21-فبراير-2020

(pinterest) غرافيتي إسباني عن القراءة

يشبّه البعض العلاقة بين القراءة والكتابة كالعلاقة بين البيضة والدجاجة، والسؤال الوجودي الدائم حول من أتى قبل من؟! لكن لا يهم من أتى قبل الآخر إذا ما عرفنا أن أحدًا منهما لا يمكنه البقاء وحيدًا. تفيد الدراسات أن كثرة القراءة لدى الأطفال تنمي لديهم القدرات على الكتابة، وكذلك تؤمن القراءة المعرفة وتشحن الفكر والخيال بالمعلومات والصور والأفكار التي يحتاجها الطفل من أجل الكتابة.

كثرة القراءة لدى الأطفال تنمي لديهم القدرات على الكتابة، وتؤمن المعرفة وتشحن الفكر والخيال

يجب التنبه إلى الدور الهام الذي تلعبه ممارسة القراءة والكتابة في العمليات الذهنية والعمليات اللغوية التي تصبح أكثر حيوية، وتزيد من قدرات الإنسان في التعبير من خلال المصطلحات والمفردات العديدة وصياغة الجمل في بنية متناسقة ومدعومة. كذلك فإنها ممارسات تتطلب التركيز والسمع والنظر والحديث والإحساس.

روح واحدة في جسدين

إذا أراد شخص ما أن يصبح كاتبًا فعليه القراءة كثيرًا والكتابة كثيرًا، يقول ستيفن كينغ، ويضيف "أنا قارئ بطيء، ومع ذلك أقرأ حوالي سبعين أو ثمانين كتابًا في السنة، أغلبهم كتب خيالية. وأنا لا أقرأ بغية الدراسة بل بهدف المتعة، وهذا ما أفعله ليلًا أثناء جلوسي على كرسي الأزرق. وكذلك لا أقرأ كتب الخيال لتعلم أسلوب الكتابة الخيالي بل لأني أحب قراءة القصص، وبموازاة ذلك تحصل عملية التعلم التلقائي".

اقرأ/ي أيضًا: القراءة.. أعظم النعيم

القراءة تشبه من يأكل وجبة طعام، بينما الكتابة تشبه من يخرج من أمعائه الطعام. وتشبه العمليتان وجهي العملة النقدية الواحدة. مرتبطتان ومستقلتان في آن واحد، وهما بذات القيمة والأهمية، ولا يمكن لإحداهما العيش دون الأخرى. إن النص نداء، وإن القراءة تلبية لهذا النداء.

يقول برتولت بريخت التالي: إن الأكل ذاته يستوجب منا تحريك الفكين، إن لم يستوجب نقل الطعام من الوعاء إلى الفم. ومعنى ذلك أن الاستهلاك باعث على الإنتاج، وأن العملية الواحدة تتطلب منا فعلين اثنين يستلزم أحدهما الآخر ويقتضيه.

رؤى عديدة؟

يرى آخرون أن القراءة والكتابة يأتيان في مرحلة لاحقة، ويسبقهما الكلام والاستماع، فالتواصل ونقل الرسالة بين المرسل والمرسل إليه بدأا شفهيًا. القراءة والكتابة تتعلقان بعملية التواصل، وعندما تكتب، فأنت مسؤول عن نقل أفكارك ومشاعرك بإيجاز وبلا لبس. وعندما تقرأ عليك أن تحصل أو تفهم الرسالة والنية كما أراد المؤلف.

أول كلمة مكتوبة تم تسجيلها في حدود 3600 قبل الميلاد، وأضفت اليقين والتأكيد والثبوت والسرعة إلى انتشار الرسالة. وهذا الدليل العميق، برأي البعض الآخر، يعطي للكتابة دورًا حاسمًا وتقدميًا على القراءة، لأن التاريخ نفسه، كعملية، بدأ بالكلمة المكتوبة. ورأي ثالث يعتقد أن تكون القراءة قد تطورت في وقت واحد مع الكتابة، لأن الكتابة لن تكون منطقية دون وجود قارئ لما هو مكتوب.

وإن لم يكن لديك وقت للقراءة فلن يكون لديك وقت للكتابة. المعادلة بهذه البساطة، يكتب ستيفن كينغ في مذكراته. ويرى دايفيد فوستر والاس أن القراءة ليست فقط مهمة، بل ما يهم هو القراءة بانتباه لكل المفردات ولكيفية صياغة الجمل والأساليب المستخدمة في بناء المقاطع وبذلك تصبح الكتابة أمر أسهل.

