10-يناير-2022

الروائي ممدوح عزام

ينفتح المشهد الأول في رواية ممدوح عزام "حبر الغراب" (دار سرد 2021) على لعنة، على رجاء مشوب بالأمل من رجل حانق ومقهور، اسمه توفيق الخضرا إلى إله كلي القدرة، يتوسل فيه عبر الكلمات والأدعية بأن يلقي بصاحبه الذي لم يعد بصاحبه، لقمان لقمان خارج رحمته الإلهية، أن يصيّره عصفًا مأكولًا، عدما كليًا. ليسدل ستارته على مصافحة صقيعية بين رجلين يتبدا فيها الأول نبيًّا محزونًا فيما الآخر مجرد أفّاق ومتآمر، وكيف لا يكون وقد ساهمت رذائله المشينة؛ الإدمان على شرب العرق والدعارة في طمس حقيقتين؛ نهب مكتبة السماقيات التي كان شريكًا في تأسيسها ومقتل مقيمها الشاب فارس أبو اللوز؟

تنفتح رواية ممدوح عزام "حبر الغراب" على لعنة، على رجاء مشوب بالأمل من رجل حانق ومقهور

كان يمكن لتوفيق الخضرا أن يواصل حياته اليومية بالاعتيادية، التي دأب عليها منذ حصول مذبحة الكتب الكبرى، أن يقيم في السويداء ويظل قلبه معلقًا بالسماقيات، قانعًا بنصيبه اللئيم من المنفى (العيش على تخوم الناس، على مقربة لصيقة من حواسهم المتبدلة، وبالضد من تصوراتهم الساذجة عن الحياة)، ليربح بذلك لقب الحكيم الزاهد ولنخسر بدورنا ألق الحكاية؛ حكايته مع الناس وحكايتهم مع المكتبة. لكنّها مشيئة الصوت، صوت لقمان المشروخ ذاته ومن ثم يده الحائرة بين صوتين؛ الإمساك عن قول الحقيقة "فيك تنسى؟!" والإصرار على إعلان قيامتها "يمكن تساعدك ع التذكر!"، هي التي سيكون لها الكلمة الفصل في إخراجه من الصمت، إدماجه في نار الحكاية ولهيبها.

اقرأ/ي أيضًا: ممدوح عزام.. مصائر الأبطال وشيفرات الكتابة السردية

ثمة اعتقاد راسخ لدى النقاد والقرّاء على حد سواء بأن النص الأدبي مغوٍ، وأن غوايته أو سر جاذبيته يكمن في متعة قراءته ذاتها، عبر التعامل معها كنوع من الكشف أو القبض على جملة العناصر الشكلية أوالبنائية (الزمان والمكان والشخصيات وعدالة مصيرها والحَبكة والمحور أو المعنى العميق والإسلوب وطرق السرد وغيرها الكثير) التي تشكل نسيجه الحي. فإذا ما كانت متعة الكشف عن طبيعة العدالة المتحققة لشخصيات العمل الأدبي وفقًا لنظام العقوبات والمكافآت تظل أسيرة الانتهاء من قراءة العمل الأدبي، فالأحرى أن تكون متعة القارئ موجهة إلى البدايات، إلى لحظة الكشف عن الحَبكة وعن المسار الذي ستسلكه، خاصة إذا ما تعاملنا معها على كونها اللبنة الأولى في تشيكل البناء أو المعمار الروائي وتحديد معالمه.

