20-مارس-2020

من لوحات ديكاميرون لـ جون ويليام ووترهاوس

"يعثر الناس على كتاب في اللحظة المناسبة ويكون إجابة عن شيء ما"

  • بول أوستر

يتحدث الكتّاب كثيرًا عن حاجتهم إلى القص عندما يتحدثون عن الكتابة التي يتعبرونها شرطًا لبقائهم على قيد الحياة ويبدو ذلك للبعض منا من قبيل الرومانسية والمبالغة والشعرية والأدب ويذهب البعض الآخر من الكتاب إلى اعتبار القص أو الحكي شرطًا لبقائنا جميعًا على قيد الحياة، فيقول الروائي الأمريكي بول أوستر: "إننا بحاجة للقصص بقدر حاجتنا للطعام والهواء والماء والنوم. لأن القصص هي الطريقة التي من خلالها ننظم نرتب الواقع".

وهو بذلك يسمو بالقص إلى مستوى الشرط الأساسي للبقاء الفردي، بينما يرى ساراماغو أن الموتى يموتون عندما نتوقف عن استحضارهم: "الموتى الحقيقيون لن يموتوا أبدًا ما دمنا مستمرين في التفكير بهم"، فيمكننا حسب رأيه "مواصلة الحياة عبر الذاكرة"، والذاكرة لا تشتغل إلا عبر الحكي، وللحكي وجوه حسب المحامل التي يتمظهر بها فنًا وأدبًا وعلومًا. نحن، إذًا، نواصل حربنا ضد الموت مع كل ثانية في الحياة عبر سرديات متنوعة تنضج بدورها نظرية أن الإنسان كائنًا ساردًا.

الإنسان ذلك الكائن السارد

يقول ألكسيس كاريل في كتابه "الإنسان ذلك المجهول": "البشر غير موجودين في أي مكان من الطبيعة. وإنما الموجود هو الذات فقط. والذات تختلف عن الإنسان البشري من حيث إنه حادث صلب. إنه الواحد الذي يعمل ويحب ويتعذب ويموت. وعلى العكس، فإن الإنسان البشري فكرة أفلاطونية تعيش في عقولنا وكتبنا." ويمثل السرد واحدًا من أهم تمظهرات الوجود البشري الفردي. لذلك يظل الكائن البشري يسرد على نفسه وعلى العالم ما دام لم يطلق الرصاص على رأسه، أو يعلق نفسه في مشنقة، أو يرمي نفسه في اليم أو في هاوية، أو أي شكل من أشكال الانتحار. فالكتّاب الذين أجهزوا على أنفسهم هم الذين لم يعودوا قادرين على الكتابة أو الحكي من إرنست هيمنجواي إلى تشيزاري بافيزي الذي أنهى يومياته بإعلان موته عبر جملته الشهيرة: "لا كلمات. حركة. لن أكتب بعد الآن".

لعل سرديات ما بعد الموت التي وردت في الكتب المقدسة أو التي اختلقها الإنسان ليست إلا شكلًا متقدمًا لمقاومة الموت على الحكي

ولعل سرديات ما بعد الموت التي وردت في الكتب المقدسة أو التي اختلقها الإنسان ليست إلا شكلًا متقدمًا لمقاومة الموت على الحكي. فالكائن البشري يفضل سرديات العذاب ما بعد الموت عبر نظرية البعث على نظرية العدم، تلك النظرية التي لا تؤمن إلا بالوجود "الصدفوي" أو الإفراز البكتيري. وتأتي حاجة الإنسان للاعتقاد، لأن الاعتقاد يوفر له هذه السرديات لضمان الخلود الذي فشل إلى الآن العلم في تحقيقه. ووفقًا لذلك الوعي بالهوية السردية للكائن البشري، يلوذ الفرد إلى القص أكثر كلما شعر بالخطر وهدده الموت، وبسبب تلك الأخطار وصلتنا الكثير من الأعمال السردية المنظوية تحت ما يسميه النقاد اليوم بأدب الذات، من يوميات ومذكرات وسير ذاتية ورحلات ورسائل. فالذات الساردة تحاول أن تحفظ عبر التذكر أو التوثيق ما هو مهدد بالموت. ذلك الموت الذي يهدد الذات الساردة نفسها.

