08-نوفمبر-2019

سوق كتب مستعملة في بوسطن الأمريكية (فيسبوك)

كيف من الممكن أن نبدأ؟ لنطرح مثلًا سؤال: ما القراءة؟ ونكتفي بإجاباتٍ بسيطة دون الخوض في غمار البحث عن إجاباتٍ معقّدة. لنقل إنّها ذلك الفعل العجيب، أو تلك الممارسة السحرية التي يدخلها الإنسان بهيئة، ويخرج منها بهيئةٍ أخرى. ولربّما هي القدرة على انتزاع القارئ من رتابة وخشونة وشوائب العادي. وبما أنّ الكتابة هي القدرة على إمتاع ومؤانسة القارئ، فلربّما كانت القراءة هي قدرة القارئ ذاته على إمتاع نفسه، ومؤانستها. ولكن، كيف نعرّف العلاقة بين القارئ والقراءة؟ أو ما هو شكل العلاقة بين القراءة والكاتب؟ متى يكون كاتبًا ومتى يكون قارئًا؟ ما الحدّ الفصل بين مؤانسة الآخر ومن ثمّ مؤانسة الذات؟

القراءة صنعة، بالنسبة للكاتب الفرنسي روجيه غرونييه، وقد أتقنها على مدار نصف قرنٍ من الزمن

لا يبدو مُمكنًا التعامل مع روجيه غرونييه (1919-2017) ككاتب، بقدر ما يبدو مُمكنًا التعامل معه، أو المجيء على ذكره، كقارئٍ يُحسب على قرّاء الصفّ الأوّل، والطراز الرفيع. القراءة عند الكاتب الفرنسيّ نشاط جَهِدَ طوال حياته على جعله النشاط الأوّل، بحيث لا يتفوّق عليه أي نشاطٍ آخر. وإذ بالقراءة تُصبح القالب الذي سوف يُحدِّد شكل حياته، لا سيما وأنّها كانت مصدر رزقه.

اقرأ/ي أيضًا: "الكتب التي التهمت والدي".. سردٌ متعدد الطوابق

على امتداد نصف قرن من الزمن، عمل غرونييه قارئًا في "دار غاليمار" الفرنسية للنّشر، عملًا أتاح له أن يكون ضابطًا برتبة قارئ، يُعاين مخطوطة ويشتبك مع أخرى، دون أن يُميّز بين مخطوطة كاتبٍ مشهور وآخر مغمور. غرونييه، ومن الأساس، كان يبني صداقاته مع ما يكتبه الآخرون، قبل أن تُبني بعد ذلك معهم. وفي أحيان كثيرة، يكتفي الفرنسيّ بصداقته مع مؤلّفاتهم فقط. في كتابه "قصر الكتب" (دار المدى، 2018) ترجمة زياد خاشوق؛ يسحب المؤلّف الراحل مزلاج الباب المُغلق على أسرار علاقته بالكتب قبل أن تصبح كُتبًا، ويضع بين أيدي القرّاء أفكاره عن القراءة قبل الكتابة، وكذا أفكاره عن كتب الآخرين. وإذ بالقارئ يُحاول اقتفاء أثر أسرار القراءة، لا الكتابة.

القراءة إذًا، وفقًا لما يُمكن استخلاصه من حديث غرونييه، أقرب إلى صنعة، أتقنها على مدار نصف قرنٍ من الزمن. ووضع بعض تفاصيلها في كتابه الذي شيّده كقصر، نتجوّل في أروقته، فنصادف بودلير وهمنغواي وبافيزي الذين يظهرون ما إن ترد المفردة التالية: الانتحار. ونجتمع في رواقٍ آخر ببلزاك الذي يُشير إليه غرونييه بإعجابٍ، وإن كان يراه رجلًا سوقيًا. بينما يرى بروست حشرة مقيتة. ننعطف قليلًا فنصبح أمام ألبير كامو الذي اتّخذ من ضمير المتكلم ذريعة سردية لإغواء القارئ. تمامًا كما فعلت مارغريت دوراس. ومع انعطافة ثانية، نقف أمام كتب لم يُكتب لها أن تكتمل، رواق يجمع كافكا وروايته غير المكتملة، أي القصر، وغيره من الكتّاب.

لن ننعطف مُجدّدًا، كما أنّنا لن ندخل أروقةً جديدة. القصر الذي بناه روجيه غرونييه لا ينتهي عند هذا الحد. والرحلة مع الكتب التي رافقها أيضًا طيلة نصف قرنٍ من الزمن، أطول مما ذكرناه. سنطوي صفحة كافكا وبروست وكامو، لصالح ماركيز والجاحظ وهيرمان هيسه وأبا تمام وكازانتزاكيس. بمعنى أنّ هناك جولة أخرى في عوالم الكتب، وعلاقة الكتّاب بكتب غيرهم. سيغيب غرونييه ليحضر لؤي حمزة عبّاس الذي تطوّع ليكون دليلًا سياحيًا يدعونا إلى اقتفاء أثر أسلافه ممن أتقنوا صنعة التأليف والمؤانسة، وذلك على متن كتابه "النوم إلى جوار الكتب" (دار شهريار – دار الرافدين، 2018).