الحَبكة في العمل الأدبي أو الروائي أكثر تحديدًا أو تقنينًا مما يعتقد البعض، فهي ليست ذلك النسيج الحكائي المحكم لجميع أحداث النص وشخصياته على اختلاف أنواعها ومكانتها، رئيسية كانت أم ثانوية وحتى هامشية، بقدر ما تتجسَّد في العلاقة الجدلية المتفردة بين طرفين؛ البطل أو الشخصية الرئيسية من جهة، والمهمة التي سيلزم نفسه بها من جهة أخرى. ولمّا كانت ثمة مسافة مكانية وزمانية بين لحظة اكتشاف البطل لمهمته ومدة انجازها الفعلي، ولمّا كانت عملية الإنجاز ذاتها أمرًا غير مفروغ منه أو هينًا، بقدر ما يتطلب نوعًا خاصًا من المكابدة والعناء نظرًا لطبيعة العقبات التي ستعترض طريقه، صار لزامًا علينا أن نتعامل معها كمسار أو سيرورة لثلاث ذرى رئيسية؛ ففيما تحتل لحظة الاشتعال التي تدفع البطل للتحرك صوب المهمة ذروة البداية، تمثل رحلة كفاحه للوصول إلى الهدف، ذروتها الصاعدة، التي ستمهد بدروها للحظة الإنجاز، الذروة الهابطة بكل ما يتخللها من مشاعر بالفرح والحبور ناتجة عن عملية التفريغ النفسي، في حالة الانجاز البطولي والفذ أو مشاعر الإحباط والحزن في حالة الفشل أو الإخفاق.

يمكن القول إن حَبكة "حبر الغراب" لا تقنّع نفسها ولا تخفيها، ولمَ قد تفعل مادام القبض على شرطَيْ الحبكة الرئيسيين؛ البطل ومهمته، هما الدافع الجوهري لذهابنا مع الرواية إلى نهايتها، وما دامت تصوراتنا عن الخط العام للحكاية، التي تتولى الرواية تقديمها لنا لا تخرج عن تصوراتنا العامة لها كـ"بطل في مهمة". فهوية البطل في نسيجها واضحة لا لبس فيها، إنّها شخصية توفيق الخضرا، ذلك أنها تظهر نفسها من خلال المهمة التي قررت إنجازها بعد تلقيها لائحة الاتهام من لقمان لقمان، والمتمثلة بالبحث عن قتلة أبو اللوز كما الأشخاص التي ساهموا في نهب المكتبة التي كان قيمًا عليها. وإذا كنا سنتوقف عن الذهاب مع حبكة الرواية إلى نهايتها، فما ذلك سوى رغبة منا في ترك مهمة الكشف عنها، ومن ثم الحصول على متعتها أمرًا خاصًا بكل قارئ على حدة.

ثمة اعتقاد راسخ لدى النقاد والقرّاء على حد سواء بأن النص الأدبي مغوٍ، وأن غوايته أو سر جاذبيته يكمن في متعة قراءته ذاتها

قد يبدو من نافل القول التصريح بأن أصحاب العمل الأدبي ما هم إلا أصحاب أفكار أو مشاريع أفكار كبرى، ذلك أن عملهم الرئيس غالبًا ما يكون موجهًا للكشف عن القيم الكبرى التي يحيا بموجبها الإنسان كالحرية والكرامة، الفروسية والعدالة، أو عمّا يضادها كالحسد والغيرة والأنانية والانحطاط والسفالة والتسلط وغيرها. وهم في انخراطهم هذا أقرب ما يكونون للفلاسفة أو علماء الاجتماع والنفس، بفارق وحيد هي الطريقة التي يلجؤون إليها لنقل تلك التصورات والأفكار إلى حيز الواقع، والتي غالبًا ما تكون منصبة على الحكاية وطرق عرضها. من هنا تصبح عملية البحث عن المعنى الذي يستبطنه النص الأدبي، شأنًا متعويًا أو سارًا بامتياز، الأمر الذي يرفع عملية البحث عنه إلى مستوى التدريب الجمالي الخالص المكتفي بذاته، الذي لا علاقة له من قريب أو بعيد بأية أهداف تربوية أو متعوية أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: ممدوح عزّام.. حفنة من الحكايا وحصان