اقرأ/ي أيضًا: ركن الورّاقين (7): ألف ليلة.. ما وراء الأبدية

غير أنه ليس بأدب الذات والخطاب السيرذاتي فقط سعى الإنسان الكاتب إلى تخليد ذاته وقاوم الخطر، بل كان التخييل أحد أسلحته في مقاومة ذلك الفناء الحتمي أو الطارئ.

الديكاميرون وألف ليلة وليلة والموت القادم من كل مكان

تأخذنا مقاومة الموت بالتخييل إلى عالم الكذب، لا بمحمولاته الأخلاقية بل بصفته طاقة استثنائية امتلكها الإنسان، فالكذب خاصية إنسانية صرفة، وهو طاقة خلاقة لإنتاج المعنى، شرًّا أو خيرًا، وبه فقط ننتج العالم أو نجعله مرئيًا وموجودًا ضمن مواضعات مختلفة بعضها لساني وبعضها رمزي وأيقوني.

وهذا ما دفع شهرزاد إلى الاستنجاد بالكذب أو القص المخادع للنجاة برأسها من السياف وحكم شهريار. فبالكذب وحده اختلقت شهرزاد عالمًا مقابل للعالم لا يملكه شهريار؛ عالم خارج سلطته وضمن سياسة التقطير الحكائي استطاعت شهرزاد أن تجبر السيف على البقاء في غمده. فشهريار لا يستطيع تنفيذ قانونه وذاته في شوق، ذلك الشوق المعادل للنقصان، وهو لا يمكن أن يضحي بذاته لينفذ الحكم/الموت، وهكذا يتحول شهريار إلى كائن تراجيدي، ويحوله الكذب من حاكم بأمره إلى شخصية مدمن ضعيف تمن عليه شهرزاد بالقص المنجم كل ليلة.

في المقابل، لم تكن فلورنسا البلدة الإيطالية الموبوءة بين سنتي 1348 و1353 مكانًا مناسبًا للقص، فالموت الذي سكنها بسبب الطاعون جعلها مكانًا طاردًا، والبقاء فيها يعني التسليم بقدر الموت الذي يطارد الناس، وهو شكل من أشكال إعلان الهزيمة مثله مثل الانتحار. لذلك اختار جيوفاني بوكاشو لأبطال كتابه "الديكاميرون" الرحيل. فالحركة إعلان حياة في وجه الموت. والمرء إذا أراد أن يتجدد فعليه أن يغرب كما تغرب الشمس، هكذا كتب الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو. لأن الرحلة إعلان عصيان، عصيان على السكون والسكون موت.

إذا أراد المرء أن يتجدد فعليه أن يغرب كما تغرب الشمس، لأن الرحلة إعلان عصيان للسكون

جعل بوكاشو عددًا من الشبان يغادرون فلورنسا ليلوذوا بقصر قصي في الريف، واتفقوا أن ينسوا كل مظاهر الرعب التي تركوها وراءهم ببلدة الطاعون، لينهمكوا جميعًا في تبادل القصص المشوقة خلال عشرة أيام متتالية. هذه تقريبًا فكرة النص المؤسس للسرد الإيطالي والذي يصفه مترجمه إلى الفرنسية جان بورسياي بألف ليلة وليلة الإيطالية. وقد اختار أن يكون الشبان سبع شابات وثلاثة شبان، وهذا فيه إحالة غير مباشرة لتأصيل القص في أصله الأنثوي من ناحية، وتحقيق مبدأ الغواية من ناحية الأخرى، وتنشغل القصص بمواضيع الحياة اليومية من حب وجنس والخيانة ورجال الدين والأثرياء وصراع الطبقات الاجتماعية. وهذا الشكل التنافسي لرواية القصص والتناوب عليها يدفعنا إلى التقاط فكرة اللعب التي يدعو إليها بوكاشو لمواجهة الموت. فالموت لا يصمد أمام السخرية وأمام الضحك وأمام الحب، ولا يبالي الموت إلا بالمرعوبين والمصابين بالرهاب والخوف.

