29-فبراير-2024
رواية فتاة البرتقال لجستاين غاردر

فتاة البرتقال لجوستاين غاردر

"الآن أغمضت الشمس عينيها، وبعد قليل سأغمض عيني أنا أيضًا" مقطع من تهويدة اسكندنافية وردت في رواية فتاة البرتقال، التهويدة تُغنى للطفل لينام، لكنها ضمن سياقها في النص تُدرج كمحاولة للتأسي بفكرة الأفول- الموت، فالشمس التي ستغمض عينيها، ستفتحهما صباح اليوم التالي، لكن ليس الحال كذلك بالنسبة إلى جون أولاف.

من هو جون أولاف، قد يسأل سائل! 

جون أولاف هو الأب الذي احتال على الموت وأعاد بعث نفسه شبحًا بعد 11 عامًا من الغياب. لا تفزعوا، فرواية فتاة البرتقال ليست في حال من الأحوال رواية خيال وخوارق. بل لعلها أبعد ما يمكن عن هذه الخرافات. فما الحكاية إذن؟ وأنّا للميت أن يعيد بعث نفسه؟

 

فتاة البرتقال

رواية فتاة البرتقال (ترجمة مدني قصري، دار المنى) ليست الرواية الأولى للكاتب النرويجي الشهير جوستاين غاردر. الذي عرف في الأوساط الأدبية بعد روايته سر السوليتير أو سر الصبر كما في التسمية العربية للرواية مترجمةً. وذاع صيته عالميًا بعد رائعته عالم صوفي، التي صاغ فيها بأسلوب مبدع شيق تاريخ الفلسفة منذ نشأتها وقرّبها للناشئة. واعتبرت العمل الأبرز الذي سلط عليه الضوء ككاتب ومدرس للفلسفة. ولرواية فتاة البرتقال نصيبها من توظيف الفلسفة كذلك، فإن كانت عالم صوفي العمل الأبرز والأكثر روعة، فإن فتاة البرتقال لا تقل روعة، بل هي كذلك الأرق والأشد عذوبة والأقرب إلى القلب.

 

الحكاية

جورج فتى في الـ15 من عمره، والده ميت منذ 11 عامًا، ويكاد لا يذكره إلا من خلال الصور وشرائط الفيديو، وهو يعرف من خلال جدته وأمه أن والده جون أولاف كان حزينًا جدا لأنه سيفارق الحياة قبل أن يتاح له توطيد علاقته بابنه. فقرر كتابة رسالة مطولة يوجّهها إلى ابنه الناضج الذي لن يكون بمقدوره الحديث إليه مباشرة. هذا التوق الذي حمله الأب حتى لفظ آخر أنفاسه يتبدى في الجملة الأولى التي قرأها جورج بمجرد أن استلم الطرد الثقيل:

" هل أنت مرتاح في جلستك يا جورج؟ من المهم أن تكون جلستك مستقرة على الأقل، لأني سأقص عليك الآن حكاية مثيرة قد ينقطع لها نَفَسك انقطاعًا"

استعاد جورج صوت والده في الجملة المكتوبة، ليس كما اعتاد عليه في الفيديوهات، بل شعر كأن "الصوت حقيقي وقد عاد إلى الحياة وجلس بيننا في الغرفة"

وللحق فليس جورج وحده من شعر بالرهبة لهذه الجملة، فلا شك أن القراء كذلك استشعروها، ولعلها استفتاح قوي استند إليه غاردر عن وعي، ليجذب انتباه القارئ أكثر، بل ليورّطه في هذه الحكاية ويتملّك فضوله تجاهها.

يستمر جورج في القراءة، ونحن أيضًا، لنعرف أن الرسالة تحتوي على لغز يطلب أولاف من ابنه مساعدته في حله، وهو متعلق بفتاة البرتقال كما أسماها، ومن خلال الرسالة يطرح الأب الكثير من التفاصيل الدافئة، ويسهب في الحديث عن حبه للفلك خالقًا رابطًا حميمًا مع ابنه الذي يجهل كيف صار خلال غيابه، هذا الرابط الذي كان جورج يحاول أن يتلمّسه من خلال الصور والذكريات المتروكة دون أن ينجح.

بمجرد أن يُفتح الطرد في غرفة جورج، تنفتح أبواب على مصراعيها نحو المجهول الذي سيجتذبنا إليه الأب لنشارك جورج بحثه عن حل لغز فتاة البرتقال.