مقولة أخرى تفيد بأن "القارئ ليس دائمًا كاتبًا، لكن الكاتب هو دائمًا قارئ". فالقراءة تعلم الكاتب السرد الجميل والأسلوب وتأليف حبكته وخلق شخصيات جيدة. لأن استهلاك الكثير من القراءات يؤدي إلى إنتاج غزير في الكتابة. وكباقي الهوايات فالقراءة والكتابة يتم اكتسابهما بالممارسة.

ستيفن كينغ: أنا قارئ بطيء، ومع ذلك أقرأ حوالي سبعين أو ثمانين، كتابًا في السنة

كما أن هاجس الكتابة لا يوجد إلا مع القراءة الجيدة المستمرة، حيث إن إهمال القراءة ينتج عنه الانسحاب تدريجيًا من عوالم الإبداع والخلق والتحليق، وتضعف رغبة الكاتب في الكتابة بمجرد تناقص وقت القراءة، ومن ثم بمرور الزمن يفقد مذاق القراءة ولا يقدر الوصول إلى مفاتيح الكتابة التي كان يمتلكها فيما مضى.

اقرأ/ي أيضًا: القارئ الذي لا يقرأ

إن الكاتب المبدع هو الذي يخاطب قارئًا مبدعًا، أو هو الذي يثير الرغبة الكبيرة في القراءة، ويعلق ستيفن كينغ "على الكاتب أن ينتصر دائمًا أو أن يهزم الآخرين. كيف؟ أن يهزم الآخرين عبر كتابة ما لم يتم كتابته أبدًا، وأن يهزم ويتفوق على من ماتوا من الكتَاب".

توصف القراءة بأنها عملية سلبية في الغالب، أي أنها تنطلق من الخارج إلى الداخل، على الرغم من المجهود الذي ينفق على فعل القراءة، بينما نجد أن الكتابة نشطة بشكل أساسي وتنطلق من الداخل إلى الخارج.

لكن ذلك لا يعني أن القراءة والكتابة عمليتان منفصلتان، بل على العكس فهما متصلتان بشكل وثيق، فالقراءة هي ممر المعرفة والحكمة والمتعة، في حين أنه عبر الكتابة يسعى الكاتب لإمتاع الآخرين ولإيصال المعرفة إلى الأخرين.

مخاض القراءة والكتابة

شخصيًا، بدأت القراءة في الكتب الفلسفية والأدبية وكتب الشعر والمسرح، ومن ثم بدأت الرغبة إلى الكتابة تتملكني، حيث صرت أشعر أنني متخم منتفخ من القراءة وبحاجة لأفرغ ما بداخلي إلى الخارج، تمامًا كالمرأة الحامل التي تصاب بعوارض ما قبل الإنجاب مما يصبح محتمًا أن يخرج الكائن من رحمها.

العلاقة وثيقة جدًا ذلك أن القارئ للفلسفة والأدب والشعر ستراوده الأفكار عن كونه هو الكاتب، حيث يتقمص شخصية الكاتب بفعل التأثر والصدمة والدهشة بما قرأه من روائع الفلسفة والأدب والشعر والمسرح، وحينها تبدأ عملية تشبه ما يسمى بالتماهي بين القارئ والكاتب، وبذلك تدفع القراءة القارئ إلى التحول إلى كاتب جديد يريد تفريغ شحناته من الأفكار والخيالات بواسطة التجريب.

إن الكاتب المبدع هو الذي يخاطب قارئًا مبدعًا، أو هو الذي يثير الرغبة الكبيرة في القراءة

تحتاج القراءة والكتابة عمليتنا إلى الممارسة، لأنهما عمليتان متعبتان. أذكر أن الكتاب الأول الذي قرأته خارج المنهاج الدراسي كان عنوانه "عالم صوفي" وهو عبارة عن 550 صفحة وقد أنفقت ثلاثة أشهر في قراءته. لا أنكر أنني يأست أحيانًا، تراجعت، شعرت بالملل، أحسست بعدم جدوى القراءة، لكني حين أنهيته كانت فرحتي كبيرة. وهكذا توالت الكتب وفي كل مرة كنت أصبح أكثر سرعة وأقل ملل مع متعة أكبر.

