لا يزالُ اللّسان متفوّقًا على الورق سرديًّا. بل إنّ أدوات الكتابة من الورق والمحبرة، القلم وشاشة الكمبيوتر لسانيّة. اللّسان هو الذي يتكلّم فينا، الورق يُنصت إليه. اللّسانُ راوٍ، والورقُ مستمعٌ في علاقةٍ دراميّة تُشبه المسرح، حيث اللّسان ممثّل والورقة خشبة. اللسان مطبعة في المفهوم الحديث؛ حكايات وتاريخ من القصّ. لا يوجد تناحر لا ظاهريًّا ولا إبداعيًّا بين اللّسان والمطبعة، كما تبرهن كلمة "يطبع" على شخصيّة اللّسان، الّذي يطبعُ بحكاياته كلّ شيء حيّ وجامد. هل هناك وسيلة إشهاريّة تضاهي المطبعة مثلَ اللّسان؟ إنّما يضاهي اللّسان المطبعة لامتلاكه البناء الدراميّ المتغيّر من بنية القصّ والسّرد. كما تخضعُ إليه متطلّبات الرّاوي أو الرّواة، المبالغة واختلاق الكلام.

اللّسان هو الذي يتكلّم فينا، الورق يُنصت إليه. اللّسانُ راوٍ، والورقُ مستمعٌ في علاقةٍ دراميّة تُشبه المسرح، حيث اللّسان ممثّل والورقة خشبة

هكذا، يشتملُ اللّسان اللّغة كلّها، أكانت مستوياتها بريئة أم شرّيرة، لكنّ اللّسان يأخذُ مَداه ويتمدّد براحة متناهية، حينما يستعملُ الوشاية والنّميمة والتّزويق والافتراء إبداعيًّا (لا يتّبعُ هذ المقال الأخلاق بصورة معياريّة بل إبداعيّة)، أي الكذب، بخلاف الصّدق والعفّة والنّزاهة الّتي تجعله يتقلّص، غير ممارس موهبة الروي القصوى. كما يُستشفُّ من عبارة الجرجاني "الشّعر أعذبه، أكذبه".

اقرأ/ي أيضًا: عنف التخييل والإنسان القاتل

تأليفُ اللّسان معتمدًا المفاهيم الشرّيرة هو واسعٌ وعميق، فالتّزوير مثلًا، يحتاجُ بنيةَ ترتيب جديدة للحدث وللنّص، هي تمامًا مختلفة عن الأصل، واقناعًا كي يتمرأى في شكلٍ مقبول، يتوخّى الأدبُ الإقناع. الحياة بطبيعتها والأدب خاصّة يحتاجان التّزوير. أليس الوصفُ الأدبيُّ هو نوع من التّزوير المقبول، باعتبار الموصوف لا يشبه حقيقته الشّكلانية ولا حتّى الموضوعيّة؟ كاف التشبيه، وسيلة تزوير وتحريف بالمفهوم المعياري للكلمة. هل تنجو الاستعارة والبلاغة من المبالغة - التزوير؟ أيُنجز الكاتب نصوصه الإبداعية بمنأى من الاستعارة والتشبيهات بأسلوب مجرّد؟ حينئذٍ، سوف يكتسب إنتاجه غير صفة الأدب. اللسان - الكلام هو الأدب، اللِّسان مؤلِّف. الأدبُ هو الحرباء، وبمفهوم أخلاقيّ هو الخداع. يبدو التأليف غير عميق عندما يستلهمُ مفاهيم العفّة والضمير والنّزاهة والصّدق، مفاهيم بوتيرة واحدة، بخط مستقيم، هو عدو الإبداع. ثمّة سوءُ فهمٍ من قبل هذه المفاهيم للحياة والإبداع. تُكافئ الحياة الزّيف والخيانة وتتعلَّق بأذيالهما معاقبة الصّدق والنّزاهة. لأنّ التّاريخ ينشدُ في سيره الخطّ الملتوي والمنحنيات. التاريخُ ملتوٍ. لا تستطيع مفاهيم الخير تجديد ذاتها باستمرار، هي قابلة للنّضوب، وما من مستقبل إبداعيّ كبير لها. لم يتغيّر وضعها كثيرًا منذ وجود الإنسان على الأرض: بحيرة عظيمة ذات عمق أفقي، بينما مفاهيم الشرّ هي نهر جارٍ.

