14-فبراير-2020

فرحان الخليل (فيسبوك)

رحل المخرج والممثل السوري فرحان الخليل يوم 13 شباط/فبراير 2019، قبل عيد الحب بليلة واحدة، عن عمر يناهز 65 عامًا. رحل آخذًا معه عشقه للمسرح وشغفه بالفن ودفاعه المستمر عن الفكر والعلم.

في الذكرى السنوية الأولى لرحيله، هذه بعض شذرات من حياته ومواقفه، وإضاءة على الهم الوجودي للفنان والمثقف بشكل عام وصراعه مع متطلبات الحياة والبقاء ومتطلبات الإبداع.

في عام 2014، دعاني لحضور عرضه المسرحي "عنبر رقم مليون" الذي يحكي قصة شخصين في عرض البحر على مركب هاربين من الحرب في سوريا، لكن المؤسف أن العرض المسرحي تم إيقافه من قبل أجهز الأمن والرقابة. وهذه مقتطفات من المسرحية، وهي من كتابة وتمثيل بسام جنيد وإخراج فرحان الخليل الذي يعبر بالقول عن العلاقة بين المسرحية والواقع السوري "ما قيل في المسرحية غيض من فيض".

يقول أحد الشخصيات في المسرحية نكتة لزميله: "بعرفلك واحد بيكتب تقارير، ضل يكتب ويكتب، يكتب ويكتب لحتى بالأخير أنتج مسرحية"

- يا سيدي قعدت ست شهور بالفرع ما أكلت ولا كف بالسجن.

- معقول!

- إيه ولا كف.

- كيف؟

- كلو لبط.

سافرت عائلته إلى ألمانيا. أرسلت له "لماذا لا تلحق بها يا فرحان؟"، يجيب "أرحل وأترك روحي في سوريا!"، مع العلم أن "الوطن حبيناه ما حبنا"، ويكتب على بروفايله في الفيسبوك كلمات لطلال حيدر "هج الحمام بقيت لحالي لحالي". أدفعه للهجرة "فل يا فرحان". يرد: "عايش لحالي وحيد متل الله".

كان وقع الحرب في سوريا مدويًا على الفن والفنانين والأدب والأدباء والحركة الثقافية برمتها في البلد

تمر فترة دون أن نتحادث عبر الهاتف فأسأل عنه: أين الغيبة؟، يرد "أنا مش غايب بس محكوم بالكهربا ما عم تجي والنت بطيء، يلعن الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج"، ومن ثم نضحك. أسأله "كيف كانت سهرتك ليلة رأس السنة؟ يجيبني "سهرتنا كانت عالعتم عم نشوي قهرنا على نار القلب، هون عنا قتل وموت وفقر وشحادة".

اقرأ/ي أيضًا: مبادرات قاسم اسطنبولي.. مسرح وسينما لإحياء ثقافة الأطراف

وحين أطمئن عليه: كيف صحتك؟ يصلني صوت ضحكته عبر الهاتف مع لكنته السورية المحببة "صحتي مو منيحة بس عم أتعايش مع اللحظات الجميلة، وعم عيش بهيدا الزمن الرديء بجمال قدر المستطاع". دعوته إلى بيروت فكان جوابه "سلملي على بيروت وأهل بيروت.. بيروت قطعة من روحي".

في إحدى المرات وأثناء مرضه ودخوله إلى المستشفى، سرد لي قصة أثناء خروجه من غرفة العمليات. صديق ما قال له بأن يتشهّد في حال وفاته تحسبًا لوجود إله ويوم حساب وعذاب، فلم يكن منه إلا أن رفع أصبعه الأوسط. كنا نتحدث عن الثورات والفن والعلم والمرأة، اختلفنا في وجهات النظر في العديد من النقاط واتفقنا في أخرى. في السياسة، ربما ناصر النظام السوري، بينما ناصرت الثورات، وجمعنا المسرح والفن والشك الوجودي.

قال لي: أمريكا والسعودية تدعمان الإرهاب وهذه ليست ثورة، ولا أفاضل بين النظام والمعارضة، النظام سيئ تاريخيًا، لكن هل هذه المعارضة هي البديل؟ أم أنه من قلة الرجال سمينا الديك أبو قاسم! أجبته: "الثورة كانت سلمية في بداياتها وبطش النظام كان وحشيًا لا يوصف". قال: هذا خريف عربي". أصريت بأنه ربيع عربي. قلت له "لنترك الحكم للتاريخ يا فرحان". أجابني: "فليكن". أحببته فوق الثورة. كان عبثيًا في صميمه وعاشقًا لسعد الله ونوس. ومن إحدى مقولاته "كل فكرة أحادية هي فكرة حقيرة".