في ذهاب قارئ "حبر الغراب" مع الحَبكة بقصد التوصل إلى المعنى، الفكرة أو جملة الأفكار التي يرغب عزام بتوصيلها، سيقفز إلى ذهنه مباشرة أنه أمام رواية بوليسية، وأن موضوعها الرئيسي الكشف عن طبيعة لغز ما، هو في حالتها الراهنة الكشف عن الدوافع التي أدت لفعلي النهب كما القتل. ولمّا كان الكشف عن الطريقة التي تم فيها تنفيذ الفعلين، ليس أمرًا مغريًا بذاته، على اعتبار أن شخصية توفيق الخضرا لا تتطابق مع شخصية المحقق كونان أو شرلوك هولمز، لربما انصرف ذهنه إلى معاينة طبيعة الفعل الجرمي الذي تسبب بحدوث كل من الواقعتين، عبر مقاربة ذلك الفعل الجرمي بمدى احتوائه على ركن الجريمة الأساسي، أي النية أو القصد، من عدمه.

فما الذي يبقى من الفعل الجرمي ما دام مرتكبوه لم يدر في خلدهم أثناء الإقدام عليه إيقاع الضرر بالقيّم عليها الشاب أبو اللوز، ولا نهب المكتبة بقصد الإبادة والمحق؟ وإن كل ما حدث هناك حدث فجأة وعلى نحو غير متوقع وأقرب للعبث، أو أقرب ما يكون لردة فعل الشخص الذي وجد نفسه مخدوعًا ومحبطًا فقرر في لحظة عجزه تلك التنفيس عنها باللجوء إلى النهب. ثم ما الذي يبقى من هوية الفاعل الإجرامية، إذا كان فعله في قرارة أنفسنا لا يخرج عن فعل الشخص المغرر به، العاجز عن إدراك ذاته كأداة في ملعب غيره، كما العاجز عن إدراك مقاصد من يتلاعب به؟ ألا ينصرف موقعه في مثل هذه الحال من موقع المجرم الخسيس إلى موقع الضحية، فيما ينصرف موقع المحرض الخبيث الممسك بخيوط اللعبة إلى موقع المجرم الحقيقي؟

لا شك أن سؤال الحقيقة ذاتها هو ما سيطفو على ذهن القارئ، حين يتساءل ما هي وعمّ تكون؟ هل هي واضحة بمثل كل هذا الوضوح أم ملتبسة ونسبية؟ وإلا كيف نقيم الحد الفاصل بين سلوكين ومسؤوليتين؛ سلوك ومن ثم مسؤولية الشخص المغرر به، وسلوك ومسؤولية الشخص المتآمر؟ وكيف لنا أن نميز بين نهبين؛ نهب كان بقصد تدمير المكتبة ومحقها من الوجود، ونهب أفضى إلى إبقائها حية بين الناس؟ أليس هذا ما يتساوق مع فكرة الحقيقة والتباسها كما يظهر في الاقتباس الذي ينقله عزام عن درويش "الحقيقة بيضاء فاكتب عليها/ بحبر الغراب/ الحقيقة سوداء فاكتب/ بضوء السراب"؟ وإنّ وجوده، أي الاقتباس، بمثل هذا الوضوح الملغز، ما هو سوى إشارة للدخول إلى النص الروائي واستجلاء معاني الحقيقة التي يرغب عزام إشراكنا بمعاينتها وتأملها.

تنبع فكرة البحث عن المعنى الجوهري للنص الروائي، فيما يتجاوز المعنى الظاهري الذي تقدمه لنا الحَبكة، في الافتراض القائل بأن المعنى المبثوث في الروايات هو أمر سري وخفي بما يتجاوز إمكانية البوح به من خلال الحبكة أو على نحو أدق من خلال مهمة البطل التي تتضمنها. لذا فإن بحثنا هذه المرة سوف يتركز على معاينة الفكرة المطروحة في ثنايا الفصل الخامس، التي تذهب إلى فكرة وجود علاقة مقدسة بين المكتبة أو الكتب و صاحبها تصل لدرجة اعتبارها "معنى للحياة" عند الأستاذ سليم الراضي، وسببًا كافيًا للموت في سبيلها عند فارس أبو اللوز، وعناء يستحق مغامرة البحث وإعادتها إلى مكانها الطبيعي كمصدر للتنوير عند توفيق الخضرا.

