31-يناير-2020

بطرس المعري/ سوريا

حاول الرّاوي مرّات عديدة كتابة هذه القصّة، وفي كلّ مرّة تخذله البداية. يبدو الرّاوي شخصًا مملًّا وكسولًا، يسحب الكاتبَ من يده ويضعه أمام حاسوبه الشّخصيّ، يعيش معه رعب الصّفحة البيضاء في برنامج الوورد، يستحثّ كلاهما صاحبه ليكتب، الرّاوي الكسول المملّ بخيل بأفكاره، والكاتب شخص عجول، يتصارعان، ولكن كيف يتصارع الرّاوي والكاتب على مجهول غائم الظّل في صفحة بيضاء تشبه قطعة غيم شاحبة في سماء ممتدّة؟

يقرّران التّصالح، واتّفقا على أن يحاولا الكتابة، لا شيء يمنعهما من المحاولة إلّا الرّعب، يحاول الكاتب التّخلّص من ثقل الصّفحة البيضاء، والرّاوي يضحك بسخرية في أعماقه، يصفع الكاتبَ صفعة قويّة، يزيح الكاتبُ وجهه فتطير الصّفعة في الهواء، يشعر الكاتب برضى خجول في أنّ الصّفعة لم تنل منه، ويبقى محدّقًا، منتظرًا "صديقه" الرّاوي. إنّه بحاجة كبيرة له حتّى لو تعمّد إهانته والنّيل منه. هنا تكمن مشكلة الكاتب الحقيقيّة يُصادقُ أشخاصًا مزعجين ووهميّين.

الرّاوي شخص محايد مجهول، يعرف حدود عمله، والكاتب معروف معترف به، ويُعرف عمله

ما الّذي يساعد الرّاوي على الانتصار والسّيطرة على الكاتب والكتابة؟ يلقي الرّاوي الفكرة في الفضاء، يتبعها الكاتب وينظر إليها بلهفة، يحاول أن يشدّها من طرفها الباهت الهشّ، تفلت من بين أصابعه، وتتابع طيرانها في الفضاء، تصبح خفيفة أكثر، وبرّاقة أيضًا. تبتعد أكثر وتغيم، تغدو ضبابًا على شكل ثور! يتراجع الكاتب كثيرًا خائفًا من قرون الثّور، في لحظة عابرة ولكنّها قاسية، تخيّل أنّ الثّور سينطحه بقرون طويلة حادّة، ستقضي عليه اللّحظةُ الماجنةُ لثور هائج لا يعرف الاستقرار، لن ينقذه من هذا الموقف سوى الرّاوي. يدرك الكاتب أنّ الرّاوي صديق عطوف، يقبل أحيانًا أن يتلقّى الأذى، ويحمي الكاتب من شرور الكائنات العبثيّة.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| فيصل دراج: المثقف قائم في النقد

في كلّ مرّة يستسلم فيها الكاتب لجبروت الرّاوي يشعر بالهزيمة ذات الطّعم المحايد. ما الّذي سيحدث بعد قليل لو أنّ الرّاوي استعاد شيئًا من حيويّته وهمّته وتكرّم على الكاتب قليلًا بفكرة جيّدة؟ يتمنّى الكاتب أن يحدث شيء من هذا الوهم.

الرّاوي منزعج كثيرًا من الكاتب؛ يكتب ويكتب ويظلّ مجهولًا بلا اسم سوى أنّه "راوي الحكاية فقط"، يزعجه أن يظلّ نكرة محذوف الياء إن جاء هكذا "راوٍ". يبدو التّنوين ثقيلًا على سمع الرّاوي، لذلك اتّفق مع الكاتب أن يكون دائمًا محلّى بأل التّعريف، مع أنّها لا تعرّفه تمامًا، بل تمدّه بحقنة جديدة من التّنكير، لكنّها أخف وطأة من كلمة "راوٍ". هكذا اتّفقا على أن يكتب الكاتب، وهكذا سيشعر الرّاوي بالسّعادة القليلة العابرة، يخفي الرّاوي في نفسه شيئًا من الانتقام يعاقب به الكاتب. والكاتب لا يفطن لذلك، ينسى أنّه أثار حفيظة الرّاوي مرّات عديدة. في ذروة النّشوة ينسى كلّ ذلك.

