14-مارس-2021

الصورة للكاتب

"تتمتع المباني هنا بكل ما يكفل لسكانها الراحة والطمأنينة، لكنها تفتقد للسطح". قلت ذلك لجاري الأوروبي، قبل أن أنزلق أمامه بشرح مسهب لا يغفل تفصيلًا من تفاصيل مجريات سهرة سورية تقليدية تحدث في صيف حار، على سطح منزل ما.

بالنسبة للأهل أن يسهروا مع أطفالهم على سطح المنزل أفضل من تركهم يركضون في الشارع ليلًا خلف الخفافيش

تتسلل نحو بيتك عصرًا رائحة تراب الشارع بعد الغسل، لا يحتاج الأمر لأكثر من ذلك كي تعلن أمك أن الوقت أزف لكي تشطف سطح المنزل بالماء البارد، يتواطؤ ماء المنزل مع رغبتها، فيبرد ويعذب، تتواطؤ جدرانه أيضا فتسخن وتلتهب.

اقرأ/ي أيضًا: مارادونا في حمص

أفضل بكثير للأهل أن نسهر على سطح المنزل من أن نركض في الشارع ليلًا خلف الخفاشات الرعناوات، وأن نرجع للنوم برائحة ضباع تاهت في حاكورات الحارة ساعات.

ينفذ كل الأفراد المهام التي تناط لهم دون تأفف، فالسهرة فوق المنزل أشبه بالعيد.

يحمل الأولاد السجاد والأرائك وجلود الخراف المنجدة، وتحمل الفتيات أباريق الشاي والماء والعصير وعبوات القهوة والمتة والشاي.

يوصي أبوك ببطيخة صفراء وبطيخة خضراء، ولا ينسى الخيار البلدي وجاطًا هائلًا من الخس المغسول.

هكذا تنشغل العائلة كلها، كأن مهندسًا ما رسم لها نظامًا حركيًا متقنًا لتنجز كل الضروريات قبل أن تغرب الشمس.

تنزاح الأوراق الذابلة المختبئة، فوق الأرضية الإسمنتية رغم ممانعتها، مع تيارات المياه الباردة المتدفقة، وتتفق مساراتها جميعا عند فتحة المزراب.

نحظى بفرصة إمساك "النبريج" [خرطوم الماء] وسلخ الحائط بالرذاذ، كي يتلون ويجف ويتلون، نعرف حينها بأنه قد ارتوى وهدأ، وصار ممكنًا فرش السطح ورصف المساند.

في زاوية مناسبة للجميع سيضع الأقوى تلفاز العائلة الكبير، وسط تنبيهات الجميع، وتحذيراتهم، فالتلفاز ثروة العائلة الكبيرة.

في ذلك الزمن لم يكن اختراع التحكم عن بعد قد أخد بألبابنا، وكانت توكل مهمة التحكم بالقنوات المحدودة العدد للفرد الأصغر عادة، حتى يتطوع أحد ما فيعفي الصغير من القيام والقعود كلما انتهى برنامج وابتدأ آخر.

تلك الزاوية نفسها ستومن مساحة كافية للغاز الصغير، والكؤوس الزجاجية.

تبدأ السهرة بالمنازعات على الأمكنة، وفرض أماكن السيطرة، وترتيب الجلسات..

كانت البنات يبردن باكرًا، فتعلمن إحضار الأغطية سلفًا، وتعلم الأولاد سحبها منهن وغرز أقدامهم تحتها كلما اشتدت لذعات البرد الصيفية.

لن تحظى بعشاء أطيب من عشاء السطح، ولا شاي أنكه من شاي السطح، ولا ضحكات أعمق وقهقهات أقوى

تأتي صحون الجبنة البلدية، فلا بطيخ ولا خبز مقمر دون الجبن. وتبدأ التخمينات حول درجة احمرار البطيخة وحلاوة طعمها، فلو كانت عند حسن الظن، لنال البائع الدعاء والمديح، ولنفش الشاري أبًا أو أخًا أو أيًا كان ريش الفخر معلنًا عن "معلميته" في "قفش" البطيخ الأحمر دون شق خاصرته أو الاستعانة بالتطبيل على قفاه وبطنه. وإن كانت البطيخة بيضاء قرعاء كما كنا نقول، لمسحت كرامة البائع بالأرض، ولتحسر الشاري.

اقرأ/ي أيضًا: الكاميرا الخفية والأنظمة الواضحة

لكن من يعبأ، الجو لطيف، والهواء عذب ومحمل بهمسات تأتيك من بيوت الحارة، لتوحي لك بألفة وثيقة مع المكان، وكأنك لشدة رسوخ اللحظة ستعيشها للأبد.

يكتمل المشهد بالتماع الألاف من النجوم في السماء المعتمة.

لن تحظى بعشاء أطيب من عشاء السطح، ولا شاي أنكه من شاي السطح، ولا ضحكات أعمق وقهقهات أقوى. كل شيء يغدو مكثفًا حتى التعب، ولذلك فإنك ومهما قررت مقاومة النعاس فلن تفلح، سيصرعك، سينهش جفنيك.

وما أجمله من نوم، ذلك الذي ترصف له الفرش متلاصقة، وتفرد له الأغطية السميكة، لتحميك من برد ماكر هارب من شتاء ما نحو صيفك.

ولتمنحك شعورًا بالرضا حين تلف بها جسدك المتربص للسعات البعوض واحتكاكات الذباب بجلدك.

تهدأ رغبات السهر كلما ابتعد النهار، وترسو بنا الأحاديث على ضفاف ما حدث في المسلسلات الدرامية، وربما يتجرأ أحد ما على التحدث عن فيلم انتزع الكائن الخرافي به رأس كائن آخر.

لكننا ننام، لا ينكد صفوة وجلال النوم لص مارق في الخيال، ولا مهمة عمل أو وظيفة دراسية.

لا أتذكر أحلام السطح، لأن طقوس النوم هنالك أشبه بالحلم، ولا أمتعض من أشعة الشمس التي تغرقني ببحر من البياض قبل أن أفتح عينًا لأدرك أنه الفجر.

أقول لجاري الأوروبي ممازحًا: ليس لديكم سطح لتبصقوا على الشارع، ولا ليتبول أطفالكم في المزاريب وعبرها.

فيضحك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفن بين انتحار تربيليف وموت هاملت

إنسان الخوف