21-أغسطس-2019

في معرض للفنانة جيل جيبسون

يعتقد البعض أنَّ التحدث عن الفن وضرورته للإنسان ضرب من ضروب الترف والرفاهية في ظل الظروف القاهرة التي يعيشها الإنسان العربي. هل يشكّل الفن حلًّا أو طوق نجاة؟ وأين يقع دوره الحقيقي وظيفيًّا؟

عبّر جان كوكتو بعبارة واحدة عن ضرورة الفن: "الشعر ضرورة، وآه لو أعرف لماذا؟"

يتبادر إلى الذهن مباشرة تلك النظرية الفلسفية التي وضعها أبراهام ماسلو، المعروفة بهرم ماسلو، ففي واقع منقسم على مستويات عديدة، أسفلها الافتقار للطعام والمسكن، وأعلاها غياب للتقدير الفردي وتحطيم للمكانات الاجتماعية، وما بينهما من مستويات تعلن بوضوح عن عدم القدرة على سد الحاجات الضرورية للأمن والأمان، وعن تضاؤل الرغبات عند الناس للانتماء للمجموعات الكبرى، كالوطن والكتل الأصغر كالمنظمات على اختلاف توجهاتها، فإن الجواب السريع قد يميل لصالح العدمية وينتصر لإقصاء الفن بوصفه ترفًا! وهذا الجواب سيغضب وبدون أدنى شك الفيلسوف نيتشه الذي طالب بفن يقوم على التناقضات ويتحفز بها، ويخلق مظاهر تجعل من الممكن للمتناقضات أن تعاش، لأن الفن هو المنفذ الوحيد للإنسان للخلاص، والخلاص النيتشوي لا يعني الخلاص وفقًا للمفهوم المسيحي، أو خلاصًا ميتافيزيقيًا قائمًا على نفي الفن أصلًا، ومتجاوزًا إياه باتجاه الوقوع في العدم واللاموجود، لكن الخلاص النيتشوي خلاص يحوّل الألم والأوجاع والمعاناة البشرية والعبث إلى مظاهر فنية والوجود الممل لوجود جميل.

اقرأ/ي أيضًا: عشرة أمثلة على فظائع شعراء عصرنا

لقد عبّر جان كوكتو بعبارة واحدة عن ضرورة الفن: "الشعر ضرورة، وآه لو أعرف لماذا؟". لو قبلنا بضرورية الفن، وهي ضرورية ممتدة ولم تحدّد بإطار آني أو زمني، ويبدو أنها ضرورية تتعلق بطبيعة الفن عضويًا، لكان من الملزم أيضًا أن نحاول إيجاد جواب مقنع للمشكك بأهميتها، وخاصة في ظل ما أشرنا إليه حول الظروف العربية الخاصة التي يرزح تحت وطأتها المواطن العربي.

تاريخيًا، لعب الفن دورًا وظيفيًّا في حياة البشر، فكيف يمكن فهم تلك العلاقة الوثيقة بين الرقص وتقديم الأضاحي للآلهة الغاضبة دومًا، المتعطشة للدماء؟ وكيف يمكن فهم الرابط النفسي لمجموعة بشرية تقطن كهفًا دون الانتباه للرسم؟

ألا يمكن التفكير حقًا، بأن كل ذلك بحث عن الهوية الإنسانية؟ لن نسهب في استعراض هذا الجانب المغرق في العراقة للفن، لكنه يذكّرنا بأن هنالك شيئًا جامعًا بين الفنون مهما قضت زمنًا وتباينت أمكنة، وهو أنها جاءت لتحدّد موقعنا من هذا العالم، وتحدّد موقفنا منه، لا لتفسيره فقط، بل لتفسير ذواتنا أيضًا، وبإسقاط الفكرة على واقعنا القريب، فقد أدى الإحباط الذي خبط النفس العربية خبطًا بعد فشل النظرية القومية والهزيمة التاريخية منذ ما يقارب الخمسين عامًا، بالإضافة لانعدام الثقة مطلقًا بالخروج من عنق الزجاجة والتحرر من شباك التردي الحضاري المزمن، إلى اضطراب شديد في الهوية أيضًا، ولعل التجلي الأكبر لهذا الاضطراب يظهر في سلسلة متشابهة وطويلة ومكرورة من نتاجات فنية في مختلف الضروب، تفتقد توصيفيًّا للجمال كشرط من شروط الحيوية الفنية، وللإمتاع كشرط آخر، وتنزع نحو الرومانسية التي تتغنى بالذات والتي لطالما نبّهنا منها نيتشه وحذّرنا من الوقوع في حبائلها.

