16-مايو-2020

أورهان باموق (فيسبوك)

كتب أورهان باموق، الروائي التركي الحائز على جائزة نوبل في الأدب 2006، المقالة أدناه في صحيفة نيويورك تايمز، عن روايات الجوائح. هنا ترجمة "ألترا صوت" للمقالة.


على مدى السنوات الثلاث الماضية عكفتُ على كتابة رواية تاريخية تدور أحداثها في عام 1901 أي خلال ما عُرفَ بالطاعون الثالث، عندما تفشى الطاعون الدُمَّلي-النَزفي (Bubonic plague) الذي أهلكَ ملايين البشر في آسيا، لكنه لم يقتل إلَّا عددًا قليلًا في أوروبا. وخلال الشهرين الماضيين، ظلَّ أصدقاء لي وأقارب، ومحررون وصحافيون، ممَّن يعرفون موضوع تلك الرواية، "ليالي الجائحة"، يُمطرونني بوابلٍ مِن الأسئلة حول تفشي الأوبئة.

يقدّم أغلب الأدب المكتوب عن الأوبئة والأمراض المٌعدية لامبالاةَ ذوي السُلطة، وانعدام كفاءتهم وأنانيتهم، كعامِلٍ أوحَد لإثارة غضب الجموع العارم

إنَّ فضولهم الأكبر مُوجه نحو أوجه التشابُه بين وباء فيروس كورونا الحالي والوقائع التاريخية لتفشي كلٍ مِن الطاعون والكوليرا. ثمة تشابهات وفيرة، وما يجعل الجوائح الوبائية تتشابَه عبر التاريخ الإنساني والأدبي ليس هو القواسم المشتركة بين الجراثيم والفيروسات، ولكن أنَّ ردود الأفعال الأولية للبَشر كانت هي نفسها على الدوام.

اقرأ/ي أيضًا: ذات يوم سينتهي هذا الزمن الغريب.. كتب للأطفال في زمن الجائحة

إنَّ رد الفعل الأولي لتفشي أي وباء كان هو الإنكار دائمًا. ولَطالما تأخرت استجابة الحكومات على الصعيدين القومي والمحلي المحدود، كَما عمدت الحكومات إلى تشويه الحقائقَ والتلاعُب بالأرقام بهدف إنكار سريان الوباء.

في الصفحات الأولى مِن "يوميات سنة الوباء"، وهو أبرز عمل أدبي كُتبَ على الإطلاق حولَ انتقال العدوى والسلوك البشري، يورد كاتبه دانييل دافو معلومةَ أنَّه في سنة 1664 حاولت السُلطات المحلية في بعض أحياء لندن أن تجعل عدد وفيات الوباء يبدو أقل بتسجيل أمراض أخرى مُلفَّقة باعتبارها سبب الوفاة الرسمي في السجلات.

 لعلَّ رواية "المخطوبون" (1827) هي الأشد واقعية بين جميع ما كُتبَ حول تفشي الوباء، وفيها يصف الكاتب الإيطالي ألِساندرو مانزوني، بل ويؤيد، غضبة السكَّان المحليين إزاء رد الفعل الرسمي على وباء عام 1630 في مدينة ميلانو. فبالرغم مِن وجود برهان أكيد، تتجاهل حكومة ميلانو تهديد المرض، بل إنها لم تلغِ الاحتفالات بعيد ميلاد أحد أمراء المدينة. عرضَ مانزوني كيف انتشر الوباء بسرعة خاطفة لأنَّ القيود والاحترازات لم تكن فعَّالة أو كافية، وكذلك بسبب التراخي في فَرضها ولأنَّ مواطنيه لم يحفلوا بها.

يقدّم أغلب الأدب المكتوب عن الأوبئة والأمراض المٌعدية لامبالاةَ ذوي السُلطة، وانعدام كفاءتهم وأنانيتهم، كعامِلٍ أوحَد لإثارة غضب الجموع العارم، غير أنَّ أفضل الكُتَّاب، مِثل دافو وكامو، سمحوا لقرائهم اختلاس لمحة سريعة نحو شيءٍ آخَر غير الأبعاد السياسية، شيء يكمنُ دفينًا تحت موجة الغضب الشعبي، شيء جوهري ومتجذّر في الشَرط الإنساني.

