30-أغسطس-2019

من فيلم The Ballad of Buster Scruggs

هذا العالم الواقع بين الكواليس والخشبة هو عالم فريد، يحدث فيه كل ما هو غير متوقع، يعيش فيه الممثلون تجارب إنسانية غاية في الغرابة، على الأقل هذا ما صوّرته لنا بعض الأفلام التي تدور أحداثها أو جزء منها في ذلك المكان.

عدد لا بأس به من الأفلام تطرقت لعالم التمثيل والممثلين وصوّرت الحياة على خشبة المسرح أثناء البروفات وداخل سراديب الكواليس وفي غرف الممثلين أثناء التحضير، يحدث في تلك الأمكنة مشاهد درامية وأخرى وظيفية تساعد في فهم الحكاية أو تقدم صورة عن الشخصيات التي ستؤدي دور شخصيات أخرى في علاقة مركبة تنقلها بعض الأفلام من داخل عملية الإبداع التي تغير شكلها وتؤثر عليها العلاقات الإنسانية على اختلاف شكلها وحدودها.

سنعرض عليكم أربعة نماذج من أفلام مختلفة للعلاقة بين الكواليس والخشبة، وكيف نقلت السينما تلك العلاقة، وما القصص التي أرادت أن تعرضها، وكيف تم توظيف المكان المسرحي في خدمة درامية الفيلم والحكاية.


1- المترو الأخير: المسرح مكان اختباء وإبداع

في الفيلم الفرنسي المترو الأخير عام 1980، للمخرج فرانسو تروفو، تدور أغلب أحداث الفيلم بين الكواليس الكبيرة وخشبة العرض المسرحي، كما يخلق الفيلم علاقة بين أسفل وأعلى، الأسفل هو مكان اختباء الكاتب والمخرج المسرحي اليهودي كارلوس شتاينر الهارب من النازي خلال احتلاله لمدينة باريس، يدير مسرحيته من الكواليس المخفية، فتتغير حياته شيئًا فشيئًا إثر ذلك الاختباء، وتعرض مسرحيته في الأعلى على الخشبة وتؤديها زوجته الممثلة وممثل شاب.

 تظهر في كواليس المسرح عوالم الحياة الموازية للممثلين وشخصيات الفيلم، كما وتعرض تجاربهم على عدة مستويات، بين ما يواجهونه في الخارج أثناء احتلال المدينة وقدرتهم على إخفاء هوياتهم، والتدريب على النص المسرحي الذي ينقلهم إلى عالم آخر مختلف تمامًا عن ذلك الذي في الخارج، ومستوى آخر نراه في الصراع على البقاء والصراع على استمرار العمل المسرحي، ويجري ذلك بشكلٍ أساسي في كواليس المسرح، التي تصبح وكأنها كواليس للواقع نفسه يتم فيها التدرب على مواجهة الحياة.

2- الرجل الطائر أكبر من المكان

تنقل أحداث فيلم الرجل الطائر Birdman 2014 للمخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليز إيناريتو، عوالم العمل المسرحي وأكثر من ذلك، تدخل إلى عقل الممثل ريجان الذي عليه أداء دور في مسرحية جديدة بعد هجره للتمثيل. إنه أمام تحدٍّ شخصي وفني، يضعنا كمشاهدين أمام فرضية متخيل/واقع. كذلك تساعدنا عوالم الفيلم المسرحية على فهم شخصية الرجل الطائر خصوصيتها وصعوبتها، كذلك نطلع على ذلك الجانب الغريب، الخفي والقلق من حياة الممثل الذي يريد أن يثبت جدارته ليس فقط بأداء شخصيته المسرحية، بل أيضًا يضعه الفيلم أمام تحدي إثبات نفسه بين رفاقه وابنته وزوجته السابقة، وكأن عالم ريجان في فيلم الرجل الطائر تحول إلى كواليس يعدّ فيها نفسه ويتحضر لمواجهة الجمهور الذي ينتظره في الحياة وفي الفن.

