06-أغسطس-2021

التوصيلات الهاتفية في مقسم بمدينة بوسطن 1972 (Getty)

عزوت الكسل الذي ينتابني مؤخرًا إلى تقدمي في السن.

غير أن الابتسامة التي طافت على وجه أحد الأصدقاء الفنلنديين ممن أدمنوا ممارسة الرياضة، كانت كفيلة بتغيير الفكرة في رأسي فورًا، كما غيّرت مسار الحديث الدائر حينها فيما بيننا.

يبدو أن مرور الزمن على البشر بما يحمله من تطور على مختلف الأصعدة، يؤثر تأثيرًا متفاوتًا على الشعوب، وبدرجة أقل على الأفراد حتى لو انتموا لأمم مختلفة.

يبدو أن مرور الزمن على البشر بما يحمله من تطور على مختلف الأصعدة، يؤثر تأثيرًا متفاوتًا على الشعوب، وبدرجة أقل على الأفراد حتى لو انتموا لأمم مختلفة

هذه الفكرة المتطرفة جالت في رأسي بينما كنت أتمعن في مقولة "هذا أمر دُبّر بليل" التي اعتدنا على قراءتها في موروثنا حينما نسمع عن مؤامرة حيكت لتوقع بسلطان أو لتنال من أحد ما.

اقرأ/ي أيضًا: رسائل لن نقرأها

الأمر مفهوم طبعًا، لأن الظلام الذي يوفره الليل في زمن سالف، كان كفيلًا بستر ما يحضر من دسائس وحجب الاجتماعات عن الأعين الفضولية.

غير أن الزمن وحده بما وفره من تطور علمي وتكنولوجي، جعل من الليل والنهار ندين متساويين، فغدت المراقبة سهلة في قلب العتمة كما كانت سهلة في وضح النهار، وبالتالي، لم يبق من العبارة السالفة الذكر سوى مفهومنا عنها، فهي لم تعد حتى صالحة للترجمة للغة أجنبية إلا مرفقة بشرح موجز كما يحدث عندما نسمع أمثولة أجنبية لم نختبرها اجتماعيًا في حياتنا.

ولأوضح فكرتي أكثر يمكنني ضرب مثال آخر. نقول: نوم الظالم عبادة!

ولا يحتاج السامع منا لجهد يذكر كي يفهم المقصود، لكن الترجمة للعبارة السابقة ستغدو مضحكة لو لم ترفق بتوضيح، أو تعالج بمقابل مفاهيمي من اللغة الأجنبية التي ستنقل لها.

هذا أمر بديهي جدًا بالنسبة للمترجمين، لكن لننظر للأمر من زاوية مختلفة تتعلق بالصلاحية، فالزمن المتدفق أسقط العبارة بعد أن تغيرت أشكال الحكم وتطورت، ولم يعد نوم الحاكم الظالم نفسه عبادة في زمن كهذا الزمن، إذ أن كل ما من شأنه تسيير أمور المواطنين بات منوطًا بتوقيعه، ولم تعد أمور الرعية ماشية كما لو كان منعزلًا في قصره.

قس الأمر على الوالد الظالم أو المعلم الظالم أو أيًا يكن، وستجد أن الفكرة قابلة بشكل ما للتفكير.

امتدت حياتي كي أشهد ثلاث مراحل مختلفة لتطور صناعة الهاتف، ففي طفولتي البعيدة رافقني ذلك الهاتف الضخم الجميل ذو الطراز الفاخر، على جانبه بكرة تتحرك دائريًا بواسطة ما يدعى " بالبدّالة" التي يحركها مستخدم الهاتف لتصله بعاملة المقسم حين الطلب.

هذا النمط من الهواتف كان يوفر للقليل من الناس القدرة على التواصل، لأن خطوط الهاتف الموزعة من المقسم والتي يتقاسمها الموفورو الحظ كانت محدودة العدد.

غير أنك كمستخدم لهذا النمط، تدرك بأنك مراقب في حديثك من طرف ثالث متحكم بك، وهو المقسم نفسه، وبالتالي فحريتك الشخصية في الكلام محدودة أيضًا.

لاحقًا، جاء النمط الجديد من الهواتف مستغنيًا عن المقاسم كلها، متيحًا للناس القدرة على الاتصال دون شعور يذكر بأن هنالك أذن ثالثة تتنصت على الحديث، على الأقل من الناحية النفسية، فجميعنا علم لاحقًا بأن السلطات تستطيع مراقبة الهواتف لو أرادت.

ثم انتقلنا بقفزة هائلة لعالم مختلف تمامًا، هو عالم الموبايلات، وتحرر الجميع من الشبكات الأرضية، واعتقدنا أننا امتلكنا حينها حرية مطلقة.

غير أن التطور الذي حصل سريعًا، أدخل الحرية من الباب وأخرجها من الشباك.

الزمن مصفاة للشعور. ربما يكون هذا صحيحًا حين يتعلق الأمر بالأحاسيس، لكنه الزمن يغدو أداة قتل حقيقة للمفاهيم حين يحمل تطورات وقفزات

حدث ذلك حين أدرك الجميع، أنه ملزم بتلقي الاتصالات وأنه لا يستطيع تجنبها، وصارت المكالمات الفائتة بمثابة إشعارات محكمة تم تبليغها، وكم صار الواحد منا يشتاق لتلك الأيام التي كان يفصل فيها قابس الهاتف من مصدره فلا يسمع جرسًا، أو أنه يسمعه ثم لا يرد بكل بساطة، وحينها لن يعرف المتصل إن كان المتلقي نائمًا أو أنه غير عابئ بتلقي المكالمة.

يقول ستانسلافسكي: الزمن مصفاة للشعور.

اقرأ/ي أيضًا: الاستبداد وبذور التعصّب الجمعي

ربما يكون هذا صحيحًا حين يتعلق الأمر بالأحاسيس، لكنه الزمن يغدو أداة قتل حقيقية للمفاهيم حين يحمل تطورات وقفزات.

ذلك ما يدعو الصديق الفنلندي للابتسام حين يعتقد بأن فكرتي مضحكة حول الكسل الذي يصيبني، وهو الذي قضى حياته في زمن متطور إن صح التعبير.

وهذا ما يجعل مني صفحة غير مفهومة في كثير من سطورها لابنتي التي لم تختبر في عمرها القصير الافتقار للحرية ثم امتلاكها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن الحنين وأشياء أخرى

كل المحال مغلقة في شارع الحمرا