لسنا إزاء ضابط برتبة قارئ، كما كان غرونييه، وإنّما إزاء كاتبٍ بنى مكتبته الأولى برفوف خشبية مأخوذة من صناديق العتاد والذخيرة، وفي زاوية ملجئ تحت الأرض. وأنّ تولد مكتبة في ملجئ، وفي اللحظات الفاصلة بين الحياة والموت، يعني أن تكون جنّة المعاني البعيدة، وفردوس الوساوس والأحلام وفقًا لما يراه الكاتب العراقيّ الذي استدعى كتّابًا ليكونوا رفاقًا له تحت الأرض، يؤنسوا الوحشة الممتدّة على طول جغرافيا البلاد. ما معناه أنّ العلاقة بينه وبين ماركيز والجاحظ وغيرهما، قامت على أساس المؤانسة. وبينما يجول بنا في عوالمهم، يستعيد زمنًا أنقذت فيه الكتب حياته من الكوابيس المزمنة إلى أن أعاد تأسيس مكتبته بعيدًا عن الملاجئ، وخارج صناديق الذخيرة.

بناء مكتبة بألواح خشبية مأخوذة من صناديق الذخيرة، وفي ملجئ تحت الأرض، تلك هي قصة الكاتب العراقي لؤي حمزة عباس

مؤلّف "مرويات الذئاب" يرى أنّ سيرة الكاتب ليست سوى رحلته مع الكتب. وأنّه ليس بحاسّة النظر فقط، يُمكن للقارئ أن يستدلّ ويصل إلى صورة المعاني الخفية وراء كلّ كتابٍ يقرأه. رحلته مع الكتب ستدفعهُ لإشراك الصوت والصمت، الموسيقى والأمكنة واللون، في وصفة القراءة خاصّته. بهارات لا بدّ منها ليكتمل المذاق عند الكانب العراقيّ الذي سوف يشير إلى ام كلثوم باعتبارها أيقونة البهجة وبوابتها. ويوجّه اصبعه نحو الراديو، بوصفه شريك الملاجئ والمتمرّد على قسوة الوقت، قبل أن يأخذه الحديث إلى إبراهيم أصلان الذي يعتبره نموذجًا للصمت المكتنز. ومحمد خضير الذي قدّم وطنًا تقصيه المصائر، وتقرّبه الصوّر. وغيرهما من الكتّاب في متحف السعادة خاصّته، ذلك الذي يقفله بفكرة أنّه من الممكن أن يكون الإنسان مدينًا بحياته للكتب.

اقرأ/ي أيضًا: 6 من أهم المكتبات العربية

بناء مكتبة بألواح خشبية مأخوذة من صناديق الذخيرة، وفي ملجئ تحت الأرض، يبدو أمرًا ملفتًا. ولكنّ إقدام هنري ميلر على الإطاحة بعناوين مئات المؤلّفين من رفوف مكتبته، يبدو مُلفتًا أكثر. فالكتب الفريدة نادرة، وهي أقلّ من خمسين في مخزن الأدب كلّه. يقول الكاتب الأمريكي في كتابه "الكتب في حياتي" (دار المدى 2012، ترجمة أسامة منزلجي)، مُعتبرًا أنّ أهمّية الكاتب لا تكتمل إلّا حين تتمكّن أعماله من تحويل القارئ إلى صديق شخصيّ وحميم.

لن نطيل البحث عن المعاني المخفية وراء المذكور أعلاه. ولن نجد في الأمر أي عناء يُذكر. ما قاله مؤلّف "مدار الجدي" في كتابه أقرب إلى ضربة مُباغتة اختزلت طبيعة علافته بالكتب؛ إمّا أن يكون الكتاب صديقًا، وإمّا عابرًا في حياة الكاتب الأمريكي الذي لن يمنحه الإقامة الدائمة، لا في رفوف مكتبته فقط وإنّما في سيرته كاملةً. سيطوي هنري ميلر بذلك صفحة مئات العناوين التي سقطت من الرفوف دون رجعة. هوسه بالقراءة يحتّم عليه رفض الكتب التي تأتي على عكس وصفة القراءة خاصّته، بالإضافة إلى رفض أي علاقة باردة بينه وبين أي كتاب. تمامًا كما لو أنّ الاشتعال شرطًا لا بدّ منه عند مؤلّف "شيطان في الجنّة" ليكتمل مذاق القراءة.

