24-أكتوبر-2017

روايات كازو إيشيغورو في متجر كتب في بريطانيا (Getty)

بدأ الأمر في الخامس من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، حين أعلنت سارة دانيوس، السكرتيرة الدائمة للأكاديمية السويدية للعلوم، حصول الكاتب الإنجليزي كازو إيشيغورو على جائزة نوبل لعام 2017، واصفة كتابته بالرائعة.

شخصيات إيشيغورو من الصعب أن تقع في حبها عادة، ولكن من السهل جدًا الاهتمام بها

قامت سارة دانيوس بعمل ذلك في ثلاث أو أربع فقرات غلب عليها حماس وانفعال منضبط، ولا شيء في الحقيقة يمكن أن يكون أكثر ملائمة لهذا الكاتب الذي –للأسف- لم يكتب سوى عدد قليل من الكتب، ولكنها كافية لإخبارنا عن ذلك الهدوء الذي لا يمكن تقليده في تشييد عمارة سردية تنفذ إلى أعماق أمور وأشياء مثيرة بنوع من الجلال الأسلوبي.

اقرأ/ي أيضًا: نوبل للآداب 2017 لـ كازو إيشيغورو

"إنها حقًا رائعة"، قالت سارة دانيوس، "كل كتبه مدهشة". هذه الكلمات، وإن دلّت على إعجابٍ شديد حدّ الهوس بكتابة كازو إيشيغورو، فربما يكون دافعها ذلك الإحساس الذي نجده في نصوص الكاتب الياباني الأصل والذي ينشأ عادة من دفق هادئ لأفكار شخص ما، لكنها تحمل بداخلها العالم كله. تدرّس دانيوس الأدب في جامعة ستوكهولم، ودرست النظرية النقدية في بريطانيا وأكملتها في الولايات المتحدة، ولها دراسات منشورة حول جيمس جويس وفالتر بينامين ومارسيل بروست وغيرهم. وتعتبر سارة دانيوس أول امرأة منذ 200 عام ترأس هذه الهيئة السرية التي تضم متخصصين أدبيين (يعتبرون أنفسهم خبراء الأدب، بل أفضلهم على الإطلاق) يضعون بصمتهم كل عام ليختاروا كاتبًا واحدًا لتتويجه بجائزة نوبل للأداب من بين آلاف الكتاب الرائعين في العالم. وفي إعلانها عن فوز كازو إيشيغورو، قالت سارة دانيوس إن "كتابته مزيج من أعمال جين أوستن وفرانز كافكا، موضوعة في إناء واحد مع القليل من مارسيل بروست، وبمزج هذه المكونات معًا بعناية شديدة نصل إلى ما يكتبه كازو إيشيغورو".

وبعيدًا عن الجدل الذي لا بد أن يثيره الفائز بنوبل في العام التالي لذلك الفوز الإشكالي لـ"المغني" بوب ديلان، فقد أسس ألفريد نوبل الجائزة الرفيعة باسمه، وأشار في وصيته إلى أنها ستكون لمكافأة الشخص الذي أنتج أكثر الأعمال البارزة بشكل مثالي في مجال الأدب. "مثالي" هي كلمة أخرى في قائمة المصطلحات الفارغة، لكن يبدو لي، على الأقل، أن كاتبًا لم يتوقف عن التساؤل عن قيمة الحياة والعيش، وعالج باستمرار إشكاليات الانتماءات الاخلاقية والمسؤولية الاجتماعية وأسئلة الذاكرة وفجوات المعنى والهوية، وفعل كل ذلك بلمسة رقيقة وتعاطف عميق؛ هو الشخص المناسب لنيل الجائزة. شخصيات إيشيغورو من الصعب أن تقع في حبها عادة، ولكن من السهل جدًا الاهتمام بها، ونضالات هذه الشخصيات مع "الهاوية الكامنة تحت إحساسنا الوهمي بالاتصال مع العالم"، تقدِّم طرقًا للنظر والتفكير في ما يمكن أن يربض تحت أقدامنا حتى.