اقرأ/ي أيضًا: إميليو سالغاري.. غريبان من القرن العشرين يتجولان في الألفية الثالثة

الكتاب نقله في سبعينات القرن العشرين المخرج الايطالي الشهير بازوليني إلى السينما، قبل أن يقدم على اخراج رواية مراكيز دي ساد "أيام سدوم المائة والعشرون"، ويموت تلك الميتة الشنيعة، وقد نقل كتاب بوكاشو إلى العربية المترجم صالح علماني، لكن يبدو أن ترجمته إلى العربية كما كانت ترجمة دون كيشوت فصيحة أكثر من اللازم لنص شعبي يستلهم من نص شعبي آخر إذا صدق الأمر؛ ألف ليلة وليلة.

يعتبر الديكاميرون، كما يراه د. محمد عبيد الله في مؤلفة "بنية الرواية القصيرة"، نصًا مؤسسًا لفن النوفيلا، بينما يراه الشكلانيون الروس واحدًا من النصوص الأدبية العريقة التي تؤكد أن الرواية يمكن أن تكون جماع قصص قصيرة، كان لها حيوات سابقة قبل أن تندمج في نص جامع عبر التنضيد والحبك الجديد.

ويعتبر الديكاميرون نصًّا مؤسسًا للحياة بمقاومته للموت الأسود في فلورنسا، ونصًّا مضادًا لكتاب الموت الذي استند عليه أمبرتو ايكو في روايته "اسم الوردة". ليبقى السرد عبر التاريخ في علاقة جدلية مع الموت؛ يكتب النهايات أو يؤسّس للبدايات. ولعل العلاقة نرجعها لهوية الإنسان ذلك الذي عرفناه في بداية المقال بالكائن السارد، فهذا السارد أيضًا هو الكائن الحي من ناحية وباعث الحياة، ولكنه أيضًا الكائن القاتل.

الإنسان القاتل

يعرف إيريك فروم الإنسان بالحيوان القاتل، فهو يختلف عن بقية الحيوانات في حقيقة كونه قاتلًا، لأنه "الحيوان الوحيد الذي يقتل أفرادًا من بني جنسه ويعذبهم، دونما سبب بيولوجي أو اقتصادي، ويحس بالرضى التام من فعل ذلك".

الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يقتل أفرادًا من بني جنسه ويعذبهم، دونما سبب بيولوجي أو اقتصادي

يذهب ممدوح عدوان في كتابه "حيونة الإنسان" استنادًا إلى كتاب "التعذيب عبر العصور" لبرنهارت. ج. هروود إلى أن الإنسان الفظيع يحاول تعويض ذلك الشوق للقتل والعنف عبر منتجي الفنون والآداب، أي عبر نخبته. فيقول صاحب كتاب التعذيب: "إن الذين لا يستطيعون، لسبب أو لآخر، أن يخلقوا الجحيم الذي يتوقون إليه؛ يشبعون رغباتهم في العالم الخيالي للكتب وأفلام السينما والتلفزيون".

اقرأ/ي أيضًا: إدوارد نورتون: قد يأتي الإبداع من الفوضى

لكنهم أيضًا يخلقون الجحيم الواقعي عبر العلماء مصنعي الأسلحة والأوبئة، لذلك يتبادل اليوم الإنسان في العالم التهم بأنه هو منتج فيروس الكورونا. فالذي أطلق القنبلة الذرية على هيروشيما ومستعملي الأسلحة الجرثومية والكيمياوية ومخصبي الأسلحة النووية لا يمكن أن يستغرب منهم تخصيب فيروس قاتل، يمكن أن يحقق مرابيح للرأسمالية المتحوشة أو لأنظمة شمولية أجاد توصيفها البريطاني جورج أورويل في رواية 1984، ومن قبله الروسي يفغيني زمياتين في روايته "نحن"، والأمريكي تشاك بولانيك في روايته "نادي القتال"، والإنجليزي أنتوني بيرجيس في روايته "البرتقالة الآلية" التي عرضت بشكل فاضح ثقافة إنتاج العنف الذي يتقاسمه الإنسان الفرد والمؤسسة معًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل كتب نجيب محفوظ قصة العالم؟

تأملات في القيامة والمعنى