03-يناير-2021

كتاب "انتعاشة اللغة.. كتابات في الترجمة"

ألترا صوت – فريق التحرير

هذا نص من كتاب "انتعاشة اللغة.. كتابات في الترجمة" للكاتب المغربي عبد السلام بنعبد العالي، الذي صدر مؤخرًا عن "منشورات المتوسط"، وفيه يفرد بنعبد العالي مساحات مذهلة لتأملات وقراءات في الترجمة ومعانيها وأحوالها، فيكتب عن دورها في والتَّعدُّديَّة الثَّقافيَّة، ويرصدها كقضية فلسفية، وكذلك يتناول إشكالية الكاتب ومترجمه.. وغيرها من العناوين.

كتب عبد الفتاح كيليطو في مقدمة الكتاب: " الآن وقد قرأتُ ما كَتَبَهُ عبد السلام بنعبد العالي في الترجمة، أجدُني أنظر إلى الأمور بمنظار آخر. وهذا ما يحدث عادة مع الدراسات الجادَّة والمبدِعة، فهي تُغيِّر نظرتنا إلى الأشياء، بطرحها أسئلة جديدة، قد تكون مخالفة تمامًا لمُسلَّماتنا، ولما تعوَّدنا على اعتقاده. الآن تبدو لي كلُّ ترجمات ألف ليلة وليلة، حتَّى تلك التي تتصرَّف في النَّصِّ بصفة مقيتة، شيئًا ثمينًا، لا يُستغنى عنه. إنها تُثري الكتاب، وتضيف إليه دلالاتٍ ومعانيَ وصورًا، لا ترد في صيغته الأصلية. قد نتصوَّر ترجمة له، تكون نهائية (ومَنْ ذا الذي لا يتمنَّاها؟)، ولكنها ستكون، حتمًا، علامة على انعدام الاهتمام به، وإيذانًا بأفوله وموته".


"عندما نعبر جسر اللغات، يكون على الترجمة أحيانًا أن تؤدِّيَ رسوم العبور، فتتخلَّى عن حرفٍ أو أكثر"

  •  م. سير، فنُّ الجسور

كَتَبَ موريس بلانشو عن ترجمة هولدرلين لتُحفَتَي سوفوكليس "أوديبوس" و"أنتيغون": "لقد كانت هاتان الترجمتان آخرَ أعماله، وقد أُنجِزَتا وهو على عتبة الجنون. إنهما عملان، بلغا حَدًّا بعيدًا في العمق والمهارة والقدرة على التَّحكُّم. قادتْهما الرغبة، لا في نقل النَّصِّ الإغريقي إلى اللغة الألمانية، ولا في توجيه اللغة الألمانية نحو المنابع الإغريقية، وإنما في توحيد القوَّتَيْن اللَّتَيْن تمثِّل إحداهما تقلُّبات المغيب (الغرب)، والأخرى تحوُّلات المشرق، لينصهرا في بساطة لغة كُلِّيَّة خالصة. والنتيجة عمل خارق. فكأننا نلفي بين اللُّغَتَيْن تفاهمًا، هو من العمق والانسجام، بحيث تحلَّان محلَّ المعنى، وتتمكَّنان من جعل الفجوة بينهما منبعًا لمعنى جديد".

الترجمة لا تتمثَّل في جرِّ النَّصِّ المترجَم نحو اللغة المترجِمة، ولا في توجيه اللغة المترجِمة نحو منابع النَّصِّ الأصلي، وإنما في إبداع لغة ثالثة

كما كَتَبَ بورخيس عن ترجمة فيتزجيرالد لرباعيات الخيَّام: "من اللقاء المبارك الذي جمع بين فلكِيٍّ فارسيٍّ، يتنازل ليكتبَ الشِّعْر وإنجليزي غريب الأطوار، يطارد الكُتُب الشَّرقيَّة والإسبانية، دون أن يفهمها تمامًا على الأرجح، يَبزُغ شاعر مذهل، لا يشبه أيًّا منهما. يكتب سوينبورن أن فيتزجيرالد "أعطى عمَر الخيَّام مكانًا خالدًا بين شعراء الإنجليزية العِظام"، ويلاحِظ تشترتون، المأخوذ برومانسية وكلاسيكية موادِّ هذا الكتاب المدهِش، أنه "يجمع الموسيقى الخلَّابة والحكمة الباقية". ويعتقد بعض النُّقَّاد بأن خيام فيتزجيرالد هو، في حقيقة الأمر، قصيدة إنجليزية بخيال فارسي، وأن فيتزجيرالد تدخَّل وشذَّب وابتكر، ولكنَّ رباعيَّاته تبدو وكأنها تطالبنا بقراءتها على أنها فارسية قديمة". في خاتمة مقاله هذا المعنون "لغز إدوارد فيتزجيرالد" يستنتج بورخيس: "كلُّ الصداقات غامضة، ولعلَّ تلك التي جمعت الإنجليزي بالفارسي أكثرها غموضًا. ذلك لأنهما مختلفان إلى حَدٍّ بعيد، ولعلَّهما لم يكونا، ليصبحا صديقَيْن في الحياة، لكنَّ الموت والتَّحوُّلات والزمن قاد أحدهما إلى معرفة الآخر، ليجمعهما في شاعر واحد".