في أول رد فعل له على فوزه بالجائزة، قال كازو إيشيغورو إن "هناك العديد من الُكتاب الرائعين في العالم الذين يستحقون هذه الجائزة مثل سلمان رشدي وهاروكي موراكامي ومارجريت أتوود وكورماك مكارثي". وفي تلك الجملة البسيطة يحضر كل شيء تقريبًا متعلق بكازو إيشيغورو: عالمية الأدب، ولمحة التواضع الذي يتشاركه المؤلف مع شخصياته واستيعابه لهم، والنظر إلى تعقيدات العالم، والتصالح أو الاسترضاء المشعّ من أعماله.

مثل عدد من كتاب جيله، أبرزهما سلمان رشدي وبن أوكري، اختبر كازو إيشيغورو ثقافتين مختلفتين

كازو إيشيغورو، الياباني الذي نشأ في إنجلترا، هو رجل إنجليزي دائم التذكر لبلاده اليابان التي ولد فيها عام 1954. ومثل عدد من كتاب جيله، أبرزهما سلمان رشدي وبن أوكري، اختبر كازو إيشيغورو ثقافتين مختلفتين، ومن المسافة بينهما أخذت في النمو ملاحظاته ومقايساته، بحرص المقيم الدائم في أرض غريبة. تتوجه كتابته بالأساس إلى هؤلاء الذين ينظرون عادة إلي الوراء، كما لو أنهم تاهوا داخل لوحة كبيرة ويستمرون في البحث عن أنفسهم، مثلما فعل بروست بحثًا عن زمنه الضائع المفقود للأبد. تحمل روايات إيشيغورو بناء ومشهدية نصّية جميلة، ولكنها خادعة، ليس بالمعنى السلبي للكلمة ولكن على طريقة الكاتب الخاصة. ففي الغالب لن تعثر على أي راوٍ في روايات كازو إيشيغورو يعبّر عما يريده أو ما ينتظره القارئ منه بصورة مباشرة، حتى يُخيّل لكثيرين أن كل هذا محض هراء وأن لا شيء حقيقي تطرحه تلك الروايات. 

اقرأ/ي أيضًا: كازو إيشيغورو.. وصلُ ثقافتين بصوت

لكن في حقيقة الأمر، ينمو إدراك الأشياء في روايات كازو إيشيغورو على مهل، ثم فجأة يطفو المعنى المفارق للأحداث على السطح، وحتى عندما يفطن القارئ لذلك المعنى الجديد فإنه يكون فتح أمامه بابًا لغرفة مليئة باحتمالات متضادة. مثلًا، في روايته ذائعة الصيت "بقايا اليوم"، من الصعب فعلًا أن يزعم أحد بأن هناك فكرة بعينها تدور حولها الرواية أو تدفع للاعتقاد بها، فما يبدو وكأنه نصًّا هجوميًا على إحساس زائف بالرضا الذاتي تملَّك أولئك المتحالفين على تدمير أمة بأكملها، ربما هو أيضًا رسالة تطلب الغفران والصفح عن المعتدين الأشرار. ثم هناك بعد ذلك أسئلة معلّقة لن تجيب عنها الرواية وستتركها للقارئ يفكّر فيها كيفما شاء، عن الولاء والوطنية والخيانة ومصير أولئك العالقين بين هويتين، هوية بلد الميلاد وهوية البلد المستعمر. عن مثل هذه الروايات والحياوات التي تصوّرها، قال روبرت موزيل ذات مرة أن "الحياة تُشكِّل سطحًا يبدو كأنه الحياة، ولكن تحته تجري وتندفع الأشياء".

في رواياته، يخلق كازو إيشيغورو سطحًا ينزلق خلاله القارئ، مع تيار الأحداث في هبوطها وصعودها، بينما يستمر السرد في تدفقه بصوت الراوي، كما لو أنه مرض عضال يستحيل علاجه. أم فقدت طفلها في  ناغازاكي، في باكورته الروائية "منظر شاحب من التلال" (1982). رسّام متطلع إلى حياة ناجحة في خدمة الفاشيين في اليابان، في روايته الثانية "فنان من العالم الطليق" (1986). خادم عجوز يحاول الهروب من مواجهة حقيقة تهرب من بين يديه في أيامه الأخيرة، في روايته الثالثة "بقايا اليوم" (1989). رجل انطبعت حياته بتجربة اختفاء والديه في طفولته، في روايته البوليسية "عندما كنا يتامى" (2000). مدرّس يبذل كل جهده في شيء يشبه مدرسة بريطانية خاصة حاملًا بداخله سرّه الرهيب، في روايته "لا تتركني أذهب أبدًا" (2005).

