28-يناير-2021

من كتاب "حكاية المشرف"

راهنت شهرزاد على الحكاية، فعلقت روحها على خيط من السرد، دقيق ومشدود، وبعد ألف ليلة وليلة كُتبت لها النجاة، ومن ثم كُتب لها الخلود.

أما زالت الحكاية تحتفظ بفتنتها؟ هل بقي لها دور في هذا العالم المزدحم بالصور والشاشات؟

"بلغني أن.." عبارة تفتتح الدهشة في مطلع كل حكاية. إنها مفتاح الباب الذي يشرع على عالم مسحور مترع بالجن والعفاريت والقماقم الضائعة والأرواح الهائمة.. لقد فتنت شهرزاد ملكها الغشوم، أشعلت فضوله وحبست أنفاسه طيلة ثلاث سنوات تقريبًا، وفي النهاية نجحت في تحويله إلى شخص آخر. ومع شهريار، وبعده، سحرت هذه الحكاءة الاستثنائية ملايين البشر في كل أنحاء العالم، وما يزال هؤلاء، جيلًا بعد جيل، ينهلون من خزان الحكايات الذي لا ينضب، والذي يحمل أجمل اسم في العالم: ألف ليلة وليلة.

اقرأ/ي أيضًا: ركن الورّاقين (7): ألف ليلة.. ما وراء الأبدية

وحكايات شهرزاد عصية على النسيان ومحصنة من الضياع، فهي ليست حكايات عادية، بل هي من ذلك النوع الذي يستحق أن "يُكتب بالإبر على آماق البصر".

يقول بورخيس، العاشق الأكثر شهرة لليالي العربية "في البيت أقتني المجلدات السبعة عشرة.. أعرف أنني لن أقرأها جميعها أبدًا، لكنني أعلم بأن الليالي تنتظرني وبأن حياتي قد تكون تعيسة، لكن المجلدات السبعة عشرة ستكون هناك، هناك سيكون سليل الأبدية هذا".

تروي إحدى حكايات الليالي قصة الملك محمد بن سبائك الذي يصل إلى يوم يعرف فيه كل حكايات العالم، فيستدعي التاجر حسن ويمهله سنة كي يحصل له على حكاية جديدة تحت طائلة العقاب بالموت. يرسل حسن خمسة من مماليكه إلى شتى جهات الأرض، فيعود أربعة منهم خائبين، فيما ينجح الخامس في الحصول على حكاية "سيف الملوك" من حكاء عجوز التقاه في أحد شوارع دمشق.

هذه اللهفة على حكاية، هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر من أجل حكاية، تتكرر في قصة الحصول على كليلة ودمنة، ذلك أن الملك الهندي دبشليم أمر الفيلسوف بيدبا بتأليف كتاب في الحكمة، فكانت حكايات كليلة ودمنة، التي أمر الملك بحفظها وحمايتها من عيون الأغراب وكأنها واحد من أخطر أسرار الدولة. غير أن الفرس المتحرقين على معرفة مكنون الكتاب أرسلوا الطبيب برزويه الذي نجح بعد مغامرة شيقة في الحصول على نسخة من حكايات الهند العجيبة وترجمتها إلى الفهلوية، قبل أن يأتي عبد بن المقفع لينتج بدوره النسخة العربية.

ومن أين تستمد الحكايات أهميتها هذه؟ يقول ماريو فارغاس يوسا: "لقد فتنت دائمًا وأنا أتخيل الظرف الملتبس حين كان أسلافنا، وهم بالكاد يختلفون عن الحيوان.. وقد شرعوا في المغارات، وحول نار الحطب، في الليالي المحفوفة بتهديد البروق والرعود، وزئير الوحوش، في اختلاق الحكايات وروايتها. لقد كانت هذه اللحظة الحاسمة لمصيرنا، إذ في حلقات الكائنات البدائية المشدودة إلى صوت خيال الحكواتي، هذه، بدأت الحضارة".

في الرواية، على الأقل، لا يزال الحكاؤون هم الأكثر رواجًا. حكاية شيقة ومتقنة هي طُعم أثبتت التجربة نجاعته في جذب الكثير من القراء

ويتابع الروائي البيروفي في سياق خطابه أمام الأكاديمية السويدية: "هذه الحكايات.. التي تتردد في المرة الأولى كموسيقى جديدة أمام مستمعين مرتعبين من غوامض ومخاوف عالم كلُّ شيء فيه كان مجهولًا وخطيرًا؛ لا شك أنها مثلت حمّامًا منعشًا، وملاذًا لأرواحٍ دائما على حافة القلق، والتي كان الوجود عندها لا يكاد يتعدى الأكل، والاحتماء من عوارض الطبيعة، والقتل والتوالد. وبمجرد ما بدؤوا يحلمون جماعة، ويتقاسمون خرافاتهم المغذاة بحكايا الرواة، انعتقوا من غلِّ العيش وحده، ودوامة الأعمال المنهكة، وتحولت حياتهم إلى حلم، متعة وأُلهية، وإلى مصير ثوري".

اقرأ/ي أيضًا: أفكار ألبيرتو مانغويل أو ذلك الفضولي في زي الحكاء

أما زالت الحكاية تحتفظ بفتنتها؟ هل بقي لها دور في هذا العالم المزدحم بالصور والشاشات؟

في الرواية، على الأقل، لا يزال الحكاؤون هم الأكثر رواجًا. حكاية شيقة ومتقنة هي طُعم أثبتت التجربة نجاعته في جذب الكثير من القراء، أما الرواية التي لا "تحكي" فهي، في الأغلب، تغامر بحبس نفسها في دائرة النخبوية.

سُئل مترجم شهير عن الإسبانية: "لماذا تواظب على ترجمة ايزابيل الليندي، مع أنك تضعها في الصف الثاني وربما الثالث بين كتاب أمريكا اللاتينية؟". أجاب: "ثمة طلب كبير على كتبها.. يبدو أن قراء العربية لم يملوا بعد من حكاياتها التي لا تنتهي".

بالطبع لا تشكل الحكاية علامة حصرية للجودة، ومن النافل تعداد الروايات الخالدة التي لم تستند على حكايات، أو الروائيين العظام الذين لم يُعرفوا كحكائين، ولكن الراجح أن الحكاية لا تزال قطعة السكر التي يجري وراءها معظم قراء الرواية.

كتب ناقد مرة: "حكاية حلوة: رواية رائعة. لا حكاية: يا للسأم".

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف يفكّر ثلاثة من أبرز أدباء أمريكا اللاتينية؟

ثلاثة أسئلة حول الواقعية السحرية