29-نوفمبر-2017

هنري ماتيس/ فرنسا

هناك أكثر من بداية ممكنة للموضوع. أن نبدأ بالسؤل مباشرة عما يحدثه داخلك قراءة عمل أثّر فيك، أو يكون المدخل أميل إلى التقريرية، بأن الكتاب الواحد تتعدد قراءته وفق تكوين قارئه. وربما يكون أيضًا التوقف عند الفارق بين قراءة المتلقي العاطي لعمل وبين قراءة مشتغل بالإبداع. وقد ننحي كل ذلك جنبًا لمعنى أكثر مباشرة وبساطة، فكما أنك لا تنزل إلى النهر نفسه مرتين، فلن تكون الكيان نفسه قبل وبعد قراءتك لكتاب.

فكما أنك لا تنزل إلى النهر نفسه مرتين، فلن تكون الكيان نفسه قبل وبعد قراءتك لكتاب

كل هذه التناولات صالحة قبل أن نخوض في فعل القراءة، ذلك الفعل العجيب أيًا ما كنت وأيًا ما كان تكوينك. هذا ليس من قبيل الترغيب أو الدعوة التي ربما مللتها من طول الإلحاح عليها، إن لم تكن قد ولجت وانتحيت مرة بكتاب آنسك وأدخلك في عوالم انتزعتك من محدودية حياتك اليومية وسافرت معه عابرًا ما يشدّك إلى أرض ضيقة، متحررًا من احتياجات لا تنطلق معها روحك. لكنه الباب لتأمّل أحوال نفوس بشر وصفت "كيمياء" العلاقة بفعل القراءة، والتي معها نكتشف أنه "ولا كل مَن طالع كتابًا هو قارئ".

بودكاست مسموعة

صديق، لا أعرفه، وربما لا تعرفه، من مدينة بإحدى الدول العربية، قرأ رواية "مدام بوفاري" لجوستاف فلوبير، استمتع وعلقت بذاكرته حكاية إيما بوفاري، ثم فجأة أحسّ وكأنه لا قرأ الرواية ولا عرف إيما. متى وكيف حدث له ذلك؟ لما اطَّلع على قراءة الكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا للرواية الكلاسيكية، والتي أخرجها في كتاب، أحسّ أنه لم يلج إلى حقيقة كون كبير احتوته صفحات الرواية. تساءل أنا قرأت ويوسا نفس الكتاب، لم لم ينفذ إليّ كما فعل؟ هذا يعني أن ملايين أرفف المكتبات في العالم وإن طرحت مئات الملايين من العناوين في كل مختلف الأفرع، لا تنتج قراءً حقيقيين طول الوقت. كل واحد بوعيه وخبرته، ينتج مطالعة لذات الكتاب.

لطالما شغلني الرابط بين القراءة والسجن وحكايات المعتقلين عن وَنَس الكتب. ربما يكون أجمل ما في القراءة هو الإحساس بالحرية. أن تحرر وتتحرر ولا تكون إلا نفسك. القراءة فعل مرادف للحرية والفردانية. إن أردت الحقيقة، فالقراءة، ناهيك عن ما تضيفه، شرطها الأساسي أن لا تقرأ كما يقرأ غيرك، ولا تتبع إلا نفسك. باختصار، أن لا تسير وراء ناصح أو نصيحة، يحاول أحدهم أن يختصر بها طريقك، سواء بتحديد نوع ما تقرؤه من كتب ولا كيف تقرأ. التجربة لا تكتمل إلا بأخطائها. فرجينيا وولف تهديك النصيحة: "لا تتبع أي نصيحة، فقط اتبع حواسك، توصَّل إلى استنتاجاتك الخاصة". القراءة بابك الملكي لتكون مستقلًا. حين تنتحي بكتاب، ضع كل القوانين ومعوقات السلطة أيًا كانت على الرفّ، ولا تصدق أي كتالوج يطرحه عليك أيًا من كان.

حتى وإن كنا محاصرين بالقواعد في كل جزء من حياتنا، علينا تخلّص من القوانين والقواعد ونحن على عتبة القراءة أو على عتبة المكتبة. على أرفف المكتبات روايات وأشعار، كتب في السياسة والاقتصاد، قواميس ودوائر ومعارف، تاريخ وعلوم.. ماذا تفعل في مغارة علي بابا هذه؟ ماذا تفعل في مواجهة أسماء تنتمي إلى كل الجنسيات والأعراق؟ من أين نبدأ؟ غالبًا ما يكون المرء موزّع النفس حائرًا كأنه يفاضل بين مذاقات المانجو والتفاح، بين طزاجة برتقالة نفّاذة الرائحة وبين مشمشة فوّاحة. أية محاولة للتوجيه بالقراءة، في مضمار بعينه، هي تدمير لروح الحرية، وضالتك في الوصول إلى روح حرة هي الكتب. الحرية هي روح المكتبات. وبين المشمش والتفاح، فتّش عن بغيتك وما تهفو إليه نفسك، لكن لا تتناسى أنه يمكنك انتقاء زهرة من كل بستان، أو لعل روحك باحتياج إلى كامل العناصر. قليل من الشعر مع بعض من الرواية وشيء من العلم مع قدر من التاريخ.