يبدو الرّاوي في هذا الاتّفاق شخصًا ساذجًا لا يفكّر بعمق. لأنّه يتجاهل قوانين اللّعبة اللّغويّة، ولن يفلح في جعل الكاتب متمرّدًا على القواعد الصّارمة للّغة الّتي لا تدري لماذا يتمّ فيها النّقص مع أنّه ليس ناقصًا تمامًا. إنّه الرّاوي، وإنّه الكاتب.

أحيانًا يكون الرّاوي ذكيًّا جدًّا، ولمّاحًا، وكنزًا لا ينضب من الحِيَل والأفكار الصّالحة للمراوغة، وذا قدرة على الخلق. يبدو الأمر للكاتب أحيانًا أنّه صاحب فضل على الرّاوي، من ذا الّذي خلق الرّاوي، وجعله متحكّمًا ومسيطرًا إلى هذا الحدّ بعنق الكاتب؟ يحاول الكاتب أن يتفلّت من هذا السّؤال المحرج. وفي أعماقه يريد أن يُورّط الرّاوي في حكايات مُختلَقة، يغريه كثيرًا بالاقتراب من الممنوعات ومن الهلوسة، ينتبه الرّاوي لمكائد الكاتب، يورّطه معه أيضًا، إذ يتسلّل إلى أفكاره، ودون أن يدري يكتب عنه، ولا يلتفت الكاتب إلّا بعد أن فات الأوان على الاستدراك، لقد تمّ الأمر كما يشتهي الرّاوي وتورّط الكاتب بما لا يصحّ أن يتورّط فيه.

للرّاوي جماعة تقف معه في كلّ ما فكّر فيه، القرّاء كائنات ذكيّة أحيانًا، وأحيانًا يشعرون بالانزعاج والحيرة. يلتبس عليهم أمر الرّاوي والكاتب، فلا يفرّقون بينهما. لا فرق بين الرّاوي والكاتب. لا، ليس صحيحًا. الرّاوي شخص محايد مجهول، يعرف حدود عمله، والكاتب معروف معترف به، ويُعرف عمله. القرّاء لا يقتنون الرّواية لأنّ الرّاوي شخص ذكيٌّ؛ ليتعرّفوا إلى أفكاره وعبقريّته في القصّ، ولا لأنه كسول ليسخروا من كسله، يتوجّهون إلى الكاتب الّذي نجح في تأطير الرّاوي وسجنه في القصّة. الرّاوي محكوم بأبديّة الكاتب، لا يسمح له أن يغادر القصّة مهما كان، يظلّ متدحرجًا من جملة إلى أخرى حتّى آخر جملة في القصّة.

يتردّد الرّاوي بين الجُمل. لا يحبّ ولا يكره. يبدأ لعبته، فيخلق شخصيّات، هي له، ويتحكّم بمصيرها هو. الكاتب لا يُرضيه أن يكون هكذا دون عمل حقيقيّ، يحاول التّدخل، يطرده الرّاوي إلى الغلاف. ويقرّر بعنف وجبروت: "لو سمحت لا مكان لك إلّا على الغلاف. لقد اتّفقنا، لا يصحّ لك أن تكون موجودًا هنا. هذا السّجن لي وحدي، ولك الغلاف فقط. القصّة لي ما دامت الحكاية لي. اخرج ولا تعُدْ إلى هنا مرّة أخرى". الكاتب مصدوم ممّا يسمع: "أنا من خلقتكَ أيّها الأبله. كيف لي أن أخرج؟ اللّغة لغتي، والفكرة فكرتي". يضحك الرّاوي، ولا يردّ، ويزيح الكاتب إلى الغلاف، ويثبّته هناك، وإمعانًا في الجبروت، يزيد من قيوده، ويجعله تحت المراقبة الدّائمة، وكلّما حاول التّفلّت صفعه ليتراجع. يخنس الكاتب في موضعه هناك، وتصبح له عينان باحثتان محملقتان في وجوه المارّة والمتصفّحين العابرين. لقد اعتادت عينا الكاتب هذا المشهد، لذلك يبقى في مكانه ولا يتدخّل في القرّاء نهائيًّا. يدّعي الدّيمقراطيّة، وحرّيّة الاختيار، لكنّه يظلّ مهووسًا بأن يكون مقروءًا على نحو واسع.

