14-يوليو-2021

الروائي ممدوح عزام

عاد سالم النجار إلى بيته في قرية دير القرن متقاعدًا من خدمة الدرك (الشرطة) التي قضى فيها شبابه وشطرًا من كهولته. لكنه كان متأخرًا ثمانية أشهر عن الموعد المحدد، وفوق ذلك فهو لم يعد وحيدًا، إذ جاء برفقة حصان. ومنذ اللحظة التي حطَّ فيها الرحال هنا، صار الاثنان، الرجل والحصان، محط أنظار مراقِبة مدققة، وموضوع أحاديث مسهبة لم تنقطع إلا بموت أحدهما.

يعود ممدوح عزام في روايته "لا تخبر الحصان" إلى اللجاة، تلك الأرض البازلتية في جنوب سوريا، والتي تصوغ أقدار أبطاله وفق محدداتها

يعود ممدوح عزام في روايته "لا تخبر الحصان" (دار ممدوح عدوان ودار سرد، 2019) إلى اللجاة، تلك الأرض البازلتية في جنوب سوريا، والتي تصوغ أقدار أبطاله وفق محدداتها، وتطبعهم بسماتها المميزة، فيأتون على هذا القدر من الجموح والصلابة والعناد والاندفاع العاطفي والشعور الأبدي بالأسى.. غير أن اللجاة هي جزء من جغرافيا البلاد الأوسع، تردد أصداء تقلباتها السياسية والاقتصادية، وتتأثر باتجاه الرياح فيها. ومن هنا فإن أبطال عزام يبدون للوهلة الأولى منعزلين في بيئتهم الضيقة، منغمسين في شؤونهم الصغيرة، يمثلون على خشبة ضيقة وثانوية، غير أنهم في الواقع يتحركون، على الدوام، أمام خلفية كبيرة تصوغها السياسة وشؤون البلاد العامة.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة ممدوح عزام

في "لا تخبر الحصان" نحن إزاء دركيّ كان له صولة وجولة في مناطق سورية عديدة، تَشبّه بالفرسان الجوالين وحمل راية القانون مطاردًا المهربين واللصوص وقطاع الطرق، وعندما حان موعد تقاعده (أواسط ستينات القرن الماضي) فقد عرف أن سجل بطولاته مهدد بالنسيان، فجمع حزمة من الحكايا وأصر على الاحتفاظ بحصانه الأثير ليبقى دليلًا وعلامة مؤكدة على زمنه المجيد هذا. أما الأسرة فقد استقبلت الاثنين بالاستغراب أولًا ثم بالاستياء. سليمة، زوجة سالم، لم تر في الحصان إلا ذلك الفم الثامن الذي جاء ليشاطر عائلتها لقمة العيش الصغيرة أصلًا، ولقد شعرت بالغيرة عندما لاحظت تعلق زوجها به حيث ظل يرافقه في جولات طويلة يعود بعدها صامتًا منكفئًا على نفسه، وسرعان ما حدست أن الحصان شريك متواطئ في سر مخبوء يهدد كيانها ويتوعد شمل أسرتها بالتشتت. والأبناء بدورهم ساءهم أن يروا هذا "الحيوان الأبكم" وقد صار مدلل والدهم وموضع عطفه النادر إزاءهم.

يرسم الراوي الأساسي (يستخدم ضمير الغائب) المشهد العام ويمهد المدخل، ثم يترك الحديث لرواة آخرين، سليمة وأبنائها الخمسة: فاضل ونوفل وكامل وواصل وكاملة، الذين يتناوبون على روي الحكاية، كلٌ من وجهة نظره وزاويته، حكاية الرجل والحصان، وحكاية الحياة المترعة بالفقر والحرمان وانسداد الأفق والأحلام المأسورة، وحكاية البلاد وانقلاباتها وتقلباتها، وتلك الحكاية الأزلية عن تغير الزمن وتدحرجه المستمر إلى الانحطاط.. وبين فترة وأخرى يعود الراوي الأساسي ليكمل النواقص ويسد الثغرات ويشرح بعض الدوافع ويفسر المآلات.

وحده سالم لا يأخذ زمام الحديث ولا يلعب دور الراوي، ومع ذلك فظله يمتد على جميع الأحاديث وهو الشاغل الأول لجميع الرواة، يتنافسون على تفسير مزاجه وعواطفه، وعلى التكهن بأسراره ونواياه.

رجع سالم ليجابه واقع العطالة والزمن المتغير بحفنة من الحكايا وبحصان، ولكن لا الحكايا أجدت ولا الحصان. لقد أمطر ضيوفه من أهل القرية بسوالف الدرك وبطولاتهم، إنفاذهم للقانون بقوة السوط والكرباج، وفرض هيبة الدولة على الأهالي المعاندين، أما هم فقد كانت لديهم حكايات مضادة عن فلاحين روعهم الدرك وأجبروهم على الفرار أو المجابهة.. وهكذا انصرفوا عنه وتركوا مضافته خالية إلا من أقارب مقربين وبعض المجاملين.

