23-نوفمبر-2021

من أعمال بارنيت نيومان

الاحتفال بميلاد فيروز، كما أي حدث آخر يأتي مؤخرًا من بيروت، يعيدني إلى النقطة صفر، كيف أعود إلى ما تركت وكيف أباشر ما بنيت؟ غالبًا ما أجد نفسي أتناثر في انقطاعات متشابكة لا تنتهي بين مغالبة النوستالجيا والأمل، ما كان وبقي وما سيأتي.

يُلغي نيومان سيلان الوقت ويسد المنافذ إلى الماضي وإلى المستقبل، وبذلك يمنع القفز من خلال وهج الألوان والخطوط الواضحة إلى التأويل والتذكر

في التفكير الدائم في مآلات العيش بين حياتين، متمدد كحفرة في الزمن، دائمًا أعود إلى لوحات بارنيت نيومان، خصوصًا تلك المتأخرة منها، أي ما رسمه في القسم المتقدم من حياته الفنية، وهو من بدأ أصلًا متأخرًا في الرسم والتلوين.

اقرأ/ي أيضًا: رسالة من إيتيل عدنان إلى رشيد قريشي: حنين المستقبل

في التفاعل مع بيروت من الخارج، يوقفني الانقطاع والابتداء والتنقل بين السياقات (context switching) مع ما يستدعي هذا من تعب إدراكي وحواسي، خصوصًا إذا ما كان الامر يتعلق بأماكن، وأشخاص، وأحداث حصلت ومشاعر اتقدت وذابت، وكل منها يقيم في أزمنة مختلفة في الذاكرة والوعي. الشعر أحيانًا يستطيع أن يُخرج هذه الانقطاعات إلى سياق مستقل، لكنه لطبيعته الرمزية لا يصمد كثيرًا.

غير إن الممتع عند زياراتي لوحات ونصوص نيومان، يخفت التفسير الإدراكي للسياقات هذه ويعلو الشاعري، لكن مع إطالة متماسكة.

في لوحات "أورنامانت" المتسلسلة مثلًا، يُلغي نيومان سيلان الوقت ويسد المنافذ إلى الماضي وإلى المستقبل، وبذلك يمنع القفز من خلال وهج الألوان والخطوط الواضحة إلى التأويل والتذكر. فاللوحة تبقي الإحساس في سياق الظهور والوحي. ففي الألوان الأحادية تقريبًا، والأشكال التامة والانقطاع الحازم بين المساحات المتناسقة يعطل نيومان قدرة التأويل، ويفعل هذا في توتر متصاعد محصور في نقطة توقف. أو إذا ما صح القول في توقيف الوقت والإدراك في نقطة واحدة.

نيومان يساعد في تجفيف الزمن، وبدقة أكثر، زمننا، زمن النمو والحروب والتكنولوجيا والسرعة. فاللوحة تعطل النوستالجيا والعزلات والأخبار على حد سواء، وتفتتح زمنًا رديفًا يتوقف على تخوم التذكّر والترقّب.

نيومان يتيح التآلف مع هذا التوقف. اللوحة تبني مكان المراوحة وتحفز عدم الرغبة على المغادرة، فإردة مساحة واسعة لصد تقدم الوقت من خلال إطالة اللحظي اللامع. خلافًا لفنانين آخرين يسلمون العين لسبل التخمين.

لحظات نيومن هي لحظات مصيرية متوقفة. هذا التوتر المتوقف يصنع سمتًا جديدًا، يتأرجح بين المبكر والمتأخر وبين عدم اكتمال الوقت للإجابة. أحسبه وقت إصغاء أكثر منه وقت نظر. والأرجح هو أن العين تصغي للّوحة في لحظة أسر تطول. اليكم بنيومان في لحظات الارق النوستالجي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

معرض قادر عطية في الدوحة: عن الصَّمت.. عن الصدمة أيضًا

ريم سعد.. رحلة عين مستنيرة