الرّاوي يعلم أنّه على حقّ، والكاتب يدرك أنّه شخص متطفّل، والقارئ لا يرى فرقًا بينهما، والنّاقد يقف على الحياد، يؤيّد الكاتب حينًا وحينًا يتنكّر له، وينحاز للرّاوي. الرّاوي ينتصر على الجميع، ولا يبقى في البال إلّا الحكاية.

يفكّر الكاتب أن يعذّب الرّاوي بأساليب كثيرة، يخلق معه رواة آخرين، ينازعونه الحكي. يفرح الرّاوي لوجود آخرين معه، على عكس ما كان يفكّر الكاتب، يبدو الكاتب ساذجًا جدًّا هنا، الرّواة الآخرون إخوة للرّاوي الأوّل، يساعدونه، ويمهّدون له الطّريق. ومزيدًا من إحراج الكاتب يعقد الرّاوي اتّفاقًا واضحًا على أن يقتسم هو والرّواة الآخرون الحكاية، يعيشون معًا بسلام، ويلعبون سويّة كأنّهم فريق كرة قدم، وينجحون جميعًا في الإبقاء على الكاتب مطرودًا على غلاف الكتاب، إذ لا يحاول أحدهم إرجاع الكاتب إلى متن الرّواية، إنّهم قساة وحازمون وملتزمون.

تتعقّد مشكلة الكاتب، يجلب له أعداء كثيرين، وكلّهم متيقّنون أنّ الكاتب خارج النّصّ، وهم وحدهم مع شخصيّاتهم من يقرّرون نجاح الكاتب أو فشله. يتوسّلهم الكاتب أن يرأفوا به، يتحدّث عنهم مجبرًا للصّحف أنّهم أصدقاؤه، وهم قريبون جدًّا منه، لكنّه لم ينس أنّهم جميعًا متواطئون على طرده خارج النّصّ. يحاول أن يتقرّب منهم على الهامش، لعلّهم يرضوْن عنه. هم يراقبون كل ذلك، ولا يتدخّلون إلّا في الوقت الّذي يروْنه مناسبًا، ولا يستطيع الكاتبُ التّنبّؤ متى يحدث ذلك.

يفكّر الكاتب أن يعذّب الرّاوي بأساليب كثيرة، يخلق معه رواة آخرين، ينازعونه الحكي. وعلى العكس، يفرح الرّاوي لوجود آخرين معه

الكاتب يخضع أخيرًا لشروط اللّعبة السّرديّة، ويقرّر أن يخطّ له مجالًا آخر لعلّه يسيطر على هؤلاء جميعًا. يفكّر بعمق ساذج كيف سيحاسبهم حسابًا عسيرًا في المرّات القادمة، ويرسم لهم مصيرًا أسود، ليعيشوا في الجحيم الطّويل في قصّة أطول. هذه المرّة يقبل "صاغرًا" أن يظلّ خارج النّصّ، ويراقبهم ليستمتع بعذاباتهم، لعلّه ينجح في تسلُّق هذا العذاب وهذا المصير المصطنع ليربح الشّهرة والمال والأحاديث الصّحفيّة.

اقرأ/ي أيضًا: ربّ البيت.. ربّ السرد

ينتبه الكاتب في النّهاية أنّه لم يعد هناك صفحة بيضاء ترعبه، ها هي ممتلئة، لا يدري في لحظة صدق مع ذاته من هذا الّذي أزال حزنه ورعبه من البياض الطّويل، وساعده على الكتابة أو ربّما مَن ذاك الّذي كتب عنه كلّ الّذي كتبه. يبتسم راضيًا، ويبحث عن فرصة جديدة لفكرة أخرى. سيعود للدّائرة نفسها من الصّراع بينه وبين الرّاوي والشّخصيّات، فمن سيهزم مَنْ في المرّات القادمة؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

أولاد الطين.. مهمَّشو السرد الروائي

سفيتلانا أليكسييفيتش التي تكتب لتقول: "أنتم كاذبون"!