ليس أصحاب العمل الأدبي إلا أصحاب أفكار أو مشاريع أفكار كبرى، ذلك أن عملهم غالبًا ما يكون موجهًا للكشف عن القيم الكبرى التي يحيا بموجبها الإنسان

أليس هذا ما تريد الكشف عنه الرواية، علاقة القداسة بين الكتب وصاحبها، تاركة لنا تفسير ذلك عبر الافتراض القائل بأن سبب العلاقة يعود إلى طبيعة الواقع شديد التغير الذي يرغب القارئ أو صاحب المكتبة بالقبض عليه وتجنب مصائبه عبر محاولة السيطرة عليه، وأن الطريق إلى ذلك يمر عبر مسلك فريد هو الكتب، التي تحتوي بين دفتيها تجارب الناس وخبراتهم. وهكذا يصبح فقد الكتب بهذا المعنى فقدًا أو خسارة لقدرتنا على فهم الواقع، كما فقدا لقدرتنا على تلمس سبل النجاة فيه. ألا تعبر الصيغة المجازية "الكتب أنوار العقل" عن إيماننا بقدرة العقل البشري المتجسدة في الكتب على إضاءة الواقع وإزالة الغموض أو الظلمة التي تخترق جوانبه؟ أليس هذا ما توحي به صورة الغلاف التي صمّمها تمام عزام للرواية، علية من حبق تطل على ساحة تشع بنور عقلها على قاطنيها في فضاء من الظلمة الدامسة؟

اقرأ/ي أيضًا: "أرواح صخرات العسل".. رواية جديدة لممدوح عزام

تصر "حبر الغراب"، كما غيرها من روايات ممدوح عزام، على اختراق الحدود الفاصلة التي تحاول السلطة ترسيمها بين زمنين؛ زمن الكتابة الروائية وزمنها السلطوي، حيث نجد أنفسنا في بداية الزمن التأسيسي لحزب البعث 1963 عندما كان يقيم علاقته الخاصة مع الحقيقة. وهي تتطابق إلى حد كبير مع معنى الحقيقة وأثرها التي عادة ما تقيمها سلطة منتصرة مع أخرى مهزومة، حيث تفتتح سلطتها الزمانية بالسطو على ثرواتها المادية عبر تقنيتي التقنين والمصادرة وتحت ستار من الدفاع عن الصالح العام، وتنتهي بالقضاء على رأس مالها الرمزي، المكون من التعددية الحزبية والفصل بين السلطات، حرية الصحافة والنقابات، وأخيرًا أيديولوجيتها المبثوثة عبر الكتب.

الكتب هي عدوة السلطة الوليدة، ذلك أن علاقتها بها لا تتم إلا عبر الإبادة أو التطهر بالنار وفق تصورات لطفي الجمل أو حزبه عن التأسيس. فالحقيقة إما أن تكون أحادية في نظر الأحزاب الشمولية أو العقائدية أو لا تكون، ذلك أن تعدد مصادرها يعني تهديدًا لوجود معقولية سلطتها على أرض الواقع، التي ترغب بتأسيسها على أرضية معرفية مضادة، عنوانها الأيديولوجيا. ففي الأيديولوجيا تصبح كل معرفة مضادة لتصور السلطة الجديدة عن نفسها كممثلة للخير العام، بمثابة هرقطة تستدعي التهميش والإقصاء والعقاب، في الوقت الذي يصبح فيه كل صاحب تصور حر عن المعرفة أو الحقيقة تهديدًا لحقيقتها المطلقة عن الذات، التي تستميت لترسيخها عبر الشعارات المبسترة تارة، وعبر المنطلقات النظرية الرمادية تارة أخرى. من هنا فإن رحلة توفيق الخضرا للبحث عن الكتب المغيبة تعتبر بمثابة مغامرة للكشف عن الوجه الآخر للحقيقة، على الضد من الأيديولوجيا المنتصرة التي تدعي امتلاكها لفكرة الصلاح الكوني.