اقرأ/ي أيضًا: أكذوبة إحصائيات القراءة

حتى حانت الساعة التي نشرت أولى نصوصي الوجدانية في الفيسبوك، ومن ثم أولى مقالاتي في إحدى الجرائد الإلكترونية، ومقال آخر في جريدة ورقية وهكذا كرت المسبحة، لتصل بي الرغبة إلى محاولات لكتابة مجموعة قصصية. وهكذا صرت كالموقدة التي تلتهم كل ما يرمى فيها من أوراق فلا أشعر بنعمة الدفء إن مر يوم دون قراءة أو كتابة. أذكر أن الصديق الروائي أحمد مجدي همام كتب لي إهداء على كتابه في معرض بيروت الدولي للكتاب "إلى فراس العزيز، دودة الكتب" وقد أسعدني توصيفه جدًا.

عمليتان شيطانيتان!

الدكتور خنجر حمية، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، شارك "ألترا صوت" تجربته بالقول "يتأسس الموضوع على العلاقة بين الكلام أو الفكر والكتابة، ولا شك هنا أن الكتابة هي تجسيد عبر رموز لما راح يفكر فيه الإنسان لأول مرة ويتحدث عنه ويتداول فهمه مع الآخرين عبر اللغة المنطوقة، شفاهة أعني".

ويضيف "ثم إن الموضوع، وبغض النظر عن السبق البدئي إلى الوجود، يوحي بعلاقة جدلية". بالنسبة له "كل قراءة هي شكل من أشكال الخبرة مع الدلالات أو مع المعاني وأشكال الفهم، مع المعرفة المستودعة في كتب، مع العالم موضوعًا على الورق، مع تأملات ورؤى وتبصرات وأحلام يحملها النص في أكنافه. والكتابة هي إعادة تعبير عن كل ذلك، هي تعبير متحرر عنه  يتوسل اللغة مطية، أو اللون كما في لوحة، أو الموسيقى، أعني الرموز".

يرى أن القراءة والكتابة كلاهما فعل مكابدة، وكل قراءة تمسي شكلًا من أشكال تجربة المعنى في توتراته، في انقباضه وانبساطه، صعوده وهبوطه. كل قراءة هي رحلة جوانية في آفاق الدلالات والرؤى، وهي تفتح أفق الفهم على المتعدد والمختلف، الغريب والمدهش. ويؤكد على أن الكتابة هي فعل مكابدة كذلك. يصفها بالقول "إنها حوار الذات مع الذات، خاصة الكتابة الإبداعية، باللغة نخرج ذواتنا إلى فضاء البوح. نقول ذواتنا، نكشف عن أنحاء توجدنا، رهابنا، خوفنا، اضطرابنا وحزننا العميق".

في اللغة تنكشف الذات وتنبسط في أعمق ما يشكل جوهرها. نعم هما عمليتان شيطانيتان إذا شئت. تندفعان بهوس البحث عن أفق ما في اللغة والتعبير. تتحران وتحرران طبقات العناصر القابعة هناك خلف الأنا الواحد الرتيب.

خنجر حمية: كل قراءة هي شكل من أشكال الخبرة مع الدلالات أو مع المعاني وأشكال الفهم

أما فيما يخص الجهد بين الكتابة والقراءة، فيعبر أستاذ الفلسفة عن تجربته ورحلته معهما بالقول "جهد الكتابة أكبر من جهة القراءة، القراءة فعل سلبي في العموم، تكون الذات فيها منفعلة وهي في موضع المتلقي. أما الكتابة فهي فعل تكوين وخلق، ابتكار وابداع، صنع وتنشئة، وهنا يتجلى في أبهى صوره حدث الولادة".

ولا يعتبر حمية بوجود قاعدة ضرورية تلزم الكاتب أن يكون قارئًا، ويرى أن كثيرين يكتبون لكنهم لا يقرؤون إلا القليل، ويشير إلى أنه "مع القراءة نغتني ونتطور ونكوَن حصيلة معرفية لغوية، ترتقي بالكتابة إلى مستوى أرفع وتتسامى بها في مضمونها وأسلوبها، في منهجها وبنيتها وصورتها الكلية".

اقرأ/ي أيضًا: متاهات الكتب وحياة القراءة

بغض النظر عن الكيفية التي يتم عبرها استثمار القراءة من قبل كاتب ما، فالقراءة متعة في ذاتها. وبالنسبة له يجد أن "رهبة الكون في فضاء كتاب أجمل لحظة في لحظات حضور الذات لذاتها والاستغراق في تقصي عوالم النص متعة متسامية ورفيعة". دعوته هي التالية "اقرؤا. هذه دعوة إلى فعل القراءة بغية الاستنارة، لأن كل قراءة هي في حقيقتها  فعل استنارة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

فصل المقال في ما بين القارئ والكاتب من الاتصال

هل المغاربة شعب لا يقرأ؟