يُلاحظ أرتير كوستلر "أنّ نزوات الإنسان العدائيّة ليست هي الّتي كلَّفت التاريخ الحديث الثّمن الأغلى، وإنّما الإخلاصُ والتّفاني والوفاء غير الأناني". هل يوجد أدبٌ مخلّص وآخر خائن؟ لا يوجد البتّة أدبٌ أخلاقيّ وآخر غير أخلاقيّ بالمفهوم المعياري، بل هناك أدب قيميّ. الكذب كما الصّدق قيمة، الاختلاف هو حول فاعليتها وجدواها إبداعيًا.

يمكنُ القول أنّ أبلغ التّعابير التي تُوصِّف الزمن، عثراته وأفراحه، هي تلك الّتي تستعمل صفات اللّسان، تتّصف به، طابعًا إيّاها بصفاته. التّعبير الأدبيّ لسانيّ، صفة الحياة لسانيّة كذلك. لذا يوصفُ الإنسان بأنّه "حيوان ناطق". اللّسان كثير التقلّب، هو امرأة بخلاف الورق المطيع وهوَ الرّجل. وعليه، يتقلّب من صفة إلى أخرى ومن حالةٍ إلى صيرورة وجود، كلّ هذا من أجل بقائه متحكّمًا في السّرد، مُظهرًا في تقلّباته، صفة التكيّف. الورق والقلم والمطبعة وراهنًا شاشة الكمبيوتر، هي من تقلّباته، تجنّبه الزوال. النصّ يتقلّب أيضًا، مرحبًا بالنصّ المتقلّب. ما يجمع اللسان والنصوص هي الصفة الحرباوية. للأسف لم تنل الحرباء عناية الدراسات الأدبية بوصفها شبيهة النصوص، منْ يُلحق الحرباء بالسبّة يقف ضدّ إرادة التطوّر المتمثلة بقانون التكيّف وضدّ الإبداع، فالمحيط الذي تتكيّف معه الحرباء هو قرين القارئ، بل القارئ ذاته، تبتغي النصوص عقله ورضاه. كسب ودّ القارئ يماثل التلوّن بالمحيط، تمامًا كما تفعل الحرباء. المحيط المتلوّن، نظام حمائيّ لها، وصفة إبداعية للنصوص. كلّ كاتب يسعى إلى القارئ وإلى الوسيط والوسط، مستقطبًا الصفات الحرباوية. يسعى حتى كاتب الضدّ إلى القارئ والحرباء. إذ تحتاج الندّية كما المقارنة إلى الخصم والقرين، والقارئ يحوز كلتيهما.

اللسان هو حرباء، الزمن حرباء أيضًا، من ناحية التغيّر والتلوّن. يطوّر اللسان نفسه ويتكيّف مع المحيط باستمرار

اللسان هو حرباء، الزمن حرباء أيضًا، من ناحية التغيّر والتلوّن. يطوّر اللسان نفسه ويتكيّف مع المحيط باستمرار، وتتجلّى حرباويته في تطوّر شكله من اللسان العضوي إلى الورق والمطبعة، وإلى شاشة الكمبيوتر والدواة والقلم. إنّها أشكاله المعاصرة. اللسان من علامات المعجزة، في حالة الحيوانات والطيور حتى. تبدو المعجزة قوية مقبولة عندما يأخذ اللسان صفتي المناقشة والمحاججة، كما في معجزة النبي محمد في: "اقرأْ، قال: ما أنا بقارئ"، والمسيح في: "ويُكلِّمُ الناسَ في المهدِ وكهْلًا ومن الصالحين"، والنبي موسى كليم الله في: "ولـمَّا جاء موسى لميقاتنا وكلَّمه ربّه قال ربِّ أَرِني أنظُرْ إليك قال لن تراني". كذلك هدهد سليمان. هذه هي معجزات، إنما لسانية.

اقرأ/ي أيضًا: برزخ بين حياتين

ما يهمُّنا في كتابة العنعنة، هو تواتر أخبار السلف على لسان الخلف عبر الرواة، الذين هم مؤلفون، يضاهون النبع الأصلي قصًّا وخلودًا، هؤلاء خالدون لسانيًا. نِعم الخلود هذا، أبديّ يسلب الأصل مركزه. من دونهم لا وجود له. يعطي الرواة في تاريخ الأدب العربي صفة الخلود مثلما يسلبونها، ينافسون الأصل في إزاحة له، ما يُسمَّى علاقة الهامش والمركز. التأليف المتواتر من شأنهم، هم في وضع تأليفي مستمرّ نتيجة النقل عبر الأفواه، بينما الأصل مؤلِّف لمرة واحدة، أو هو مؤلَّف متعدِّد من خلال الرواة. الفرق بين الاثنين، هو بين الجريان (الراوي) والركود (الأصل). يجعل الرواة الأصل مؤلَّفاً في نظام توليف مستمرّ. يُعيد القارئ توليف النص لاحقًا.