في زيارة فيصل الخضرا إلى بائع بسطة الكتب فاروق التاجي سوف نجد أنفسنا في متاهة البحث عن المعنى من جديد، ذلك أن زيارة فيصل لا تقتصر على مساعدة البطل توفيق في تحديد مصير الكتب المفقودة وحسب، بقدر ما تأخذنا إلى معنى آخر قوامه البحث في طبيعة الكتب أو العمل الأدبي نفسه. هل حقًا أن مهمة الأدب الجوهرية تقتصر على الخداع، ملء النفس بالأمل دون أية بارقة لتحققه في المستقبل القريب أو البعيد؟ أم على الخلاف من ذلك كله حيث أن لطابعه المتخيل، تلك القدرة العجائبية للكلمات في معرض تحولها إلى وقائع من لحم ودم؟

في الحوار بين فيصل وفاروق نلمس الطابع الملتبس للأدب، فهو من ناحية ما مجرد وهم لا يقدم ولا يؤخر في حياة الداخلين إليه، كونه غير قابل للتجسد في الحياة اليومية، وفي أحسن الأحوال مجرد تعويض نفسي لا غنى عنه لكل صاحب رغبة أو حلم على الرغم من صعوبة تحققه. أليس هذا ما يفسر لجوء التاجي لاختراع شخصية هند سامي، مع أن وجودها في رأيه لا يخرج عن الوهم أوالعدم "الشعر والرواية والفلسفة كلها تحكي عن بدائلنا التي نشتهيها"؟

الكتب هي عدوة السلطة الوليدة، ذلك أن علاقتها بها لا تتم إلا عبر الإبادة أو التطهر بالنار

فيما هو من الناحية الأخرى واقعي وصلب وحقيقي، فيما يتجاوز صلابة الواقع الفعلي على الرغم من طابعه المتخيل. حيث إن تخييل الواقع ما هي إلا عملية تأمل لتجارب الناس الواقعية ومن ثم إعادة إنتاجها أو خلقها عبر تصورات جديدة، كما في التحويل الذي أجراه عزام على شخصية فاروق التاجي، في تقديمه لنا على غير المألوف عن باعة الكتب المأخوذين بالتعامل مع الكتب كسلعة قابلة للتسويق أو البيع بغرض كسب العيش، لنراه في حلة الناقد الأدبي أو المحلل النفسي الذي يقوم بمهة تسويق الأحلام والرغبات وصرفها في معمعان الحياة اليومية، على النحو الذي يتبدى لنا عمله المتخيل بأنه أكثر واقعية من وقائع الحياة اليومية التي نعيشها "الرواية هي إدماج العناصر الواقعية، وخلطها بحصى ورمل ومياه خيالية، ثم إعادة تدويرها بالمهارة التي تخفي التفاصيل الحقيقة لصالح النص".

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة ممدوح عزام

اعتبارًا من الفصل العاشر وما بعد، فصل زيارة توفيق إلى أسعد صبحي، سنكون على موعد حقيقي مع المعنى العميق الذي أرّقنا البحث عنه طيلة الثلث الأول من الرواية، لنكتشف أنه يكمن في الطبيعة الملتبسة فعلًا، ولكن ليس للأدب وحسب، بل لطبيعة العلاقة بين القارئ والنص، إلى الدرجة التي تجعلنا نتخذ من الحكمة الصوفية التي تتحدث عن التباس علاقة الله بمريده "من منا يا ترى من اقتحم الصومعة على الآخر" مدخلًا للفهم . بمعنى هل النص الأدبي أو المتخيل هو الذي يقتحم حياة القارئ ويغيرها على نحو يجعل منه شخصًا آخر؟ أم أن القارئ هو الذي يقتحم النص الأدبي بحثًا فيه عن حل أو خريطة عمل تساعده على الخروج من مآزقه الوجودية التي يتخبط فيها؟ أليس هذا ما يدل عليه الاقتباس أو التناص الذي افتتح بها عزام الحبر، حبر الحقيقة، في مسعى منه للإشارة على التباس الحقيقة أو طباقها على النحو الذي نراه عند إدوارد سعيد في معرض تصوره له، من حيث قدرة تجاور قراءتين أو معنيين لحقيقة ما، الأدب، ومن ثم اتخاذهما لوضعية الظهور والتجلي على وتر الحقيقة أو مسرحها بالتناوب، على النحو الذي لا يؤدي بظهور إحداهما إلى حيز الوجود، إلى اخفاء أو محو وجود الأخرى من الحيز نفسه.