 في الإطار الزمني المتعدد

الرواية رغم أنها لا تزيد عن 200 صفحة، إلا أنها تغطي 3 أزمنة، فهي قائمة على الذكرى والاسترجاع. نكون بداية في الزمن الحاضر، الذي يقرأ علينا فيه جورج رسالة والده. ثم نذهب إلى الزمن الذي كتبت الرسالة فيه، في آخر أيام جون أولاف، والزمن الداخلي للرسالة الذي يروي فيه جون أولاف قصة حبه مع فتاة البرتقال- اللغز.

ينقل جوستاين القارئ بسلاسة في الأزمنة؛ كلها نكون مع الأب وهو يخاطب جورج، ثم مع جورج وهو يعلق ويحلل ويتشرب ما كُتب في الرسالة، ثم نُخطف من جديد إلى حكاية فتاة البرتقال، لنشارك في تتبع الخيط الذي يربط أولاف بتلك الفتاة. بل يعتني كذلك بالزمن التفصيلي للأحداث (في فصل الخريف، فترة الأعياد، ذكر زمن التقاط تلسكوب هابل لصورة السوبرنوفا 1987، أنهى جورج كتابه قبل الأعياد أيضًا) كأنه يشير إلى الزمن الدوار في حلقات يكمل بعضها بعضًا.

كان أولاف ابن 19 عامًا، في سبعينيات القرن الماضي حين وقعت عيناه على فتاة تلبس مِمطرًا برتقاليًا وتحمل كيس برتقال كبير في الترام. وعندما نظرت إليه يقول أولاف "وكأن رباطًا خفيًا قد نشأ بيننا" هذا الرباط، سيشد أولاف في رحلة للبحث عن هذه الفتاة، وتتبع أي خيط يوصل إليها. وقد عرفها في النهاية، إنها فيرونيكا صديقة طفولته، بعينيها البنيتين السنجابيتين، ووجها المشرق وشعرها البني الداكن، وغمازتيها الخلابتين. 

يظهر من تسمية الرواية بروز الدلالة اللونية للون البرتقالي، من خلال المشهد الأول الذي تظهر فيه الفتاة، ومن خلال بستان البرتقال الذي يلتقيان فيه لاحقًا، ومن خلال حقيقة أنه لا توجد برتقالة تشبه الأخرى تمامًا. كل هذا البرتقال القافز في النص، ربما يعطي دلالة الدفء والبهجة في جو الشتاء البارد والشاحب الذي التقى الحبيبان فيه،  في بلاد شتاؤها قارس وطويل. ومن ناحية أخرى أرى في توظيف ثمرة البرتقال انعكاسًا للنضج والبراءة مجتمعين: في الحب النزيه، وكذلك العاطفة الحنونة حين يشارك الأب ابنه كل المراحل التي عبرت فيها قصة حبه وتتبعه لهذه الفتاة، مركّزًا على فرادتها، وكيف أنه سُحر بها واستسلم بكامل وعيه لهذا السحر. وكيف أن هذه الفتاة التي ملكت عليه كيانه قد صارت قدرًا يريد هو أن يكون تحت رحمته. وقد كان! أما من تكون فيرونيكا على وجه التحديد فهذا ما سُيترك للقارئ ليكتشفه بقراءة الرواية.

في الظاهر قد تبدو قصة فتاة البرتقال قصة حب تجمع أولاف مع فيرونيكا، ولكنها تقدم قصة حب من مستوى آخر تجمع الأب الذي يعي قرب موته من ابنه ذي الـ4 سنوات آنذاك.

 في الإطار المكاني المتعدد

ضمن الإطار الزماني تتعدد الأمكنة التي تسبح الأحداث في فضائها، فمن غرفة معيشة بيت جورج الحالي حيث يجلس جداه وأمه وزوجها وابنتهما، مجتمعين على وجوههم أمارات الجدية ليتسلم جورج طرد الرسالة، نعرف أن هذه الرسالة مكثت عقدًا كاملًا من الزمن في عربة جورج الحمراء، التي أوصى الأب على تركها وعدم التفريط فيها. ولحسن الحظ تذكرت الجدة العربة وخطر ببالها أن تتفحصها فوجدت الطرد المعنون بعبارة (إلى جورج).

وبمجرد أن يُفتح الطرد في غرفة جورج (التي كانت لوالده من قبله)، تنفتح أبواب على مصراعيها نحو المجهول الذي سيجتذبنا إليه الأب لنشارك جورج بحثه عن حل لغز فتاة البرتقال.

تطوف بنا الأمكنة إذن، في السويد التي تذكر بمدنها (خاصة أوسلو) وضواحيها والشوارع بتسميتها الواقعية حيث تدور الأحداث، ثم نسافر إلى اشبيلية في إسبانيا، وإلى مزرعة البرتقال التي التقى فيها جون بفيرونيكا لاحقًا، ونعود إلى السويد، إلى المشفى التي يتعالج فيها جون، وإلى الغرفة التي يكتب فيها رسالته.