اقرأ/ي أيضًا: عبد السلام بنعبد العالي في "لا أملك إلَّا المسافات".. توليد الفكر واللغة

ما القاسم المشترك بين هذَيْن النَّصَّيْن؟ ينبغي أن نعترف أوَّلًا أن كلًا منهما يتحدَّث عن حالة قصوى، عن مترجِمَيْن ذهبا بالترجمة إلى أقصى ممكناتها، فجعلاها تضاهي الأصل، إن لم تفقه. يبدو لأوَّل وَهْلَة أن توقُّفنا عند هذَيْن النَّصَّيْن لن يكون مجديًا، ما دمنا لا نستطيع أن نقيس عليهما الحالات العادية للترجمة، كي نستخلص ما يمكن استخلاصه. وعلى رغم ذلك، فربَّما كانت الحالة القصوى، لا نقول معيارًا يُقاس عليه، وإنما حَدًّا، ترتسم الأمور بدلالته. فما الذي يقوله هذان النَّصَّان إذًا؟

لو نحن غَضَضْنا الطرف عن خصوصيات صاحبَيْهما أوَّلًا، وخصوصيات النَّصَّيْن المترجَمَيْن، فيبدو أن بورخيس وبلانشو يلتقيان في إقرارهما بأن الترجمة لا تتمثَّل في جرِّ النَّصِّ المترجَم نحو اللغة المترجِمة، ولا في توجيه اللغة المترجِمة نحو منابع النَّصِّ الأصلي، وإنما في إبداع لغة ثالثة، أو كما يقول بورخيس، "في بزوغ شاعر مذهِل، لا يشبه الشاعر المنقول، ولا الشاعر الناقل"، شاعر ثالث "يجمعهما معًا في شاعر واحد".

ما المقصود بهذا الانصهار؟ هل يتعلَّق الأمر بإذابة الاختلاف بين الشاعرَيْن، بين المشرق والمغيب؟ ما طبيعة الوحدة التي يتكلَّم عنها بورخيس؟ ربَّما نجد الجواب عن سؤالنا هذا في نهاية فقرة بلانشو عندما يقول إن اللغة الناقلة واللغة المنقول عنها "تتمكَّنان من جَعْل الفجوة بينهما منبعًا لمعنى جديد". هي، إذًا، وحدة تنطوي على فجوة، هي وحدة منخورة، وهي مطابقة تُكرِّس الاختلاف.

في نصٍّ آخر، يشبِّه موريس بلانشو عملَ الترجمة، وهي تحاول التقريب بين لُغَتَيْن، بعمل هرقل وهو يحاول التقريب ما بين ضِفَّتَي البحر. هذا العُسر الذي يتطلَّب قوَّة جبَّارة في مثل قوَّة هرقل، يدلُّ على أن ذلك التقريب هو، في الوقت ذاته، إبعاد، وعلى أن الترجمة، إذ تحاول أن تُوحِّد بين اللغات، تعمل، بالفعل ذاته، على تكريس الاختلاف بينهما، وإذكاء حِدَّتِهِ.

يشبِّه موريس بلانشو عملَ الترجمة، وهي تحاول التقريب بين لُغَتَيْن، بعمل هرقل وهو يحاول التقريب ما بين ضِفَّتَي البحر

فالترجمة ترعى الاختلاف، وهو يجد فيها حياته ومَرْتَعَهُ، من حيثُ إن النَّصَّ لا يصبح جاهزًا للترجمة إلَّا إذا أخذ يكشف عن رغبته في الخروج عن ذاته، وعشقه إلى أن يخالف نفسه، وحنينه إلى أن يسكن لغة أخرى، ويرحل عن موطنه. هذا التَّطلُّع نحو الآخر سمة كلِّ نصٍّ حَيٍّ، أو لنقل إنه خاصِّيَّة كلِّ نصٍّ بما هو كذلك. فالنَّصُّ لا بدَّ وأن يُغيِّر لباسه، ويُبدِّل لغته، وإلَّا كفَّ عن التَّحوُّل والتَّجدُّد والحياة.