تبدو حكاية فؤاد أبو علم مع رواية "الأم" مثالًا ثرًا عن العلاقة التي يقتحم فيها النص الأدبي عالم القارئ العادي ويحوله إلى صورة بطله الذي يهيم في حسن فضائله. ففي الحكاية أن فؤاد وقع في سحر حكاية غوركي الأصلية التي تتحدث عن علاقة أم بابنها الثائر ضد نظام الحكم القيصري، حيث تجد نفسها متورطة في نضاله الثوري عبر توزيع المنشورات بدافع الحب الأمومي وحده، إلى أن يأتي اليوم الذي يتحول دافعها الأمومي إلى نوع من الالتزام بخطه الثوري، الذي سيتخذ منحنى تصاعديًا عقب اعتقاله من قبل السلطات. تقتحم حياة بافل الخيالية وجدان أبو العلم بفعل خاصية الانتقال أو التقمص أو التحويل الأدبي، إلى الدرجة التي تجعله يتصرف كما لو كان يصيره. تثير علاقة أبو علم الاستلابية مع فلاسوف نوعًا من التهكم ذلك أنه يعجز عن فهم مغزى الحكاية، أو محور الرواية القائم على فكرة أن تغيير العالم يبدأ من القدرة على تغيير الذات، ومن ثم فهم موقع ذاته ضمن نضال الجماعة التي ينتمي إليها في معرض سعيها للحفاظ على الذات أو الترقي الاجتماعي، بغض النظرعن طريقة العيش التي توجد فيها تلك الجماعة سواء كانت جماعة من الفلاحين أو جماعة من العمال.

يأخذنا فعل القراءة في "حبر الغراب" إلى التعرف على غرائبية الدوافع التي قد تلقي بقارئ ما في حضن النص الأدبي

يعجز فؤاد عن التقاط فكرة البطولة القائمة على إنجاز فعل التغيير، فيما تنجح أمه، التي تفاجئه بقدرتها على إنقاذه من براثن لطفي الجمل الذي يقتحم منزله بقصد التحري عن دوره المحتمل في التآمر على إخفاء كتب المكتبة. في دفاع أم فؤاد عن ابنها تذهب مطرحًا لم يكن ليتصوره، الكذب، الادعاء بأن رواية "الأم" الملقية في الحقيبة المخصصة لكتاب الحكمة الديني ليس سوى ذلك الكتاب المقدس ذاته. الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن الدافع وراء فعل البطولة الأمومي ذاك، هل تم انطلاقًا من نفس الدافع الأمومي لأم فلاسوف، أم تم إنجازه بواجب الدفاع عن حق ابنها في بناء تصوراته الخاصة عن الحق، مقابل تصورات لطفي الجمل عنه.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "أرض الكلام".. قوة الشكل وتراجيديا المضمون