طوبى لمن يُدير العالم لسانيًا بغضّ النظر عن صلاحه أو فجوره. إدارة العالم لسانيًا هي التي يهفو إليها الأدب متنقلًا من الشعر إلى الرسم والمسرح. ويالشقاء من يتغافل عن مميزات ومناصب اللسان في العملية تلك. يُصبح اللسان في النصوص معيارَ القوة والضعف، الجاه وعدمه.

التواتر في العنعنة يشبه السلسلة، يتشابهان مع اللسان الذي هو في شكل دائرة في أثناء بالسرد. التاريخ هو الآخر في نظام السلسلة من حيث البناء الدرامي؛ أحداث متسلسلة في ظاهرة بزوغ وأفول متواترة. علاقة الخلف بالسلف فيها شكل التواصل؛ نقل مرويات، سرد أحاديث وروايات؛ أي سلسلة. حتى علاقة الأب العضوي بأبنائه في تماثل السلسلة المشابه إلى بنية الحكاية: مقدّمة، وسط وخاتمة. لا ينجو البناء الدرامي الحياتي من هذا النسق الدائري السردي وثيق الصلة باللسان.

يبدو الرواة في علاقة تبعيّة حتميّة مع الأصل ظاهريًا، وعند التمعُّن، يبرز العكس صحيحًا. فالأصل هو مطيّة الرواة يستعملونه في نشر غاياتهم السياسية والإبداعية. ثمة مسألة خفيّة عادلة في هذه العلاقة وهي: بسبب المداومة على ذكر أخبار الأصل، يتشكّل هنا ما يشبه جريان النهر، فكلما توغَّل النهر (الروي) بعيدًا في السير (الأفواه)، يزداد نسيان المنبع، ويبقى جريانه ماثلًا أمام الجميع.

التواتر في العنعنة يشبه السلسلة، يتشابهان مع اللسان الذي هو في شكل دائرة في أثناء بالسرد. التاريخ هو الآخر في نظام السلسلة من حيث البناء الدرامي

"بالمواظبة على الاحتطاب، حطابًا تصير". هذه حالة الرواة، يزيحون الأصل كلما نقلوا عنه، كما اللسان الراوي وشهرزاد التي ألحقت قصص "ألف ليلة وليلة" بها. هذه القصص إنتاج كتابة العنعنة، في احتمال أنها تناقلت شفهيًا على ألسنة الرواة من واحد إلى آخر. ثمة أثر واضح لكتابة العنعنة في عبارة "بلغني أيها الملك السعيد"، كما في "زعموا أن..." في قصص "كليلة ودمنة"، يُلاحظ استعمال صيغة الجمع. للروي قدرة هائلة على استيعاب الأفواه الناقلة له، كما يسمح بناء الحكايات بتقبُّل حضور الآخرين فيه بخلاف الشعر. لماذا لم تتناقل قصائد الشعر العربي الكلاسيكي من طريق رواة العنعنة؟ ترجيحيًا، ليس بسبب قصر القصيدة قياسًا إلى القصة، إنما نتيجة البناء الدرامي للشعر الذي لا يسمح بهذه النقلات وغير مستوعب نظام الاستعاضة. أي إحلال الأفواه بدل الشاعر، وهو صفة أنانية. وعليه لو يتخذ التاريخ العربي صفة السرد وشخصيته فسيصبح في حاضر سياسي واجتماعي وثقافي عكس الراهن، الذي هو حاضر شعري غير سردي. ولكن سوف تساهم (ربما) قصيدة النثر في قلب الزمن العربي، حالما تُنتج نماذج شعرية نصّية هجينة.