المأساة السورية

كان وقع الحرب في سوريا مدويًا على الفن والفنانين والأدب والأدباء والحركة الثقافية برمتها في البلد، وطالت تأثيراتها العلاقات بين الشعب/الجمهور المتلقي وبين الأعمال الفنية والأدبية والثقافية المتاحة والمسموح بها، وقد ظهر ذلك بوضوح في الإنتاجات الفنية (الدراما التلفزيونية على سبيل الذكر لا الحصر)، وكذلك على طبيعة العلاقة بين الفنان ومجتمعه الذي يمثل جمهوره الأساسي بالدرجة الأولى. والحرب خلقت ظروفًا قاسية أمام الفنان، ففي أوقات السلم كان الفنان يصارع للبقاء ولتحصيل قوته، فكيف في أوقات الحرب والأزمات الاقتصادية!

يومها، في خضم الأحداث الدامية في سوريا، في بداية عام 2014 كتبت "ثمة جانب من المأساة السورية لا يمكن التعبير عنه بالكلام، وتعجز القصص والروايات عن تخيله أو الوصول به سرديًا إلى مرحلة الإحساس. ثمة جانب ما في تراجيديا هذا الشعب لا يمكن اختزالها أدبيًا وفنيًا، كما لا يمكن لتاريخ أن يصفها ويدونها أو يمحوها".

وأضفت: "ثمة جانب غريب مبهم ربما، وغامض ربما، ومأساوي ربما، وخارج عن المألوف البشري ربما، وعصي على الفهم ربما، مما يفقد اللغة القدرة على الشعور به وتحديده. إما أن يكون ثمة جانب غير إنساني معاد للطبيعة فيما مر ويمر به هذا الشعب، وإما أن العالم غبي وبشع ومنحط ويمر في عصر الغباء والبشاعة والانحطاط! ثمة جانب غبي من هذا العالم بالتأكيد".

وكان جواب فرحان الخليل على ما كتبته لا يخلو من القهر إذ رد بالكتابة قائلًا "لا شك أن هناك انحطاطًا إنسانيًا بكل معاييره فيما يخص المسألة السورية، وكما قلت إن هذه التراجيديا الحاصلة في القرن الحادي والعشرين ليس لها مثيل، ولا يمكن أن تحتضن دفتي رواية أو مسرحية ما حصل".

التراجيديا السورية التي شهدها القرن الحادي والعشرون ليس لها مثيل، ولا يمكن أن تحتضن بين دفتي رواية أو مسرحية

وأضاف "نحن السوريين، وأقول عن نفسي، نمارس الموت عيشًا، وهنا هو العمق التراجيدي للقضية. ومن المؤلم أكثر أن غالبية من السوريون لا يعون هذا العمق من الألم، فالفقر يفقد الإنسان الإحساس بكل شيء، والحاجة اغتصاب روحي. يا صديقي هناك تخمة مرعبة وثراء مريع ومخيف، وهناك صمت ينتظر الزوال. وبعيدًا عن السياسة، نحن السوريون نستجير بالموت ولا يأتي، وما يؤلم أننا أصبحنا مجالًا للشفقة والسخرية".

الفن والهم المعيشي

الفنان يحمل بداخله شغف إنتاج الفن، والمثقف يريد أن ينتج غزير الثقافة، ولكن يصطدم الاثنان بواقع صعب. الفنان عليه أن يعمل 8 ساعات يوميًا في مجال بعيد عن مجاله الفني أو الأدبي أو الثقافي، وأحيانًا يلجأ إلى العمل في الوسط الصحافي مما يستنزفه، أو يلجأ إلى العمل الفني والثقافي التجاري فتأتي أعماله ضحلة غير ذات معنى أو عمق، وإما يرتهن لتبييض صفحات الملوك والأثرياء والسياسيين فتخرج أعماله فاسدة، وربما في كل الحالات قد ينتج الفنان أو المثقف إنتاجات فنية وثقافية مبدعة لكنها لن تخلو من عيب من العيوب أو وصمة عار ستلاحقه حتى بعد الممات.