أما فلسفيًّا فبرزت الكثير من النظريات حول طبيعة الفن وأهمية دوره، ولا بد أن الأغلبية من المهتمين يعرفون النهج الأرسطي حول الفن، الذي يؤمن بالمحاكاة، محاكاة إيجابية للواقع لا سلبية، تقوم على التطوير والابتكار ولا تكتفي بنسخه بل تصل لتبديله، وهكذا فقد أفرد أرسطو الكثير من الاهتمام للشعر والقول، وآمن بأن هدف الشعر الأساسي أن يقول الأمور كما يمكن أن تحدث أو تكون، وتصوير الشيء الذي كان يجب أن يقع، لا أن يكتفي الشعر بالوصف لما حدث بالفعل. وقد حدّد بدقة صفات "الناتج الجميل"، الذي يتطلب في بنائه شروطًا تتعلّق بالوضوح وبتناسب الأجزاء والكتل البنائية وبانتظام الأجزاء وتتابعها وفقًا لبداية ووسط ونهاية.

تتالت لاحقًا النظريات على مر العصور، وتباينت زوايا النظر نحو الفن، فهايدغر مثلًا ينظر للفن من وجهة نظر خاصة، تنبثق رؤيته هذه من خلال تساؤله عن معنى الوجود والموجودات بما فيها الوجود الإنساني نفسه. وربط الفن الجميل بإنتاج الجمال، وحدّد الجمال بمقدار ما يكشف من حقيقة، ولكن هذا الكشف لا ينقل الواقع وإنما يسبر أغواره ومخفياته، ويفضح غوامضه ويبرزها.

ليس كافيًا بحسب بليخانوف أن يكون الفن تصويرًا للحياة، ولكن يلزم عليه أن يعبّر عنها ويفهم ديناميتها جدليًا

بالنسبة للنظرية الماركسية، برز الروسي جورجي بليخانوف كمنظّر كبير قبل الثورة البلشفية، وقد رفض بعنف شديد أي موقف يدعو لفصل الفن عن الحياة، وهاجم بشراسة نظرية الفن لأجل الفن، واعتبرها تضليلًا، بل محكومة بالفشل، فالفن بالنسبة له يجب أن يلتزم بالأغراض الاجتماعية، وعلى الفنان أن يزج بنفسه في أفكار التحرر، أي أن يكون ثوريًّا.

اقرأ/ي أيضًا: بطاقة بريدية من شاعر ميت

ليس كافيًا بحسب بليخانوف أن يكون الفن تصويرًا للحياة، ولكن يلزم عليه أن يعبّر عنها ويفهم ديناميتها جدليًا، وهكذا تبلورت نظرة كاملة حول طبيعة علم الجمال وعلاقته بالفن وظيفيًا.

كل ما سبق يشير وبشدة إلى أن اختلافات أساسية اعترت النظريات والرؤى للفلاسفة وللفنانين لاحقًا حول ماهية الفن وحول دور الفنان، وحول مصادر الإبداع وكنهه. لكنها اختلافات تشير أيضًا إلى جدية مفرطة بالتعاطي مع مسألة الفن، الفنان الحقيقي يمنح ذاته وحياته لفنه، كذلك يجب أن يفعل المنظرون والنقاد بالضرورة، ولكن السؤال الملح حاليًا: كيف يمكن إيجاد معيار أمين لتقرير العمل الفني وتمييزه عن العمل الذي لا يحمل قيمة فنية؟

سقطت سابقًا تلك النظرية التي اعتمدت على فلسفة المتعة والملذات، التي تقرر جودة العمل الفني بحسب المتعة التي تتأتى للمتذوق، لأن الجيد والرديء يتقاسمان الجمهور، كما أن تلك النظرية لا تجيب على سؤال مهم حول الفني واللافني أصلًا؟ فهنالك الكثير من المتع التي قد يحصل عليها المتابع دون أن تكون ناتجة عن فن، وربما يكون المثال الذي يحضرني حاليًا هو ذلك الشعور الذي سمعت أحد رواد الفضاء يتحدث عنه حين بدأ يشعر بانعدام وزنه، فهل سيكون ذلك فنيًّا؟ أن يهيأ لنا جميعًا أن نتمتع بانعدام الوزن؟

الفن لا يتحدّد بما يقدمه من إمتاع ولا بنوعية المتع، ولا برقيها أو هبوطها، وهو يتجاوز المتعة قيمةً إن صح التعبير، ولذلك فمن المفيد جدًّا التذكير بذلك كي لا تغدو المتعة التي تداعب غرائز الجمهور الراغب بالأفكار السهلة غاية للفنان، ولاحقًا حجة له على الناقد الجاد الذي يرصد ضعف الحيوية في نتاجه الفنية.