اقرأ/ي أيضًا: إيمان مرسال.. الشعر في جنّة السرد

لنتأمَّل سلسلة الروي هذه: "حدَّثنا فلان عن فلان عن فلان". ترد أسماء رواة كثيرة وصولًا إلى الأصل. عنعنة درامية، كلّ راوٍ يضيف ويحذف، يمارس رأس العملية الإبداعية؛ المحو، التحريف والإضافة، مُعيدًا كتابة النص المنقول. التأليف هو إعادة ما قيل وتقديمه على أنه جديد. الحياة والمفاهيم هي كذبة، قُدِّمت إلى البشر على أنها حقيقة فصدَّقوها. يكمن الإبداع ومعرفة سرّ لعبة الحياة في حجم التصديق هذا. فكلما كان كبيرًا يعزّز شقاء الإنسان ويُضعف إنتاجه الإبداعي والعكس صحيح. يرتاح المرء وينمو عمله باتجاه الشهرة والقارئ والمال، إن هو يتلقَّف الصدق على صورة كذبة. يمنح كل راوٍ في كتابة العنعنة سلالة جديدة للنصّ، ثم يشتغل عليها راوٍ آخر. هذا التلقيح والتزاوج والإنجاب هي صفات لسانية سردية. وحده الراوي مَن يُضاعف الأصل، بينما الأصل واحد ماديًا، ولكنه في فم الرواة متفاقمًا ومنشطرًا إبداعيًا. يقول رولان بارت: "ليس هناك ملكية للنص أو أبوّة نصّية لأن الكتّاب والمبدعين يعيدون ما قاله السابقون بصيغ مختلفة، فالنص الأدبي يدخل في شجرة نسب عريقة وممتدّة، فهو لا يأتي من فراغ، ولا يُفضي إلى فراغ". بمعنى أن الكتابة هي روي عن آخرين، وأن الكتّاب هم رواة تمامًا كرواة العنعنة. لكنهم بطبيعة الحال رواة، كلّ بطريقته التي تميّزه، يروون بنصوصهم. تكريم النقل والحذف وتكريم التزوير والتحريف، فالنصّ المحرّف يعتدّ به ويمتدّ في سلسلة تحريف وتزوير، في نفق سرّي يتكاثر فيه التلاعب والحرفة الإبداعية، ثم ينعاد في قول جديد مضاء تحت شمس القارئ.

طوبى لهذا النفق الإبداعي، نفق اللسان والعنعنة. دهاء العنعنة يجعلها تفرض احترامها على تاريخ الكلام، مانحة له صفة الدقة نوعًا ما، لا صفة الارتجال، إذ لا تُستقبل كتابة العنعنة على رسلها هكذا، بل يتمّ التدقيق الأخلاقي والسياسي في شخصية الرواة، بما يُسمَّى بعلم الحديث وعلم الرجال. وهكذا يشغل الراوي مساحة من التاريخ الإبداعي والأخلاقي. إذاً، الرواة، الذين يُراد لهم أن يكونوا تابعين وهامشيين، ينالون اهتمامًا كبيرًا من البحث والتقصّي كي تُصدَّق رواياتهم. هذا جانب مهم من العملية الإبداعية، وهو حيازة الباهت الضوء، حيازة مركزية الحدث.

اللسان يتجاوز المرآة

نقلُ الأخبار يُشابه المرآة التي تنقلُ الصورة، لكن رواة العنعنة، يتجاوزون المرآة. هم ظاهرة غير مرآوية، إنما تأليفية، يضيفون ويحرّفون وصولًا إلى خلق نصهم الخاص بهم. يعشق اللسان الانفصال والرحيل، هو هجرة. بينما الورقة وشاشة الكمبيوتر تستجيبان إلى الانعكاس والمكوث، عندئذٍ، ينفصل اللسان عن أدواته في العنعنة فقط، فتلتحقان بالمرآة ويلتحق هو بالروي الخاص به.

سيكولوجية الراوي هي نفسية الكاتب ذاتها، لكنها تمارس الكثير من التمثيل والجماعية. بمعنى: الكاتب ممسرحًا

المرآة ليست جدّ خاصة لا في الهيئة ولا في الوظيفة، علاقتها بالزمن جدّ ضعيفة بخلاف اللسان، فيها زمن خالٍ من الوقائع. لدى الرواة الكثير من الدهاء والحيلة والجرأة، أليست هذه هي بنيات النصوص، تحرّضها على التشظي والتفاقم والسطو على الوقائع ثم إعادة بنائها بشكل جديد؟ بقدر ما يبتعد الراوي عن الأصل تزداد قابليته للتأليف والتحريف. وهل يُروى بحضور الأصل؟ يحتاج السطو السردي إلى ابتعاد وإلى زمن مغاير للأصل، في استقطاب جديد اقتصادي وصوتي بل واجتماعي حتى: تخضع المرويات إلى النظام السياسي في زمن الراوي الذي يتشكَّل من مقتضيات اقتصادية واجتماعية تفرض عليه حتمية بناء النص وفقًا للسياسة والاقتصاد، لأنه نصّ مُعاد مكرور له شروط إنجاز تختلف عن الأصل.

