخر، ثم يأتي تشرين الآنف ذكره مرة أخرى ويعقبه تشرين الآخر أيضًا. على نحو ما نحن ما قلناه وعلّقنا عليه في ذلك اليوم، وهو مثبت ومسجل، حتى لو كان أدعى لأن نخجل به.

ولأن الأمر يسير على هذا النحو من المراوحة في الزمن، بدأنا نتعلم كيف نكون عموميين ومبتسمين وسعداء، ذلك أن ما يبهظ هذه الساعة المتوقفة منذ دهر هو الأحداث الكبرى والعظيمة التي يجدر بنا أن نتجاهلها، أو نتجاهل تأثيرها علينا. ها نحن نلقي نكاتًا معلقين على حدث كبير. حدث قد يؤدي إلى ضياع مستقبل شعب كامل، لكننا نواجهه بالخفة التي توحي أن الأحداث لا تهزنا والأعاصير لا تطاول بيوتنا. يحدث انفجار في إسطنبول التركية. الأصدقاء يؤكدون عبر وسائل التواصل الاجتماعي أنهم سالمون. وحدهم الذين ماتوا لا يستطيعون إخبارنا أنهم سالمون، وأنهم ما زالوا هنا. وحيث إنهم ماتوا حقًا فهذا لا يضيرهم. ثمة أيام مقبلة سيظهرون فيها على شاشاتنا مبتسمين وفرحين وسعداء. إنه غياب مؤقت. أو لنقل إنه غيابنا عنهم. ذلك أننا في هذه اللحظة الممتدة بلا نهايات وأطراف، يحصل ألا نراقب كل معارفنا. حسنًا سنراقبهم غدًا، ونطمئن إلى أحوالهم ما أن تسمح الخوارزميات بظهورهم مجددًا. أصلًا نحن لا ننتقل من صحن دارنا وصفحتنا الشخصية إلى أي مكان. نستقبل الجميع مداورة، وكلما حل على صفحتنا ضيف من الأصدقاء، نحييه ونؤكد له أننا بخير وأنه بخير.

مع ذلك يحدث أن يشيخ المرء. أن يتعب، أن يعاني ألمًا في العظام. في هذه الأثناء، يجدر به أن يكون وحده. غائبًا عن داره وصفحته وحياته، لأنه لا يملك الوقت للأخذ والرد. يقعده المرض أو الألم أو الانشغالات عن التجاوب مع الآخرين. في هذه الأثناء ينتظره الجميع، وهم يعرفون أنه ذات يوم سيعود، مبتسمًا وفرحًا وسعيدًا. وسيستعيدون ناصية الحوار معه من حيث انقطعت.

العالم لم يعد ينظر إلى أبعد من صحن داره. ليس ثمة مستقبل ولا تنبؤات. هذا أمر باهظ الكلفة على المحللين والكتّاب، لكنه لا يضيرنا أبدًا. اليوم ما زال شبيها بالأمس، ما زالت الصفحة زرقاء، وما زال الأصدقاء يغردون ويعلقون. لم يؤثر قرار الفدرالي الأمريكي برفع الفائدة على الدولار على عالمنا. ما زلنا هنا، ولتحدث الأحداث خارج هذا العالم الذي لا يسير قدمًا.