في علاقة إبراهيم عثمان برواية "السراب" لنجيب محفوظ تبدو علاقة القارئ بنصه معكوسة، فسر انجذاب ابراهيم إلى "سراب" نجيب محفوظ، له علاقة بتجربة إصابته بالعجز الجنسي إثر مشاعر خوفه الشديد من المصير الذي قد ينتهي إليه عقب محاولة حاطوم الانقلابية. يطابق إبراهيم عجزه الجنسي أو النفسي مع العجز الذي أصاب بطل السراب كامل، كون كل منهما أسير تربية متزمتة من أم طيبة تعمل جاهدة على عزل ابنها من الانخراط في مشاكل الحياة وتعقيداتها بقصد حمايته من المخاطر التي قد تتهدده فيها، فإذ هي بدلًا من أن تعينه على ذلك تتسبب بإخصائه نفسيًا، ومن ثم جنسيًا. وإذ هو يفعل ذلك فلكي يستمد قوته الروحية من بطله الذي نجح في الخروج من أزمته المستعصية الخاصة بالعجز، عبر إقدامه للقطع مع أمه وتصوراتها المبسترة عن الحياة. في حين تنتهي محاولته للتحرر من أمه، أو بالأحرى من تربيتها القائمة على التخويف من السياسة إلى الفشل، ذلك أن عملية التحرر تلك بدت له أمرًا غير قابل للتجاوز في واقع يومي يقوم على الاعتباط واللامعقولية، واقع يُؤخذ فيه الصالح أو البريء والحيادي بجريرة المتورط، الأمر الذي يدفعه للخلاص من وضعيته البائسة تلك بالانتحار.

يأخذنا فعل القراءة في "حبر الغراب" إلى التعرف على غرائبية الدوافع التي قد تلقي بقارئ ما في حضن النص الأدبي، فمن الذهاب إليه عبر الهوامش كما في حالة أسعد صبحي، إلى الذهاب إليه عبر الرغبة بالترقي الاجتماعي عند كمال الحامد، ومن ثم عبر الحب كما في حالة حاتم غزال، إلى الوقوع في غوايته من العنوان كما في حالة كاميليا شمال، إلا أن الثابت الوحيد في كل ذلك أن الدخول في تجربة القراءة ليس ما بعدها. وأن دوافع كاميليا في الدخول إلى عوالم القراءة وغرقها في عوالمها المتخيلة بفعل عنوان كتاب لا أكثر، تقدم لنا كشفًا جديدًا عن علاقة النص بقارئه، نجد أثره في وحدة التجربة الإنسانية.

الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن طبيعة تلك التجربة المشتركة بين أديب هو توفيق الحكيم وموظفة صغيرة هي كاميليا، خاصة إذا عرفنا أن "سجن العمر" و"زهرة العمر" هما كتابان في السيرة الذاتية للحكيم ذاته. لنكتشف أن الخيط السري الذي يربط بين حياة كاميليا وتوفيق يكمن في طبيعة التجربة ذاتها، تجربة السجن، سجن كل منهما داخل طبائعه النفسية التي ساهمت في تشكيل شخصية كل منهما على نحو لم يستطيعا منه فكاكًا. في التعمق أكثر في سجن كاميليا نعثر عليه متجسدًا في كراهيتها المبطنة لعوالم زوجها المتسلط الذي لا يعرف من الحياة سوى فعلي الأمر والأخذ، ومن ثم في تعميم تجربتها الذاتية إلى مقام التجربة العامة التي تتعلق بكل رجال العالم. يتغلب خوف كاميليا عليها ويشل قدرتها على الدخول في التجربة من جديد، الأمر الذي يدفعها للعيش خارج ذاتها وخارج رغبتها الإنسانية في أن تُحِب وتحب، ومن ثم للعيش في ذوات الآخرين، بناتها الثلاث، جاعلة من مهمة تربيتهن المعنى الوحيد لحياتها.

من التموضع في بداية "حبر الغراب" للكشف عن متعة حبكتها، إلى التموضع في نسيجها الحي بقصد الكشف عن المعنى العميق الذي يخترق أحداثها، وصولًا إلى التموضع في لحظة النهاية، لحظة إنجاز الفعل البطولي وعمق دلالاته، تظل الغاية واحدة، المتعة المبثوثة وطرق احتجابها ومن ثم عملية الكشف الجمالي عنها. يشف فعل البطولة الأدبي عن استبطانه لحركتين متداخلتين واحدة على السطح وأخرى في الداخل، ففي حين تتحدد التي على السطح عبر مقاربتها مع مهمة البطل ومدى قدرته على الإنجاز المتقن والفذ، فإن التي في الداخل تذهب للكشف عن طبيعة التحولات الداخلية، التي يقوم بها البطل أثناء خلاصه من تصوراته السلبية المسبقة عن طبيعة الأشخاص النفسية، الذين يحيطون به سواء عبر اكتشافه لطيبتهم بعد أن ظل يحسبهم مجموعة من الأشرار، أو عبر اكتشافه لعدوانيتهم ومكرهم بعد أن ظل يظن بهم الظن الحسن.