تُظهر رواية دافو أنَّ وراء الاحتجاجات التي لا تنتهي ووراء السخط العارِم غير المحدود ثمَّة كذلك غضبٌ مِن القَدر، مِن القوى الإلهية التي تشهد ما يحدث وربما حتَّى تتغاضى عن كل هذا الموت وكل هذه المعاناة الإنسانية، وسخط ضد المؤسسات الرسمية للدين التي يبدو أنها لا تعرف كيف عساها أن تتعامَل مع أيٍ مِن هذا.

كان إطلاق الشائعات ونشر المعلومات الخاطئة مِن بين ردود الفِعل الإنسانية الأخرى التي تتسم بأنها عالَمية وتكاد تكون تلقائية إزاء الجوائح والأوبئة، فخلال مثل تلك الحوادث في ما مضى، كان وقود الشائعات هو المعلومات المضللة واستحالة رؤية الصورة الأشمل.  

كتبَ كلٌ مِن دافو ومانزوني عن أشخاص يتخذون مسافةً مِن بعضهم البعض عندما يلتقون في الشوارع خلال الأوبئة، لكنهم أيضًا يسألون بعضهم بعضًا عن الأخبار والحكايات الخاصة بمدنهم وأحيائهم، وهكذا ربما يكون بمقدورهم تجميع أجزاء صورة أشمل للمرض. لأنهم عبرَ تلك الرؤية الأوسع فقط يكون بوسعهم أن يأملوا في الفرار مِن الموت والعثور على مكانٍ آمِن يلوذون به.

في عالَمٍ بلا صُحف ولا راديو ولا تليفزيون ولا إنترنت، فإنَّ أغلبية السكَّان مِن الأُميين لم يكن بحوزتهم غير أخيلتهم يعتمدون عليها لكي يستوعبوا أين يكمن الخطر، ومقدار شِدّته ومدى ما قد يتسبب فيه مِن عَناءٍ وكَرب. الاعتماد على الخيال يعطي خوفَ كل شخصٍ صوته الفردي الخاص، ويضفي عليه طابعًا غنائيًا – طابعًا محليًا وروحيًا وأسطوريًا.

أكثر الشائعات رواجًا في أزمنة تفشي الأوبئة تدور حول مسألة مَن الذي جلبَ المرض إلى البلاد، ومِن أين أتى. في منتصف شهر مارس تقريبًا، وبينما أخذت موجة الذعر والخوف تسري عبر تركيا، أخبرني مدير البنك الذي أتعامل معه، في حي جيهانغير الذي أقيم فيه في إسطنبول، أخبرنبي بنبرة المطلع على الأمور بأنَّ "هذا الشيء" كان ردًا اقتصاديًا مِن الصين على الولايات المتحدة وبقية العالَم.

لَطالما رُسمَ الوباء في صورة الشَر الشيطاني، مِثل شيءٍ قد أتى مِن الخارج. لقد اندلعَ في مكانٍ آخَر مِن قبل، ولم تؤخذ التدابير الكافية لاحتوائه هنالك. عندما سردَ ثوسيديديس، المؤرّخ الإغريقي القديم، انتشار الوباء في أثينا بدأ بذِكر أنَّ بؤرة التفشي كانت بعيدة للغاية، في الحبشة ومصر.

المَرض أجنبي، وافدٌ علينا مِن الخارِج، مجلوب بنية خبيثة. كانت الشائعات حول الكيان المفترض أنَّه الحامل الأصلي للوباء هي الأشد شعبيةً وسريانًا على الدوام.