والحصان؟ لقد عاد سالم به فيما كانت دير القرن، بل والبلاد كلها، على عتبة زمن جديد تلاشى فيه الفرسان وفقدت خيولهم الأصيلة قيمتها ودلالتها، وانتقلت الدولة من الرخاوة التي ميزتها في العقود القليلة بعد الاستقلال إلى صلابة حديدية، تحرسها بيروقراطية مؤدلجة وأجهزة بوليسية أكثر احترافًا وإحكامًا، تستخدم السيارات والعربات المدرعة عوضًا عن الخيول، والمخبرين عوضًا عن الفرسان. وكذلك كان الأهالي قد تقاعدوا من الفروسية مكتفين بترديد حكاياتها، فاستعاضوا عن خيولهم ببغال وحمير وكدش يواجهون بها زمنهم الأغبر بمتطلباته الدنيوية الخالية من أي أثر للبطولة.

أبطال رواية "لا تخبر الحصان" محبون للحياة، نهمون للعيش، مشكلتهم أنهم ولدوا في بيئة قاسية وفي زمن صعب، فكانت الطرق وعرة والخيارات محدودة

حصان سالم، والحال هذه، بدا مفردة هاربة من زمن آخر، إشارة إلى ترف فات أوانه وصار التشبث به مدعاة سخط وسخرية لا إعجاب. وعبثًا حاول سالم حماية حصانه من إهانات هذا الزمن وأهله، وإذ واظب على امتطائه كل يوم متبخترًا بلباس الفارس، فقد بدا أشبه بدونكيشوت بائس منفصل عن الواقع.

اقرأ/ي أيضًا: "أرواح صخرات العسل".. رواية جديدة لممدوح عزام

تشعبت استجابات المحيطين إزاء المستجدات والظروف، فالبعض حاول ركوب الموجة الصاعدة، كنمر (شقيق سليمة) وفاضل (ابن سالم البكر) والذي انتسب إلى حزب الحكومة الرسمي، فيما قرر نوفل (الابن الثاني) الانتماء إلى حزب ماركسي لا يرضى بأقل من تغيير العالم، والابنة، كاملة، اختارت أن تشق طريقها عبر الكتب، وسليمة نفسها تصالحت مع سر زوجها الذي كان على هيئة ابن من امرأة أخرى، وعكس ما حدست فإن السر لم يشتت شمل أسرتها بل أضاف لها ابنًا سادسًا.. أما سالم فقد ظل يدور مكانه متشبثًا بالصمت والحنين، وعندما لان وقرر الاستسلام للواقع كان الوقت قد تأخر، وفي مشهد مؤثر، قبيل نهاية الرواية، يظهر سالم وهو يدرب الحصان على جر عربة سوف يبيع عليها البندورة والبطاطا في القرى المجاورة، وهو ما لن يحدث بسبب فجيعة تنهي المأزق وتنهي الرواية كذلك.

أبطال الرواية محبون للحياة، نهمون للعيش، ومشكلتهم أنهم ولدوا في بيئة قاسية وفي زمن صعب (كل أزمنتنا صعبة)، فكانت الطرق وعرة والخيارات محدودة، لتكثر قصص الحب المحبطة، وتتعدد الانحرافات وحالات الضياع. وفيما كانت الهزائم الشخصية في دير القرن تتوالى، كانت الساعة في الخلفية تشير إلى الخامس من حزيران/يوينو 1967. ولكن لا إسقاطات مباشرة هنا، فعزام يجيد وصل شخوصه بالأحداث العامة الجارية، بحيث تبدو الرواية ذات مستويين: واحد مباشر وعلى السطح وفيه حكاية سالم والحصان ومن حولهما، وفي المستوى الثاني، الأعمق، ثمة حكاية أخرى: حكاية البلاد بأسرها.

ممدوح عزام روائي سوري، من مواليد عام 1950، صدر له عدد من الروايات والمجموعات القصصية: نحو الماء 1985، معراج الموت 1987، قصر المطر 1998، جهات الجنوب 2000، الشراع 2000، أرض الكلام 2005، نساء الخيال 2011، أرواح صخرات العسل 2018، لا تخبر الحصان 2019، حبر الغراب 2021. وترجمت بعض رواياته إلى الألمانية والإنجليزية والفرنسية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "أرض الكلام".. قوة الشكل وتراجيديا المضمون

فواز حداد وممدوح عزام.. عن الروائي والرواية في الحرب