لا يبدو ميلر مأخوذًا بما يُمكن أن يضيفه من بهاراتٍ في وصفة القراءة خاصّته، إنّما بمدى قدرة الكتاب على خلق صوتٍ يظلّ عالقًا في ذاكرته. من الطفولة سوف يبدأ التجوال في متحف علاقته بالكتب. ينفض الغبار عن كتابٍ ما، ويتلمّس كتابًا آخر، ويُطيل الوقوف في المسافات الفاصلة بين مرحلةٍ وأخرى. كما لو أنّه يستعيد تلك الأصوات العالقة في ذاكرته، والمنبعثة من كتب مغامراتٍ وألغاز كانت عتبته الأولى نحو العناوين المهمّة. كما كانت أساس علاقة شكّلت عالمًا موازيًا لعالمه الشخصيّ الذي لا يستطيع أن يرويه دون العودة إليه. ما يعني أنّ هنري ميلر يؤرّخ في كتابه هذا سيرته الشخصية عن طريق الكتب، حياته الموازية التي صادق فيها جيمس جويس، ودي اتش لورانس، ودوستويفسكي، ومارسيل بروست، وهيرمان هيسه ودوس باسوس. مُعتبرًا أنّ الاسم الأول، جميس جويس، العملاق في ميدان الأدب.

استعادة الجاحظ تعني استعادة مؤلّفٍ شغلته الرغبة بالكتابة والاختفاء. رغبة ستجعل التأليف عند من انتهى مقتولًا تحت أكوام الكتب، ملاصقة ومرتبطة بالغياب والتواري. عبد الفتاح كيليطو، وبناءً على ما سبق ذكره، جاحظ آخر يهوى الاختفاء، بعد التأليف. في مكتبته، سيتفرّغ لمعاينة متاهاتٍ مُختلفة تمهيدًا لغزوةٍ ما على ممالك شهرزاد أو الجاحظ والمعرّي. سيطلّ في الوقت نفسه من أعلى برج بابل على مكتبةٍ نشأت بينه وبين كتبها علاقة أرفع من خيط، وأضيق من خرم ابرة. إلّا أنّها مفتوحة على جناتٍ لم يطأها أحد سواه. والكتب، في حياة من قدّم "الأدب والارتياب"، شكّلت، وإلى حدٍّ ما، رؤيته إلى العالم. وفقًا لما قاله لأمينة عاشور التي استدرجته في كتاب "كيليطو... موضع أسئلة" (دار توبقال، 2017) ترجمة عبد السلام بنعبد العالي؛ ليروي تفاصيل وأسرار علاقته بالقراءة والكتب.

متسائل عبد الفتاح كيليطو: كيف نجرؤ على مواصلة الكتابة بعد الجاحظ ومارسيل بروست وكافكا؟

كان روجيه غرونييه قد بنى قصره انطلاقًا من كونه ضابطًا برتبة قارئ. أمّا عبد الفتّاح كيليطو، فقد بنى قصره انطلاقًا من كونه قارئًا برتبة مؤلّف. ورتّبه داخليًا بحيث يكون لُغزًا، يتوسّطه مُختبرًا سوف يُعاين فيه عوالم بورخيس والمعرّي، نابشًا أسرارهما، وبعينٍ حداثية، تمامًا كما سيفعل مع كتبٍ أخرى استدعاها من تراثٍ لا يكلّ في نفض الصدأ عنه، فنرى الجاحظ في زاويةٍ من زوايا قصره، يُقابله على الضفّة الأخرى نيتشه، مُجاورًا رولان بارت الذي يُقابله ابن رشد، وبجانبه ابن حزم. والمعنى أنّ علاقة كيليطو مع الكتب تقوم على أساس مدى قدرته في إضاءة الغموض، وفتح الأبواب المغلقة والمسارات المضلّلة والمتعرّجة. وبالتالي، ما قيمة العمل من غير أسرار؟ يقول ممتدحًا غموض المعرّي وغيره من الكتّاب الذين نجوا بغموضهم. متسائلًا في الوقت نفسه: كيف نجرؤ على مواصلة الكتابة بعد الجاحظ ومارسيل بروست وكافكا؟

اقرأ/ي أيضًا: أمبرتو إيكو.. عن الكتب التي لا نقرؤها

حينما كان صاحب "حصان نيتشه" يبني متاهته الشخصية، اعترضت طريقه متاهة أخرى تنطوي على الحيرة بين الكتابة بالفرنسية أو العربية. حيرة مربكة بالنسبة للكاتب المغربي الذي سيقرّر التوجّه ببصره شرقًا إن أراد الكتابة بالعربية. وغربًا أو شمالًا إن أراد الكتابة بالفرنسية. أمّا القراءة، فالنهار للعربية بينما الليل للفرنسية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هجر الكتب.. هوس وأشياء أخرى

باعة الكتب المستعملة.. ذاكرة كتاب المغرب