اقرأ/ي أيضًا: ركن الوراقين 2: الجغرافيون الأوائل

هكذا، يُعيد الراوي زمن الأصل متماشيًا مع حاضره وواقعه السياسي، وهذا ما لا تفعله المرآة ذات البعد السياسي والاقتصادي الواحد لا غير.

يتجلّى النص الأصلي في واقعة صوتية عند الروي، إذ يُقرأ على مسمع آخرين، في سياق "حدَّثنا فلان عن فلان" في حديث واستماع، ثم يخرج إلى العلن بمساهمة جماعية بخلاف المرآة التي هي مساهمة فردية من ناحية الانعكاس. ينعكس اللسان على آخرين لكنه يتملّص من وظيفة المرآة وهنا تكمن حيلته. منعكساً وليس عاكسًا. عندما يقصّ الرواة الحكايات والأحاديث، يحوّلون مجلس الروي مسرحًا، فيه متفرّجون ومستمعون. تحسيس صوتي ثم بصري بالأصل، مسرح تراجيدي إغريقي، يتحايل الراوي فيه على المستمع، يجعله باكيًا أو فرحًا، يتضامن مع الأصل أو يقف ضدّه كما في مجالس القراءات الحسينية.

سيكولوجية الراوي هي نفسية الكاتب ذاتها، لكنها تمارس الكثير من التمثيل والجماعية. بمعنى: الكاتب ممسرحًا. فيها المرونة المفقودة في شخصية الكاتب التي تميل إلى التبجُّح بوظيفته. الراوي مرن بمرونة التاريخ الذي يروي عنه، وهو يستعمل المرونة من أجل ليّ الحدث وتحريف الأصل. لا يوجد راوٍ نزيه بالمفهوم المعياري، وإلا، فما فائدة الروي؟ القصّ صفة محض إرادية مثل الكاتب، وهي منبع صفات متغيّر. الراوي سياسي أكثر من الكاتب، وقابل للتسيس بشكل دائم. مستقطب الحيلة عن وعيّ ممارسًا كل بنياتها الدرامية. وهو إبداعيًا ونفسيًا متقبّل نظام البينَ - بين، أي بين الكاتب الأصل المروي عنه، وبين هامشه الشخصي، إذ يُنظر إليه بوصفه خارجًا دخيلًا على الإبداع، وفي أحسن حال، مسدّ ثغرات، بما يُسمَّى حلقة وصل. وهذا الوصف إيجابي باعتقادي. فأعظم تطوّرات التاريخ جاءت نتيجة تطوّر الفواصل إلى صيرورات، وتطوّر البنيان تمَّ منذ نشوء الخليقة. تطوّر الفواصل، متمثِّلاً بالبرمائيات بين البرّ والماء.

يتصل الدخيل - الخارج بالواقع منفصلًا: شكله في انفصال يتمثَّل كلمة خارج، وسعيه عبارة عن روابط اتصال، وهو حال الغريب نفسه التي سنأتي إليها في مقال لاحق.

الراوي سياسي أكثر من الكاتب، وقابل للتسيس بشكل دائم. مستقطب الحيلة عن وعيّ ممارسًا كل بنياتها الدرامية

اقرأ/ي أيضًا: عن فتى الشّعر الأزرق وصاحبِ اليوتوبيا

"مهما كان الوجود المعتبر شاسعًا، فهناك دائمًا شيء يبقى في الـ"الخارج"، هناك دائمًا شيء ينفلت، شيء لا يُختزل في كلية النظام، لأنه لا إمكان لوجود يضمّ المجموع" (جين ول). يتعلَّق الأمر بأنصاف الروابط والإشارات التي تُشكِّل مجتمعةً مرجعًا، وتستطيع العمل سوية بخلاف المراكز التي لا تجتمع إلى بعضها البعض نتيجة قوة التعالي لديها أولًا، وكينونتها المطلقة المعارضة للهدم والحك والتعاون ثانيًا. الراوي هو الكاتب الوسيط منافس الأصل مزيحًا إياه متى يشاء وبأي طريقة يبتغي. الكاتب الراوي ضدّ الكاتب المتحف وضدّ الكتابة الأيقونية. وللأسف لم يستفد الإبداع العربي، لا من شخصية الرواة ولا من إنتاجهم كي يسود الكاتب الشبيه والأدب الشبيه. كتابة العنعنة، هي كتابة الشبيه والتشابه، كتابة البينَ بين. كتابة ملء الفراغات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الشّاعر هو النّاجي والمتورّط

تُرجم قديمًا: جنة عدن