03-يونيو-2021

عمل فني لـ محمد حافظ/ سوريا

حين صحوتُ وجدته مُرابطًا هناك قرب المخدة، أول شيء رأيته في ذلك الصباح الفاصل كان ابتسامته الهازئة الجالسة بانتظار استيقاظي، قفز إلى عيني بمجرد أن تأكّد من أني فتحتهما جيدًا.

كل من هم أكبر مني سنًّا يعرفون تلك اللحظة، حين استيقظوا يوم أتمّوا الأربعين ليجدوا ذلك السؤال القاتل رابضًا هناك بانتظارهم. وبالتأكيد قفز كذلك إلى عيونهم فور فتحها، ليتسلل عبرها إلى الرأس ويستوطن هناك: هل يبلغ الشخص أربعينه؟ أم تبلغ الأربعين شخصها؟

هكذا تتحقق قاعدة البشر الكبرى: كل ألم معرفة. ومن الواجب الإقرار أنها قابلة لأن تقرأ بطريقة أخرى: كل معرفة ألم!

لا شكّ أنه السؤال الذي يواجهنا، نحن البشر، عند رأس كل عَقد منذ وصولنا إلى العاشرة، ظنًّا منا أن الأعمار تُحسب بأحد ألفاظ العقود، لا بكلمتي العدد المركب أو العدد المعطوف، لنجافي التعقيد ونُلقي بأنفسنا في أحضان فكرة هيراقليطس الذي حسم مُبكرًا كل ما يمكن أن يقال عن الزمن ومروره، على الرغم من أننا لم نتوقف عن العبث بجوهره، مرّةً باختراع الساعات، ومرّةً بتطوير الطبّ، ومرّاتٍ لا تُحصى في حصر صورته في أفعال اللغة وظروفها الزمانية وحسب.

اقرأ/ي أيضًا: مملكة هذا العالم

لكنّ الزمن شديد الوفاء لفكرة هيراقليطس، قادرٌ على استبعاد كل الأشكال التي حاولنا فرضها عليه، ولهذا سيظل يقول: يبلغ أربعينه، كما سبق وبلغ ثلاثينه وكما سيبلغ خمسينه، بمقدار ما يتغيّر.

يحقّ للإنسان إطلاق ذلك السؤال في كل عصر وأوانٍ، عند حدود كل مرحلة من عمره، ليخادع نفسه بأن يبدو حكيمًا، فيما حقيقة السؤال الذي يضمر داخله سؤالًا آخر أنه يخرج من أكثر مواضع النَّفْس البشرية سذاجة: كيف مضى الوقت سريعًا ورماني إلى الأربعين ولم أنتبه؟

أحيانًا كثيرة يُصدّق الواحد تلك العبارة الساذجة التي ترد في موال مصري "غدّار يا زمن". فليس ثمةَ ما يشرح مرور الأيام سراعًا، متحينةً منا الغفلة والسهو، مثلما يشرحها الافتراض بغدرها.

علّمني تقدم الزمن في المنفى أن أحبّ نفسي في الفترات المتأخرة أكثر منها في الفترات المبكرة، ففي الآن أنا أقرب إلى الفكرة التي أريدها، وفي ما مضى أنا أقرب إلى صورةٍ أُريدت لي. علّمني أيضًا مجافاة رغبة الناس بالصغر وعدم التقدّم في العمر، إذ كيف يمكن رفض ما في ذلك من النضج؟ من قال إن الشباب أجمل الفترات في الحياة؟ وإذا كانت الحياة شبابًا وحسب فما الحاجة إلى المراحل الأخرى؟ لم لا نعيش شبابنا ونموت؟

هنا ندرك كم يساهم فهمنا الذي يزداد إشعاعًا مع تقدّم الأيام في جعلنا نستمتع بشكل أكبر في أصغر أشيائها. فبالإضافة إلى أنه يرغمنا على رؤية الأزمنة اللاحقة ليس كمجرد وهنٍ في الجسم وتراجعٍ في الصحة وحسب، إنما يجعلنا ندرك أنّا من صنائع الألم. فهذا الذي نتمنى خلو الحياة منه هو بالضبط ما يجعلها حياة. وما يجعلنا خائفين قلقين هو أكثر ما يجعلنا جديرين بأنفسنا. لهذا لا تجب المطالبة بإنهاء الألم، لكن يجب تفسيره وفهمه.

هكذا تتحقق قاعدة البشر الكبرى: كل ألم معرفة. ومن الواجب الإقرار أنها قابلة لأن تقرأ بطريقة أخرى: كل معرفة ألم!

