12-مارس-2017

لقطة من الفيلم

صورة هادئة جدًا ممزوجة بالكثير من البساطة عن قصائد مدرسة نيويورك النثرية ومدينة "باترسون". بهذه الجملة القصيرة يمكن توصيف الفيلم الأخير "باترسون" للأمريكي، جيم جارموش، نصًا وإخراجًا، لأن المتفرج سيكون أمام مشاهد غير معقدة، يسرد فيها حياة سائق الباص، آدم درايفر (باترسون)، وزوجته الإيرانية غولشيفته فراهاني، لمدة أسبوع ضمن ساعتين من الزمن.

يفتتح جارموش أولى مشاهده بلقطة للزوجين صباح يوم الاثنين، والتي ستتكرر خلال الشريط صباحات باقي الأيام، عندما يستيقظ للذهاب إلى عمله كسائق باص في مدينة "باترسون"، ويوميًا قبل موعد انطلاقه من الموقف يكتب الشعر على دفتر مذكرات لديه، وعندما يعود للمنزل لديه قبو في منزله يستعمله كمختبر للقراءة وكتابة الشعر.

جارموش من أنصار مدرسة نيويورك الشعرية، وعندما سافر إلى باريس كان متأثرًا بالسينما فاتجه لدراستها وأخرج أولى أعماله "عطلة دائمة"

في "باترسون" الذي كُتب النص خصيصًا لها، لدينا الكثير من الحياة الهادئة، نعيش مع درايفر الذي يحمل اسم المدينة عينها. في الشريط نسير بخطى محمولة بتفاصيل الحياة البسيطة، لأن "باترسون" غير مهتم إطلاقًا بوسائل التواصل الاجتماعي، يرفض اقتناء هاتف محمول، وطباعة قصائده التي يكتبها في "دفتره السري"، وزوجته منشغلة بحياكة الستائر الملونة، وتعلم العزف على الغيتار، وخلال مسرى المشاهد نستمع للأشعار التي كتبها الشاعر الأمريكي، رون بادجيت، وهو أحد شعراء مدرسة نيويورك، خصيصًا للفيلم لأن جارموش معجب بقصائده النثرية، هناك ترجمة لمجموعة من قصائده في صحيفة "عمان" بعنوان "الطباخ العاشق وقصائد أخرى"، نقلها للعربية أحمد شافعي.

منها على سبيل المثال "أنا في البيت/ والجو بالخارج لطيف:/ شمس دافئة على جليد بارد/ أول أيام الربيع/ أو آخر أيام الشتاء./ تجري ساقاي/ تنزلان الدَرَج/ تخرجان من الباب/ ونصفي الأعلى/ هنا يكتب"، وهي مستخدمة في إحدى المشاهد.

اقرأ/ي أيضًا: سينما هيتشكوك.. التأسيس لتشويق مبتكر

يقول جارموش في أحد حواراته بعد عرض "باترسون" أنه أراد في الشريط أن ينقل التفاصيل التي عاشها الشاعر الأمريكي، وليم كارلوس وليامز، عندما كتب قصيدة "باترسون" عن مدينة "باترسون" في ولاية "نيوجيرسي"، واختياره لوليامز كان بسبب أنه من الطبقة العاملة في المدينة، إذ كان إلى جانب كتابة الشعر يعمل طبيبًا للأطفال، وهو بالنسبة لصاحب الشريط "شاعر جيد جدًا لكن لا أحد يعرف".

ومن المعروف عن جارموش أنه درس في جامعة "كولومبيا" اللغة الإنجليزية، وهو من أنصار مدرسة نيويورك الشعرية، لكنه عندما سافر إلى باريس كان متأثرًا بالسينما فاتجه لدراستها، وأخرج أول أعماله "عطلة دائمة" بقيمة إنتاجية تبلغ 15 ألف دولار أمريكي.

أراد جارموش في فيلمه "Paterson" أن يبتعد عن صخب السينما الحديثة، فأنتج فيلمه بشكل مستقل بعيدًا عن دهاليز شركات هوليوود الكبيرة

خلال الشريط نسير ضمن حياة رتيبة جدًا في هذه المدينة التي يصفها جارموش بأنها "مكان صعب"، لدينا الكثير من التنوع العرقي، صديقه الهندي في العمل الذي يشتكي من الأحوال الاقتصادية السيئة، المهاجرون الأفريقيون، الأحاديث اليومية المتنوعة التي يسمعها من الراكبين في الباص، الشاعر الياباني الذي جاء ليكتشف المدينة التي كتب وليامز قصيدته عنها، لا نجد حياة باذخة طول الشريط، بل حياة تختلط فيها الطبقة المتوسطة والفقيرة معًا.

كذلك لا يمكن إغفال الدور الهادئ الذي قدمته الإيرانية الجميلة فراهاني، كان لها أداء رائع في شريط "حجر الصبر" لعتيق رحيمي سابقًا. إذ اختيار جارموش لها في "باترسون" كان لأجل أن يعكس حجم التنوع العرقي في هذه المدينة عبر قصيدة نثرية، حتى عندما يذهب الزوجان للسينما يختاران حضور فيلم رعب يعود تاريخه لعام 1932 "جزيرة الأرواح الضائعة" لإيرل كينتون.

أراد جارموش أن يبتعد كثيرًا عن صخب الأعمال السينمائية الحديثة، فهو من أبرز الأسماء التي تنتج أفلامها بشكل مستقل بعيدًا عن دهاليز شركات هوليوود الكبيرة، تقول فراهاني لحظة دخولهم للسينما: "كأننا نعيش في القرن العشرين".

بهذه القصائد التي حولها جارموش لموسيقى بصرية هادئة تسير مجريات الشريط، ليجد المتفرج نفسه منتظرًا المزيد من القصائد التي يكتبها سائق الباص، الذي كان جنديًا في السابق، مبرزًا المتناقضات بين العولمة التي تمثلها فراهاني بأداء ساحر، ودرايفر الذي يرفض اقتناء أي شيء له علاقة بالعولمة، هو الآخر اشتغل دورًا مميزًا، جعلنا نمضي متعة حقيقية ضمن مشاهد أنيقة جدًا لحياة بعيدة عن الضجيج.

اقرأ/ي أيضًا:
"أدور".. سينما المغرب بالأمازيغية
فيلم "Divines".. شغف ما في مكان مسكوت عنه