اقرأ/ي أيضًا: مقدمة كتاب "الكتابة بالقَفْز والوَثْب".. حاضر متحرِّك

لا يرمي المترجم، إذًا، إلى توحيد اللغات، وإلغاء الاختلاف بينها. من هذه الزاوية، لا ينبغي أن ينظر إلى الترجمة أساسًا كعملية لخَلْق القرابة، وإنما كفعالية لتكريس الغرابة. وأكبر الزَّلَّات التي يمكن للمترجم أن يقترفَها هي أن يعمل على تجميد الحالة التي توجد عليها لغته بفعل الصدفة، عوض أن يُخضِعَها للدَّفْع العنيف الذي يتأتَّى من اللغة الأجنبية. في هذا الصدد، يستعيد بلانشو نصًّا لأحد المُنظِّرين الألمان يُورِدُهُ فالتر بنيامين. يقول رودولف بانفيتز: "إن أحسن ترجماتنا الألمانية تنطلق من مبدأ خاطئ، وهي تزعم إضفاء الطابع الألماني على السَّنسكريتيَّة والإغريقية والإنجليزية، بدل العكس، أي إعطاء الألمانية طابعًا سنسكريتيًا وإغريقيًا وإنجليزيًا".

هذا الانفتاح اللَّامتناهي على الغرابة بشتَّى أشكالها لا يُسهِّل المهمَّة على المترجم، وإنما يضع على كاهله مسؤولية عسيرة، لعلَّها هي المسؤولية الملقاة على كلِّ عمل فكري. فبما أن المترجم ينطلق من أن كلَّ لغة يمكن أن تغدو اللغات جميعها، سيكون عليه أن يصبح، من أجل تحقيق ذلك، مبدعًا في لغته، أي أن يكون راعي الاختلاف، ليس اختلاف لغته مع غيرها من اللغات فحسب، وإنما، أيضًا، وربما أساسًا، اختلاف لغته مع ذاتها.

بهذا المعنى، فإن المترجِم ليس مجرَّد ناقل، وإنما هو مبدِعٌ مؤلِّف، والنَّصُّ المترجَم يحاكي عملية الإبداع التي تحاول، انطلاقًا من اللغة المألوفة، تلك التي نحيا فيها وبها، ونكون غارقين فيها، تحاول "أن تعطي الحياة لِلُغة مغايرة، يبدو ظاهريًا أنها اللغة ذاتها، ولكنها تُشكِّل ما هو غائب عنها، مخالف لها اختلافًا، لا ينفكُّ يحصل، ولا ينفكُّ يختفي". لا تهدف الترجمة، إذنْ، إلى المحاكاة "الأمينة": "ذلك أن هاته المحاكاة تقضي على عمل الترجمة، من حيثُ إنها تُؤَقْلِمُهَا، وتنزع عنها امتياز الالتباس وعدم الاستقرار الذي يرقى بعدَّة مؤلَّفات مُترجَمَة إلى مستوى المؤلَّفات الرائعة".

نفهم، إذًا، أن تعمل ترجمة هولدرلين على "توحيد القوَّتَيْن اللَّتَيْن تمثِّل إحداهما تقلُّبات المغيب (الغرب)، والأخرى تحوُّلات المشرق"، كما نفهم أن يكون الخيَّام وفيتزجيرالد "مختلفَيْن إلى حَدٍّ بعيد"، "ولعلَّهما لم يكونا ليُصبحا صديقَيْن في الحياة" كما يؤكِّد بورخيس، لكن الترجمة قادت "أحدهما إلى معرفة الآخر، لتجمعهما في شاعر واحد"، بحيث غدا "خيَّام فيتزجيرالد في حقيقة الأمر قصيدة إنجليزية بخيال فارسيٍّ"، قصيدة ليست للشاعر الفارسي، ولا للشاعر الإنجليزي، قصيدة لهما معًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عبد الفتاح كيليطو في "الأدب والغرابة".. سندباد أدبي

عبد الفتاح كيليطو: النقطة الفاصلة