اقرأ/ي أيضًا: ماريانا بينيدا.. المرأة التي جالت في الطرق السرية لغارسيا لوركا

الفنان والمثقف يعيش على الهامش، وحيد، مهمل، متروك، تتصارع بداخله نزعات البقاء من جهة ونزق الوجود وقلقه وشغفه للأدب والفن والثقافة من جهة أخرى. الفنان قلق على الدوام، لكن قلقه ليس ذاك النوع من القلق المحفز للإبداع، وإنما ذلك النوع الذي يهد الفكر والجسم. إنه مضطر للتفكير بزوجته وأطفاله وأسرته، بدفع أقساط الكهرباء والمدرسة والمياه والمأكل والملبس والتدفئة والمسكن، في الوقت الذي لا يعير المجتمع أي أهمية لإنتاجاته الفنية والأدبية.

ناهيك عن فواتير الطبابة والأدوية وضمان شيخوخته ما يهدد الفنان والمثقف عمومًا في وجوده الجسدي المباشر، والأمثلة عديدة لفنانين شعروا بالمهانة في أواخر حياتهم بسبب عدم قدرتهم على الاستحصال على خدمة من القطاعين الخاص والعام، فوقفوا على أبواب أصحاب النفوذ لطلب الخدمات، وكثيرون من ناموا على الأرصفة وماتوا من البرد دون أي اكتراث لهم من المجتمع والدولة.

وهناك فرق شاسع بين مثقف يموت في عمر أربعين سنة بسبب الحرب أو المرض أو التعذيب في أقبية السجون أو النفي خارج البلاد وتغييب فنه ومنع أدبه بالاستبداد، وبين مثقف يخوله مجتمعه ودولته من البقاء والاستمرار ليبلغ 80 عامًا بفعل التقديمات الاجتماعية وتعويضات نهاية الخدمة والتسهيلات الثقافية والحريات التي يؤمنها له مجتمعه .

يضاف إلى كل ذلك، عدم تكافؤ الفرص أمام الفنانين والمثقفين، فيما الفرص توزع وفقًا لاجهزة الدولة الرسمية أو وفقا للجهات المانحة التي تمول من ينتج فنًا يعبر عن سياساتها، مما يحرم العديد من الفنانين والمثقفين من القدرة على الفاعلية والإنتاج الفني والثقافي. فيما يغيب عن البال أن الفنان والأديب والشاعر والمثقف بشكل عام، بشر من لحم ودم، ولديهم طموحات وأحاسيس، ولهم الحق في العيش بكرامة ضمن ظروف اقتصادية جيدة.

والفن مهنة، الشاعر مهنة، الأديب مهنة، المثقف مهنة، الرسام مهنة، الممثل مهنة، وغيرهم من الذين يفترض أن يعتاشوا من مهنتهم، في نفس الوقت الذي ينتجون فيه فنًا او أدبًا وثقافة. لكن في أغلب مجتمعاتنا يمكن أن يدفع المواطنون ثمن أركيلة لكن يبخلون بدفع المال ثمن كتاب! لذا يجب تغيير النظرة إلى الفن من اعتباره ترفًا إلى كونه عمل ويحمل كل صفات وسمات العمل والمهنة ويخضع للأجر والتسعيرة والمواد الأولية والجهد والوقت والجودة.

يجب تغيير النظرة إلى الفن من اعتباره ترفًا إلى كونه عمل ويحمل كل صفات وسمات العمل والمهنة ويخضع للأجر 

نجد أن المواطن يدفع مبالغ طائلة لقاء تصليح سيارته دون مفاوضة، لكنه لا يعامل اللوحة الفنية أو العرض المسرحي أو أي عمل فني من ذات المنظور، ذلك أنه يعتبر الفن والأدب والثقافة ترف يمكن الاستغناء عنه، ولأن الحكومات لا تبذل جهدًا في إيصال هذا الفن للعموم، بل تتركه خاضعًا لآليات العرض والطلب في السوق، كما أن الجمهور ليس مستعدًا بعد لاستهلاك الفن والأدب لقاء المال بل يعتبر أن وجوده يجب أن يكون مجاني.

اقرأ/ي أيضًا: مسرحية "صاحب الكرمل".. فلسطين التي نشتهي

لا عجب حينها أن مهن فنية قد اندثرت في مجتمعاتنا العربية وضاق فيها المجال. الحكواتي وفن الحكي يكاد يختفي، والمسرح مقتصر على المدن الكبيرة، ومعارض الرسم تقتصر على نخبة النخب والأثرياء، والأوبرا الغنائية يتم الاستهزاء بها من قبل الكثيرين فلا يجدون منها فائدة ترتجى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إعزيزة.. تمائم أرض السواد

بين الكواليس والخشبة.. كيف صوّرت الأفلام عوالم المسرح؟