15-أغسطس-2020

أحد شوارع دمشق سنة 1965 (هارفي ميستون/Getty)

قبل بضع سنوات قررت أن أكتب عن "شارع شيكاغو"، رسميًا: شارع "بور سعيد" في دمشق، ذلك بصيغة تسجيلية تأريخية، لكن تأخر التوثيق إلى حين عرض مسلسل "شارع شيكاغو" من تأليف وإخراج محمد عبدالعزيز. وقتها اعتزمت أن أكتب عنه ولو مقالة.

لا أحد يعرف الحقيقة كاملة بخصوص "شارع" شيكاغو في دمشق، أما الذي يعرفها فلا يقدّمها

توجهت نحو الشارع، حسبت كم من الوقت يحتاج قطعه، قد أخذ حوالي مائة خطوة. ذهبت إلى الأرشيف، وبحثت في تاريخه، لكني لم أجد ولو خبرًا عنه. تحدثت مع صاحب مقهى الهافانا، مع صاحب المغسلة، مع الساعاتي، ورجل يبيع الدخان على المفرق، إلى أن تمكنت من التقاء رجال كبار في السن عاشوا تحولات الشارع وخالطوا روّاده على وجه التحديد.

اقرأ/ي أيضًا: سجال حول مشروع القُبلَة في ملصق "شارع شيكاغو"

اليوم، يتمشهد الشارع في تخيلات تم تكوينها من كلام الدمشقيين. لا أحد يعرف الحقيقة كاملة، أما الذي يعرفها فلا يقدّمها، ما ألجأني إلى استخراج التصور العام من أشخاص مختلفين عاش كل منهم جيل، ابتداءً من الخمسينات وانتهاءً بالثمانينات. مثال ذلك، "فوزي" الذي كان يشتغل في مطعم "فلسطين" الواقع في الفاصل البنائي بين شارعي الهافانا وشيكاغو، يقول: "كان هذا عام 1960، كان هناك الكثير من الأعلام على الشرفات، كان الجميع يتحدثون في السياسة، باستثناء شارع شيكاغو، كان يتحدث بالصخب وعن السكر إلى حد القتل.

في ظهيرة أحد أيام تشرين الثاني/ نوفمبر 1960، ظهر ثلاثة من القوميين السوريين (عرفنا انتمائهم لاحقًا) وتوجهوا بسرعة هاربين نحو شارع شيكاغو. كان خلفهم رجال ببدلات يحملون بأيديهم مسدسات يصوبونها عليهم ويطلقون النار، تناثر الثلاثة أثناء الركض تحت طقطقة الحديد التي أحدثتها الطلقات، حتى سقط أحدهم جريحًا في آخر الشارع أما الباقون فغابوا.

ظهرت امرأة لا أذكر من أي مشرب ووقفت فوق رأسه مترنحة تسأله إذا ما كان يتألم، لكن اقترب منهما رجل يرتدي سترة سوداء بشكل لافت للنظر فوق بنطلون فاتح، أبعد المرأة بمفردة رذيلة فعدوَت نحو مشربها. بدأ الرجل بالصراخ في وجه الشاب، ثم صوب المسدس نحوه، فأطلق الأخير صرخة مروعة ووضع يديه على وجهه. صرخ رجل الأمن: "هلق رح تتمنى لو قوصتك" ثم أمسك به من ثيابه وجره خارج الشارع.

في نفس الشهر، تشرين الثاني/نوفمبر، قُتل رجل بمشاجرة تحت تأثير السكر، قبل ذلك بفترة، قامت مجموعة أخرى من شباب الشارع باختطاف واغتصاب وقتل صبية تدعى "روزاريا" تعمل في مشرب الأندلس.

تتابعت المحادثات بشكل جيد، حصلتُ على معلومات أكثر مما أردت، لكن من الصعب إجراء استعراض لشارع لم يبق منه سوى أرضيته الحجرية. إذ كنت محاطًا بتخيلات من مزيج الشائعات والشكوك والانفعالات التي لم تكن نبيلة دائمًا. باختصار، الافتراءات التي كتبتها الصحافة بعد عرض المسلسل حول هذا الممر الضيق بعد أن كان كغيره من أزقة دمشق التاريخية، مخفيًا لا يلاحظه أحد.

اقرأ/ي أيضًا: الدراما السورية في 2020.. الجدار لا يزال مسدودًا

ضمن إطار آخر، اندمج الفلسطينيون مع شارع شيكاغو. يقول فوزي: "في النصف الثاني من الستينيات، كان هناك عدد من الفدائيين الفلسطينيين يزورون الشارع في أوقات متلاحقة، أهمهم الفلسطيني "أحمد علام" من مخيم اليرموك. كان علّام فدائيًا وقتها، وعند عودته من كل مهمة كان لديه مكان أول يتوجه نحوه قبل بيت أهله، إنه شارع شيكاغو، كان يسكر إلى آخر حد ثم يقوم بإطلاق الرصاص في الهواء. كان الجميع يخافونه هو ورفاقه، لم يكن لأحد أن يجرؤ على النظر نحو أي فرد من الفدائيين آنذاك، بالرغم من أن جميع من كانوا في الشارع "ذئابًا". كما أتذكر أني كنت قريبًا أراقب أحد الفلسطينيين وهو يضرب شخصًا أمام مطعم أبو هايل- حمّيد، يقع في آخر الشارع ويقدم مأكولات شعبية، كانت تلك المرة الوحيدة التي تم فيها إلقاء قنبلة، رماها فلسطيني يدعى "فارس" وهو اسم حركي يحمله، أما هو فكان ضابطًا في حركة فتح. 

بدأت السبعينات تأخذ شكلها من ساحة يوسف العظمة في سياق مُعد من قبل وزارة الأوقاف بخصوص محلات اللهو المحيطة نزولاً باتجاه جسر فكتوريا، كان المشروع يستهدف في أسوأ سيناريو إغلاق شارع شيكاغو.

"من لا يمر عبر شارع شيكاغو لا تُقبل سكرته" ، يقول "بركات" زبون مشرب الشباب الدائم منذ الستينات وحتى سنة اجتياح بيروت 1982. يتابع: "مع بداية 1970 بدأ المتسولون يترددون على هذا الشارع لسبب أجهله، صار مطرحًا لجراثيم دمشق "الأولاد"، يدخله اللصوص والقوّادون الصغار، بدأت تندلع المشاجرات يوميًا نتيجة السكر الزائد ما دعى دخول الشرطة بشكل مكثف. أصبح هذا الممر من أخطر الأماكن في المدينة لدرجة أن الحكومة كانت ستغلقه سنة 1986 ببوابة من الحديد المشغول بسبب جريمة القتل المروعة التي حدثت ولكن تم إقرار إحالة محلاته وإلغاء المشارب والحانات. 

بين إغلاق شارع شيكاغو وجريمة القتل التي وقعت فيه مسافة بعيدة من الزمن لكن قريبة من المأساة. اليوم، أعاد عمل "محمد عبد العزيز" الصخب حوله، مزدحمًا بالدكاكين الصغيرة والمحلات التي قامت مطرح المشارب، كل ذلك يتلاحق في الحفاظ على سرابه الماضي. ويبدو أن مسلسل "شارع شيكاغو"، بعيدًا عن مضامينه وتفاصيله الكاملة فهو ليس الموضوع بعينه هنا، سيكون الدافع الذي سوف يغذي  الرجوع إليه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تماثيل لشخصيات عربية في ربوع الأندلس

سوق المعطارة بصنعاء.. تاريخ طويل قصمته الحرب