 

سرد واقعي وركيزة خيالية

يمتاز جوستاين غاردر بسرده الجاذب، وتبدو عليه الحنكة في صياغة رواياته، ومنها فتاة البرتقال، فجوستاين يمزج بين الواقعية العلمية (من خلال حديثه عن الفلك وتلسكوب هابل تحديدًا، والأمكنة بمسمياتها والتواريخ الحقيقية) والواقعية السحرية التي تحيل بمشاكسة إلى القصص الخيالية، فيستحضر ساندريلا، ويصف الأب نفسه كالأمير الذي تُرك مهجورًا لغيابها، ويستحضر الجنيات، وبعض الخوارق، والحديث عن الأشباح حين يصف أولاف نفسه بالشبح في بداية الرسالة، يعطي هذا المزيج للرواية روح الحكايا الخرافية بجمالياتها وغرائبياتها وأجوائها المليئة بالسحر والغموض، وحين يعيدنا إلى الواقعية، لا يهبط بنا بقوة إلى عالم ننتمي إليه، بل يهبط بنا برفق، ليتناول أثقل الموضوعات بخفّ الريشة، موضوعات الحياة والموت والبقاء والفلك والمجرات والنجوم ونشأة الكون.

هذا المزج الفائق، هذه القدرة على استلاب المخيلة واختطافنا من أنفسنا، هذه الرهبة التي تتميز فيها روايات غاردر. تجعلنا نرغب في أن نواصل الطواف في ملكوت عوالمه التي يصنعها، ولا ننفك نعود إليها مجددًا كلما اشتهينا الدهشة.

 

هل يصمد الحب حقًا في مواجهة الموت؟

هل الحب ضرب من ضروب الخلود؟

في الظاهر قد تبدو قصة فتاة البرتقال قصة حب تجمع أولاف مع فيرونيكا، ولكنها بالإضافة إلى قصة العشق بينهما، تقدم قصة حب من مستوى آخر تجمع الأب الذي يعي قرب موته من ابنه ذي الـ4 سنوات آنذاك.

هذا الرابط الذي كان الأب يأمل في تكوينه لو أسعفه الزمن، هذا الحب، هذا الحزن الجارف الذي يغمر الأب ويعترف فيه لابنه، من عدم قدرته على مواصلة العيش. هذه المسؤولية التي يلقيها على عاتق ابنه بأن يعيش الحياة مثمنًا تفاصيلها وعواطفها وروابطها مع أهم الناس بالنسبة إليه.

هذا الأرق المزمن الذي يسمى الزمن! ما هو الزمن يتساءل جون أولاف؟ ويسأل ابنه. وصورة السماء التي يصورها في الرسالة، وحكاية نشأة الكون، وتلسكوب هابل، الذي يشبه مرآة ترينا انعكاسًا لفترة سحيقة القِدم للكون، ومقارنة أعمار البشر به..
"الحياة يانصيب عملاق، لا ترى منه سوى الأوراق الرابحة" بعبارة والده يختم جورج كتابه الذي سينشره مضمنًا أياه أفكار والده وذكرياته معه.

الحياة نصيب عملاق، يقول جون أولاف، ويسأل ابنه مباشرة فيما لو أتيح له الخيار بأن يُمنح نعمة الحياة مع علمه بأن نهايتها موت مجهول التوقيت، أيقبل في أن يعيش حياة لا يعرف كم ستمتد؟ ويعرف أنها ستنتهي.. أم سيختار أن لا يشارك في اللعبة كما يقول؟

 

كعادة غاردر في رواياته يتضح كم هو مغرم في طرح الأسئلة أكثر من سعيه إلى إيجاد الإجابة عنها، وكم هو صادق في تكريس كتاباته لإثارة الأفكار الفلسفية التي تدفع القراء إلى إعادة النظر في المألوف، أو إلى النظر فيه بعين جديدة، ويوظف هذا من خلال تركيزه على الذات (ذات الشخوص) من خلال تفاعلها مع الذوات الأخرى في النص، ومن خلال تركيزه على الكون ونشأة الحياة، والإيحاء بأن الذات في خصوصيتها إنما هي انعكاس للكون الشاسع. هذا التآلف بين روح الإنسان وروح الكون، هذه العلاقة ذات الطابع السحري الأسطوري تستحق منا إدراكًا أكبر لحقيقة هذا الكون ومغزى حياتنا فيه. مهما بدت قصيرة.