نظنّ أننا نعدّ الأيام، بينما هي من يعدنا فعلًا. الأنكى أننا نظنّ أننا نعدّها بالزيادة، في حين أن المفاجأة أنها تعدنا بالنقصان

فعلًا، لماذا نُعامل ما يمضي من الزمن بأنه خسارات؟ لم لا يكون شيئًا آخر، العكس مثلًا؟ أليست الخبرات المكتسبة ومعرفة الذي نريده بالضبط، وعلى أي نحو ومنحى نرغب في أن نكون.. ألا يساهم هذا في جعل إرادتنا على الحياة أكبر من إرادة الحياة علينا؟ حسبنا تزايد الحكمة في نظراتنا لنرى التقدّم في العمر أمرًا حسنًا، ولنكون واثقين أن أجمل الأيام هي تلك التي نمضي نحوها بقلوب خبيرة، لا تلك القديمة التي خضنا قفارها وبراريها دون بوصلة أو دليل.

اقرأ/ي أيضًا: أمّ المؤامرات

إذًا هذه مغانم البشر في حياتهم، والخسارة، في هذا المجال، هي ألا يحدث ذلك!

فلأكن حاسمًا؛ ما دام التحوّل يحدث على أرضية صلبة، يكتسب الواحد فيها هوية أو هويات جديدة، ويظل يتطور من الداخل أضعاف أضعاف ما يتغير من الخارج، سوف يغدو هو ذاته مثالًا على أن ما يقوله الناس خاطئ حين يعتقدون أن الإنسان لا يعود قادرًا على فعل شيء لأنه كبر، لأنّ التفكير الحيوي يقول إن ما هو أكثر صحة ودقة أن يقال إن الإنسان كبر لأنه لم يعد قادرًا على فعل شيء.

يستطيع من يرغب بتعذيب نفسه أن يقوم بعملية ضرب بسيطة لأيام السنة بالأربع والعشرين ساعةً اليوميّة ليحصل على رقم مهيب للأيام التي عاشها، ويستطيع بالطريقة ذاتها أن يجعل من خلال حساب الدقائق أو الثواني العمر يبدو أبدية طويلة ومديدة.. كم يحتاج القلب إلى خديعةٍ!

الحقيقة أن الأعمار تحسب بالكوابيس والمصائب.

لطالما قستُ عمري مثل غيري بتوقف الصغار عن البقاء صغارًا. ولعل أكثر ما عرفته عن زمني أتى من ابتعادهم عن الزمن الذي ظننت أنهم لن يغادروه. اليوم وجدتُ سبلًا أخرى لفحص زمني الذي يهرب من خلال تكاثر الغضون التي تنمو على حواف العيون، والشيب الذي ينبت بحماسة في الوجه والرأس، وبت ممن يقولون إن شيئين فقط هما الأقدر على شرح فظاعة أفعال الزمن: المرايا وألبومات الصور. لكن الأبعد من هذا وذاك أن المهم هو ابتكار المرء زمنه الخاص، زمنه الذي لا يقاس بساعات أو سنوات، من كل المواد الزمانية المتاحة أمامه: ماضيه وحاضره ومستقبله، بحيث لا يرضى بأطروحة التعاقب أنها يجب أن تأتي تباعًا، بالتالي يجب أن تعاش على هذا الترتيب، ولا يقبل بالشدة نفسها بأطروحة التجاور التي تقول إن الأزمنة تحدث في الوقت ذاته، وأن يعيش بمقتضى اقتناعه بأن المستقبل لم يحدث بعد، وبالتالي عليه نحته، باستعارة تعبير تاركوفسكي، ليجعل من الزمن مكانًا مألوفًا.

بعد أربعين سنة، لاحظت أن الناس رغم اختلاف الساعات والتقاويم تتعامل مع الوقت ضمن ثلاثة مستويات: البداية، النهاية، الانتظار. يبدأ كل شيء من ابتداء علاقتنا به، وينتهي مع انتهائها، وبالطبع تحمل كل من هذه البداية والنهاية في داخلها بدايات ونهايات، لكنّ مستوى الانتظار يرافق كل جزئية من هذه، فهو يأتي قبلها ومعها وبعدها. الانتظار هو الزمن ناظرًا إلى نفسه.  في مراحل العمر الأولى، تكون كلمة "سوف" هي التعبير الأشدّ حضورًا على شفاهنا، والأكثر تسربًا إلى هواجسنا، لأنها وسيلتنا لافتراض العيش المشتهى، ولأنها فرصة يمنحها الزمن للهروب منه.

فيما بعد، لاحقًا، لا أدري متى بالضبط، فالأمر متعلق بظرف كل أحد؛ تحتل الأفعال الماضية كلامنا ويتحول العيش إلى هوس باشتقاق ذكريات مما مضى تستحق أن تقضي حاضرك معها.