في رواية "المخطوبون" يصف مانزوني شخصية مُتخيلة هي أقرب إلى تجسيدٍ للخيال الشعبي إبَّان أزمنة تفشي الأوبئة منذ العصور الوسطى: في كل يوم تسري شائعة حول ذلك الكيان الشيطاني المؤذي وهو يتسلل في الظلام مُلطخًا مقابض الأبواب وملوثًا ينابيع المياه بسائلٍ موبوء بالطاعون. أو لَعلّه رجل هرم مُنهَك كان قد جلس ليستريح على الأرض داخل إحدى الكنائس فرأته امرأة عابرة واتهمته بأنه يفرك ثوبه في الأرجاء لكي ينشر المرض، وسرعان ما يتجمَّع عليه الغوغاء لتنفيذ حُكمهم العاجل فيه.

مِثل تلك الانفجارات المباغتة والعصية على السيطرة، مِن العنف والأقاويل والذعر والتمرد، هي أمور شائعة في ما يروى عن الجوائح والأوبئة منذ عصر النهضة فَصاعدًا. حمَّل ماركوس أوريليوس المسيحيين في الإمبراطورية الرومانية مسؤولية انتشار الطاعون الأنطوني لمرض الجُدري، بما أنهم لم يشاركوا في طقوس استرضاء الآلهة الرومانية. وخلال أوبئة تالية على ذلك اتّهم اليهود بأنهم سمموا الآبار سواء في الإمبراطورية العثمانية وأوروبا المسيحية.

يُرينا تاريخ الأوبئة وأدبها أنَّ ما يحدد عمق غضب العامة المصعوقين ومدى سُخطهم السياسي هو مقدار ما يقاسيه هؤلاء مِن معاناة، وخوفٍ مِن الموت، وجَزعٍ ميتافيزيقي، وإحساسٍ بالغرابة.

وَكما في تلك الجوائح الوبائية القديمة، فقد كان للشائعات التي بلا أساس وإلقاء الاتهامات بناءً على القومية أو الدين أو العرق أو الانتماء الإقليمي أثرها البالغ في سير الأحداث التي جرت خلال تفشي فيروس كورونا. كَما كان هناك دور لوسائل التواصل الاجتماعي وخطاب الإعلام اليميني الشَعبوي ومَيله إلى تضخيم الأكاذيب. لكننا نتمتع اليوم بالقدرة على الوصول لقَدرٍ أعظم مِن المعلومات الجديرة بالثقة حول الجائحة التي نخوض غمارها، أكثر ممَّا كان عليه حال الناس في أي جائحة سابقة على الإطلاق. وفي ذلك أيضًا ما يجعل مخاوفنا الهائلة والمبررة مختلفةً تمامًا عن كل ما سبق، لأن خوفنا لا يتغذى على الشائعات بقدر ما ينهض على معلومات دقيقة.

اقرأ/ي أيضًا: ألبير كامو حول كورونا.. المعاناة عشوائية وذلك أبسط ما يمكن قوله

بينما نرى النقاط الحمراء المؤشرة لانتشار الوباء على خريطة بلادنا والعالَم كله وهي تتضاعف، ندرك أنه لم يعد هناك مهرب. لم نعد حتَّى بحاجةٍ إلى خيالنا لكي تبدأ مخاوفنا مِن وقوع أسوأ السيناريوهات. نشاهد فيديوهات لطوابير الشاحنات العسكرية السوداء الضخمة حاملةً الجثث مِن مدن إيطالية صغيرة إلى أقرب مراكز إحراق الجثث كما لو كنا نشاهد مواكب جنائزنا نحن. 

 ما يساورنا جميعًا مِن رُعب يُقصي الخيال والخصوصية الفردية، إذ هو يكشف لنا كم بلغنا من تماثُل مفاجئ في حيواتنا الهشَّة وإنسانيتنا المشتركة

وبالرغم مِن ذلك، فإنَّ ما يساورنا جميعًا مِن رُعب يُقصي الخيال والخصوصية الفردية، إذ هو يكشف لنا كم بلغنا من تماثُل مفاجئ في حيواتنا الهشَّة وإنسانيتنا المشتركة. الخوف، شأنه شأن فكرة الموت، يدفعنا للشعور بالوحدة، لكنَّ إدراكنا أننا جميعًا نعيش الكرب نفسَه بوسعه أن يأخذ بأيدينا خارجَ وحدتنا.