يشف فعل البطولة الأدبي عن استبطانه لحركتين متداخلتين واحدة على السطح وأخرى في الداخل

إن كشف توفيق الخضرا عن الأشخاص الذين ساهموا بمقتل أبو اللوز، حامل أجراس الحرية، دون أن يسميهم، ودون أن ينالوا جزاءهم العادل، لا يحرمه من خاصية الإنجاز في الفعل البطولي، حيث إن الإنجاز هنا يتركز في الكشف عن طبيعة السلطة الجديدة التي أمرت بعملية النهب وتسببت بعملية القتل، هذا ناهيك عن إنجازه الأعظم المتثمل بإحضار الكتب المنهوبة إلى فضاء الحياة، سواء عبر تتبع أثرها من يد ليد، أو عبر تتبع أثر فعاليتها في نفس القراء، على النحو الذي يشي به قول هنري ميلر "يبقى الكتاب حيًا عبر التوصية المحبة التي يقدمها قارئ إلى آخر"، وهو ما يشف عن المعنى المحتجب الآخر في ثنايا "حبر الغراب".

اقرأ/ي أيضًا: فواز حداد وممدوح عزام.. عن الروائي والرواية في الحرب

إذا ما آمنا ببطولة توفيق وهي كذلك، فإن ذلك الإيمان لا يتعدى إلقاء الضوء على طابعها الخارجي المتمثل بإنجاز المهمة التي ألزم نفسه بها. في حين تظل البطولة الداخلية أو النفسية له أمرًا خاصًا بنا نحن قراء الحبر، وتظل عملية الكشف عنها أمرًا متعويًا يستحق المغامرة والبحث. ففي العودة إلى الجانب النفسي لتوفيق عند لحظة تسلمه المهمة نجده في حالة من التبرم والضيق من جميع أبناء السماقيات الذين تواطأوا على عملية النهب وتسببوا في عملية القتل، إلى الدرجة التي جعلته يصر على التعامل معهم كحفنة من الرعاع، المشدودين إلى غرائزهم البدائية وعواطفهم الدنيئة. وهو ما يتماهى مع نظرته السلبية التي ظل يكنها لكامل الحامد التي شاءت الأقدار بأن يقع فريسة لفكرة العظمة التي عثر عليها في كتاب طه حسين "قادة الفكر"، وشاءت تصورات توفيق له بأن يظل مجرد ذيل كلب وقناص فرص.

لكن تلك الكراهية الممزوجة بالاحتقار صوب أولئك المرابعين سرعان ما ستتبدل لتحل محلها مشاعر المحبة والتضامن، فشتان ما بين فعل نهبهم الذي أفضى لإنقاذ المكتبة، وبين رغبات لطفي وحزبه بإبداتها. بل إن تلك المشاعر ستصل إلى حالة من الشعور بالفخر والاعتزاز تجاه أولئك الناس الذين ساهم فعلهم العفوي بالنهب إلى إعادة الكتب إلى الحياة عبر سلسلة لامتناهية من عمليات القراءة والاستعارة، ومن ثم القراءة من جديد، وإلى حالة من الشعور بالرضا بأن جهوده الرامية للمساهمة بفعل التنوير، تنوير عقول الناس تجاه حقائق الواقع عبر فعل تأسيس المكتبة كانت عملًا بطوليًا يستحق العناء والمكابدة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تعرّف على 5 من أبرز الروايات السورية

فواز حداد ومدد الكتب في 2019