جاءت ثلاثيني بعد ثلاثة شهور من انطلاق الربيع العربي، فاعتبرت ذلك فألًا حسنًا، مع أنها بعد وقت ليس طويلًا قذفتني إلى المنفى، وهناك فرضَ عليّ فقدانُ المكان تضخيم علاقتي مع الزمان، ليس من أجل التعويض عنه بالاستعادات، بل من أجل سكناه مجددًا، مرة أخرى، دون أن أكون فيه، متحديًّا قوانين الفيزياء، ومبتكرًا من الغياب شكلًا من أشكال الحضور.

والآن ها أنذا أدخل الأربعين وأمامي انتفاضة تُعيد فلسطين إلى العالم وإلى معناها بلحظة واحدة؛ ولأجل ذلك أفهم أن هناك زمنًا إنسانيًا هو الزمن الاجتماعي التاريخي الذي يسير في شكل خطي طبعًا، والذي علينا أن نساهم في جعله زمنًا يتقدم على نحوٍ أفضل على مستوى الحقوق والعدل، وهناك الزمن الطبيعي الذي حاولنا مقاربته بالساعات والتقاويم وظلّ يسير في دائرة قطرها الليل والنهار، وهناك الزمن النوعي الذي اخترعته الثقافات ليكون مواسم للاحتفال أو لأداء الطقوس معينة، والزمن النفسي الذي يجعل من اللحظة الواحدة قرنًا كاملًا.. وهناك ما لا طاقة لي على إحصائه، لكن ما يعنيني أن الزمن الذي أسميه الزمن الخاص، الزمن الشخصي، المكوّن من مواد هذه الأزمنة التي لا تكف عن التراكم، الزمن الذي لا بداية فيه ولا نهاية، الزمن المدموغ بهوية صاحبه، وليس الأربعين، حيث أقف الآن، التي تبدو منتصف العمر ضمن حسابات التقويم الذي نسير عليه، ويمكن لها أن تغدو أواخره وبعدد آخر من السنوات ضمن الحسابات الفلكية لتقاويم أخرى.

فقدنا علاقتنا مع العالم ففقدنا الانتماء العميق الذي يمحو الفرق بين الكائن والشجرة والغيمة والجدول. هل قال الأسلاف "ارسمِ العالم على جسدي" سوى لكي نصيره؟

الزمن هو الموت الذي يكبر داخلنا ونكبر داخله، على الطريقة الرياضية الغريبة التي خرجت يومًا من فم جدتي التي لم تُعرَف لها حكمة سوى ملامحها، والتي يجب أن أؤكد أنها لم تقرأ معلقة طرفة بن العبد، ولا عرفت بخبره: "نظنّ أننا نعدّ الأيام، بينما هي من يعدنا فعلًا. الأنكى أننا نظنّ أننا نعدّها بالزيادة، في حين أن المفاجأة أنها تعدنا بالنقصان".

اقرأ/ي أيضًا: سرّ أبي

هل قلت إن الزمن هو الموت؟ لن أتراجع، خصوصًا أننا نسير في طريق ذي اتجاه واحد لا يُوصل إلا إليه. إلا أن الزمن لم يصبح كارثيًّا بسبب ذلك على الإطلاق، فالموت جزء حي من الوجود، أو ربما الوجود جزء حي من الموت! كارثتنا تكمن في أننا فقدنا علاقتنا مع العالم. فمنذ انفصلنا عن فضائنا الحيوي لم نعد نعرف التراب والهواء والغبار والطين وحسب، بل لم يعد الموت والميلاد يشكّلان أحداثًا أساسية في حياتنا، بمقدار ما تتشكّل القيمة في أثاث الشقة والممتلكات، كما توهمنا أعراف زمننا البائسة.

فقدنا علاقتنا مع العالم ففقدنا الانتماء العميق الذي يمحو الفرق بين الكائن والشجرة والغيمة والجدول. هل قال الأسلاف "ارسمِ العالم على جسدي" سوى لكي نصيره؟ بالتأكيد لا.

بكلمات أخرى؛ زرت بلدانًا أكثر من ابن بطوطة، وفي زمن أقل من السنوات الطويلة التي أنفق أيامها متجولًا. لكن ما هو أكيد بشكل راسخ أنه عرف أكثر مني، وشاهد أكثر مني، وانتمى للأماكن أكثر مني. ففي قليله بطءٌ أفاد في التفكّر، وفي كثيري إسراعٌ ما نابني منه غير اللهاث.

قليله البطيء أعطاه من كل مشهد كلًّ ما في المشهد، وكثيري السريع عبر بي عبورًا سطحيًّا فوق صورة واحدة من صور الأشياء، أو مما أخاله صور الأشياء.

لست رجعيًّا. لست من دعاة الماضي. أنا مجرد شخص يرثي الأشياء العظيمة التي أضاعتها سرعة العبور.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صخرة المنفى

متحف الموت