هذا الأسلوب السردي يدين كثيرًا لتيار الوعي وروّاده، من أمثال فرجيينا وولف وجيمس جويس، ولكن على عكس هذين الكاتبين، لا يُدخلنا كازو إيشيغورو إلى دماغ شخص واحد أو يعطينا الثقة الكاملة في ما يتداعي من أفكار وأحداث، بل يشجّعنا ويحفّزنا على النظر إلى العالم أيضًا، بمزيد من التبصّر والنفاذ إلى ما وراء ذلك السطح. هناك ذلك الخراب المقيم حول ناغازاكي، يعكس لنا مزاج الأم الميتمة. وهناك ذلك المنزل الريفي، الذي يعطينا صورة مصغرة للبريطانية (Britishness)، لكنه أيضًا المكان الذي يجتمع فيه النبلاء ذوو العقليات الفاشية، إنه خيانة لفكرة البريطانية نفسها. وهناك ملجأ الأيتام الذي يعمل كمنتج لقطع غيار الأعضاء البشرية، حيث نهبط في مجتمع يذبح الأطفال دون رحمة أو شفقة.

كازو إيشيغورو، بأسلوبه الهادئ الذي يشبه ما يُعرف عنه من صرامة وقورة محافظة، مؤلف سياسي رائع، فهو يتحدث في أول حوار صحفي له عقب فوزه بجائزة نوبل قائلًا: "الوقت الذي نعيش فيه غريب جدًا. لقدر فقدنا إيماننا بنظامنا السياسي بطريقة أو بأخرى، ولم تعد لدينا ثقة في قيمنا. آمل فقط أن يساهم فوزي بجائزة نوبل في شيء يولّد النوايا الحسنة والسلام". يقول تلك الكلمات بنبرة هادئة تشبه شخصيته. شخصياته تتحدث كثيرًا عن نفسها وعن حياتها، وهذا هو جوهر التأثير الذي تفعله كتابة ايشيغورو، أمله في جعل العالم مكانًا أفضل. في الوقت ذاته، هناك، خلف كل الكلمات، صمت يحيط بتلك الشخصيات، صمت العزلة.

يقول كازو ايشيغورو إنه معجب كثيرًا بشخصياته، لأنهم بالرغم من حالة اليأس التي تنتابهم، يستمرون في العيش بشجاعة

في إحدى لقاءاته الصحفية، يقول كازو ايشيغورو إنه معجب كثيرًا بشخصياته، لأنهم بالرغم من حالة اليأس التي تنتابهم، يستمرون في العيش بشجاعة. ويبدو الأمر كمحاولة لدحض مقولة ثيودور أدورنو الشهيرة بأنه لا توجد حياة صائبة تُعاش بطريقة خاطئة، كما لو كان إيشيغورو يصرخ محتجًا على الفيلسوف الألماني: "أنا آسف، هناك شيء صائب وسط هذه المعضلة الرهيبة: مواجهة النفس بشجاعة".

اقرأ/ي أيضًا: كازو إيشيغورو: الأفكار أهم من القوالب التي تكتب من خلالها

تلك الجدية التي تطبع إيمان هؤلاء الأشخاص بما يفعلونه، وذلك اللطف الذي يقاومون به المأساة، هو ما يؤخذ في الحسبان عندما تنتهي من قراءة روايات كازو إيشيغورو. إنها تمتلك شيئًا طفوليًا بداخلها، ففيها تجد البراءة واستشراف  المستقبل، وأيضًا، كوميديا عظيمة. في النهاية، يمكن للمرء أن يتحفّز ضد كازو إيشيغورو طمعًا في المزيد، فهو، كما ذكرت، رجل مهذب من المؤسف أنه كتب عددًا قليلًا من الروايات. فقط ثمانية! لكن بعد ذلك يأخذ وقتًا طويلًا للتفكير والنحيب على ما يجب على الكاتب القيام به، من قراءات وحفلات توقيع ورحلات وكل تلك الأمور اللعينة المتعلقة بصناعة الأدب وترويجه. في المستقبل، سيكون كازو إيشيغورو قادرًا على القول ببساطة: "ثماني روايات تكفي".

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار عن الجنس والموت والكتابة مع تشاك بولانيك مؤلف "Fight Club"

اغتيال سلمان رشدي على سرير طليقته!