طفت على السطح ظواهر غير فنية تلوي عنق الجمال في المظهر الفني، وتتذرع غالبًا بمفاهيم غائمة كروح العصر، وضرورة تجاوز القاعدة كي تصل للإبداع، وغير ذلك. وراكبو الأمواج الذين ساهموا في إطلاق هذه الظواهر، تناسوا قصدًا أو جهلًا بأن الإبداع الفني البشري إبداع تراكمي، وحتى لو تهيأ للبعض بأن إبداع ثربانتس غير مشوب لكنه بالضرورة إبداع مقتبس عن غيره، والاقتباس هنا بالمعنى المجازي. ويبدو جليًا بأن دفاعات راكبي الأمواج عن نتاجاتهم التي لا تغوص في الظواهر ولا تغرق في الأفكار الجادة انتقلت من حيز الجدل حول الفكرة والمنتج إلى حيز الدفاع عن الذات في المنتج، وذلك جلي واضح، ويكفي أن تنظر عادة للفرحة التي يتلقفها أي مدعٍ حين يتلقى مديحًا حول عمل استسهل رميه في وجه القارئ أو المشاهد، سترصد فورًا بأن المديح كان غاية موضوعة على طاولة الكتابة حتى قبل أن تهل الفكرة في الرأس. هدا لا ينفي بالطبع بأن هناك مديحًا مستحقًا للجهد المبذول حين يكون جهدًا مخلصًا حتى لو كانت النتيجة غير مرضية جماليًا، لأن التجربة الفنية تجربة تخضع للظرفية، يحضرني الآن رأي لخورخي لويس بورخيس حول شعر كل من بابلو نيرودا ووالت وايتمان، فبرأيه أن أشعار نيرودا العاطفية كانت رديئة -وباعتراف نيرودا نفسه بحسب بورخيس- وأن أشعاره صارت أشعارًا رائعة بعد أن أصبح شيوعيًّا، أي أنه كان بحاجة للشيوعية، وبالنسبة لوايتمان فهو يرى بأن نتاجه كان رائعًا بسبب الديمقراطية التي يحتاجها.

إذًا، هل يجب على كل فنان أن يطرح على نفسه ذلك السؤال الصعب؟ ما الذي احتاجه كي أنتج فنًا رائعًا؟ ما الذي ينقص؟

هل يجب على الناقد أن يخشى مواجهة المنتج الفني السيئ؟ أم أن يواجهه؟

هذا بالنسبة للفنان، أما بالنسبة للناقد، فهل يجب عليه أن نخشى مواجهة المنتج الفني السيئ؟ أم أن المرحلة تقتضي منه الإعلان موت الإله؟ والمواجهة بشراسة؟ خاصة إذا اتفقنا معًا بأن الفن كما أسلفنا هو طوق النجاة؟

يقول بول فاليري: القصيد البارع ينتج من إبداع متشكّك عميق! وهو القائل أيضًا في رسالة قصيرة حول الأسطورة: ما الذي سيحل بنا، دون عون ما هو غير موجود!

اقرأ/ي أيضًا: الرداءة أقوى من الفن

ولذا، فإننا جميعًا مطالبون بالإمساك بذلك الطوق، وأن يتحول التشكك لمهنة لا يعاقب عليها ناقد أو فنان، كي ننجو من الميتافيزيقيا التي تتخفى تحت عبارات كروح العصر والحداثوية وغيرها مما أسيء توظيفه واستخدامه.  وعلى اعتبار أن "أيسر السبل للوجود هو الفن" كما يخبرنا برتولد بريشت فإننا وأمام كل هذا الفيض من الموت والاختناق بالتفاهة، سنجد أنفسنا عاجلًا أم آجلًا أمام خيارين لا ثالث لهما، إن لم نقف للتردي الفني بالمرصاد؛ الانتحار على طريقة تريبليف، أو الموت على طريقة هاملت.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الأفكار الشريرة داخل رأسك

عن الاقتباسات المزيفة