 يبدو عالم المسرح في الفيلم، عالم متوتر ومضغوط، يتسم بالعنف حينًا، وبالغرابة في أحيان أخرى، ولكنه ينقل صورة دقيقة عن تجربة عمل الممثلين ووجودهم داخل سراديب المسرح الضيقة والمضاءة بأنوار خافتة، وداخل غرفهم، فهي فضاءات تكشف عن الأسرار والمسكوت عنه، تجري فيها صراعات سرية دفينة وأخرى صريحة ومعلنة. حياة أخرى موازية، أسئلة وأفكار بين حقائق وخيالات لم تفكر فيها الشخصيات من قبل، هذه هي خبايا حياة الكواليس المسرحية كما يقدمها الفيلم.

3- المرج الباكي.. تراجيديا الشخصية

في الجزء الأول من ثلاثية المرج الباكي للمخرج اليوناني ثيو أنجلوبوليس، لا تجري الأحداث بين الكواليس والخشبة، إلاّ أن المخرج اختار تصوير أحد مشاهد الفيلم في دار أوبرا كبيرة، قديمة ومهملة، يلجأ إليها بعض الناس الهاربين، ويتم استخدام البلكونات كغرف يفصل بينها قطع قماشية، تعطي الحياة للمكان الفارغ.

 يضع المخرج شخصية سبيروس الذي يلحق خطى إيليني الطفلة التي تبناها صغيرة وأراد الزواج منها عندما كبرت، تهرب العروس برفقة أليكسس ابن سبيروس وأخيها بالتبني، يلجأن إلى تلك دار القديمة ليختبأن في إحدى البلكونات، ريثما يأتي سبيروس وينادي عليهما، وخلال حركته في المكان يصعد على الخشبة الفارغة فتبدو أمامه الصالة مهملة مغبرة كمكان منسي لشدة تلفه وضعفه. يصبح سبيروس وكأنه شخصية تراجيدية من أبطال الملاحم في ذلك المشهد القصير، يعرض حكايته أمام جمهور غائب في مكان منسي. يتم توظيف الكواليس والخشبة في الفيلم على أنها أمكنة تعكس حالة نفسية اجتماعية للشخصيات، وتقدم صورة عن حالة ما تصل إليها الشخصية.

4- تذكرة طعام لفنان واحد

واحد من فصول فيلم الويسترين ملحمة باستر سكراغز، للأخوين كوين تدور أحداثه على خشبة مسرح صغيرة، هي عبارة عن عربة متنقلة، تجوب قرى صغيرة لتعرض على الجمهور حكايات مختلفة، محيط العربة هو كواليسها، فضاء بارد وطقس شتوي، وهو مكان مفتوح على كل الاحتمالات بالنسبة للمثل ومن يقوده.

 يستعيد هذا الفصل ملامح العروض المسرحية الجوالة، حيث يحمل كل متفرج كرسيه الصغير ويحجز مكانه في العراء لمشاهدة العرض، والأخير ليس أكثر من نص شعري أو نص آخر مأخوذ من مسرحية أو ملحمة، تتلى النصوص على مسامح الجمهور، الذي يدفع ما يستطيع ويذهب متفكرًا بما سمعه.

الفصل معنون بـ"بطاقة طعام واحدة"، والعنوان جوهر لما ستحمله الأحداث المبنية بشكل أساسي على وجود تلك العربة التي تحمل الكثير مما يجب أن يقال، وما يحدث بين الكواليس، الفضاء الخارجي وحياة الفنان التي لا يظهر منها إلاّ عمله المسرحي، لتصبح الخشبة مكان ثابت يعيش من أجله الفنان، تمكنه من قول ما لا يقوى على قوله في الواقع، أما الكواليس فهي العالم الخارجي الذي لا يستطيع أن يفعل فيه أي شيء، وهي مكان يهدد بالخطر على الدوام.

اقرأ/ي أيضًا:

6 فصول عن الموت في فيلم "The Ballad of Buster Scruggs"

فيلم The Green Mile: مداواة الشر بالشر