في عالم الصحة البدنية كثيرًا ما ينصحونك بالإنصات إلى جسدك، فربما لو اشتهيت الموز فأنت تعاني نقصًا في البوتاسيوم، أو نفسك في قضمة رغيف، فقد يكون نقصًا في السكر أو النشويات التي تتحول إلى سكريات، وهكذا الأمر في عوالم الكتب. تقول فرجينيا حين تقرأ، كن زميلًا للكاتب، لا تمل عليه ما يفعله، كن حرًّا في التلقي ودع له حريته. لو أصدرت حكمًا مسبقًا على ما تقرأ، سوف تفقد العصارة المفيدة، بينما إن فتحت المسام قدر الاستطاعة لن تستشعر هذا الضيق المنبعث من ذات لا تريد الاختلاف. سوف تجرّب صفوًا تستغربه، حتى مع وجود شخص تختلف معه. هنا ألق بنفسك وانغمس.

فرجينيا وولف لم تكن تحظى بكل المتعة من القراءة إلا بعد أن يهدأ ما تسميه "غبار القراءة"

"وكي تدرك جيدًا فعل القراءة، عليك أن تكتب"، هذا ما تقوله صاحبة المعطف المليء بالحجارة. لفهم الروائي، جرّب أن تكتب. إعادة بناء بالكلمات تجربة أشبه باللعبة. كل رواية هي عالم تتشظّى فيه المشاعر وتتناقض وهي تُبني، كل روائي يصيغ عالمًا من وجهة نظره، فَكّْ خيوط هذا العالم ليس عملية بسيطة. وما بين أن تلقي بنفسك في عالم روائي وعالم روائي آخر، لا بد من هدنة. فمع كل رواية تغوص مع أفراد لهم سماء وحكايات ووظائف وأفكار، بيوت كاملة ندخلها، مَن هؤلاء؟ الكتب نوافذ تنفتح على العالم ولها القدرة على تغيير الحياة، وهذا ليس مجرد "كلام كتب". نحن نقرأ ربما لنكتشف ما لا ندركه في أنفسنا، أو لنحرر طاقاتنا المحاصرة، باليومي. قد تفتح لك جملة في كتاب ما تعذّر عليك من آفاق، وربما وهبتك رسالة و بعض من سيرة إنسان لا تعرفه رؤية لعمرك القادم. في حضرة قصيدة ما قد تجد إجابة لما استعصى.

فرجينيا وولف لم تكن تحظى بكل المتعة من القراءة إلا بعد أن يهدأ ما تسميه "غبار القراءة". عندها، القراءة الأولى هي استقبال لمؤثرات بأقصى فهم، يليها تريث في الحكم، حيث تدع التساؤلات تهدأ والأفكار الجامحة تتروى، ثم تقطف بهدوء البتلات الميتة من ورد قراءتك أو حتى اذهب إلى النوم. عندها تبدأ التحولات في عقولنا، ويعود الكتاب بشكل مختلف ويطفو كعمل متماسك. هنا نرى الكتاب من البداية إلى النهاية، وهنا نتحول من أصدقاء للكاتب إلى قضاة. وماذا عن الذائقة؟ تقول فرجينيا إن ذائقة كل منا عمادها الأساسي هو إحساسه، فنحن نتعلّم من مشاعرنا حين نقرأ قصيدة أو رواية. والذائقة تخضع لتدريب وتحتاج إلى تغذية نهمة من كل نوع، حتى تتمكن من تكوين حُكم وتتمكن من المقارنة. تدريب وتربية الذائقة سيكافئ القارئ بتعريضه كاملا لكل هذا الهواء الطازج والنور الذي يلقيه المبدعين في دروبه، مسلحًا بأسئلته التي راكمتها مشاوير القراءة.

الاستفادة مزدوجة كذلك، إذا ما اعترضت طريقه موجات من الكتابة الرديئة. لكن أيضًا التعامل كقطيع أمام عمل "كبير" يسلبنا المتعة. لنبقى قراء أوفياء، دون تمجيد مجاني ومسبق للنقاد. الوفاء كقارئ يعني أن تصدق مع نفسك في ما تستشفه، وربما يكون هذا الصدق هو ما يجعل القراءة "أعظم النعيم" كما تقول فرجينيا. "حلمت أنه في يوم القيامة، حين يأتي الفاتحون ورجال الدولة العظام والمحامون النبلاء لتسلم جوائزهم، مثل التيجان والأمجاد ونحت أسمائهم على رخام لا يفنى.. سيتحدث الرب الى بطرس الرسول ويقول بينما يلمحنا ونحن نتأبط كتبنا: "انظر، إنهم لا يحتاجون مكافأة. ليس لدينا ما نعطيه، فهم يحبون القراءة، وهذا أعظم النعيم".