13-نوفمبر-2023
كاريكاتير لـ محمود سلامة/ فلسطين

كاريكاتير لـ محمود سلامة/ فلسطين

ولدي أيها العزيز، 

عندما كنت في مثل سنك، اعتقدت جازمًا بأنني لن أكبر، ولكي أكون دقيقًا، اعتقدت بأنني يومًا ما سأكبر، لكنه سيكون يومًا بعيدًا جدًا، ظننت بأن الكبار وحدهم حينها من كان سوء الحظ حليفهم حينما كبروا في غفلة من الزمن.

في ذلك الوقت كنت يافعًا وحيويًا وممتلئًا بالشغف والفضول، كان كل شيء يبدو سهل التحقيق وهينه، حتى أكبر الأحلام. كان الزمن بطيئًا والأيام ثقيلة كأنها عصارة مكثفة للشهور، ما أمتعه من وقت!

حين تظن بأن خسارتك لحبيب أعظم مصيبة، وأن فقدانك لمقعد دراسي أكبر امتحان ستمر به.

حين تفرح بشجرة زرعتها فكبرت ونمت وشالت الثمار بعد أعوام، حين تتعلم أن السيجارة تحمل مع النهي والمنع طعم التعب، وأن المطر الذي ستحتمي منه بمظلة بائسة في مثل عمري هذا هو الغطاء الأحن لروحك الشغوفة.

ربما لم تكن مظاهرات العالم المناصرة لفلسطين والمطالبة بوقف اعتداء اسرائيل على قطاع غزة حبًّا وتعاطفًا مع الفلسطيني كإنسان مظلوم، لكنها نتيجة حتمية للانكشاف العالمي للكيدية الغربية أمام الشعوب

لابد وأنك تكره هذه المرحلة الآن، وتنتظر أن تعبرها نحو مستقبل أكثر هدوءًا وأسكن حالًا، فكل التفاصيل التي تلامسك اليوم لا تعني لك سوى الملل والضجر ولا تحمل في ثناياها إلا طابع الانتظار.. تنتظر العمل الناجح، تنتظر الحبيبة الجميلة، تنتظر البيت الجميل، تنتظر السيارة والسفر والمنجز المعنوي الباهر، تنتظر اعتراف الناس وتصفيق المحبين، تنتظر الشهرة، تنتظر المفاجآت السارة.

وكل ما تنتظره لن تجده في تلك البقعة من الزمن التي تظن بأنك عالق فيها.

لكنني أعدك يا ولدي بأن كل ذلك سيمضي بسرعة كبيرة أكثر مما توقعت، سيباغتك الزمن بخيانته، وسيضحك مادا لسانه بينما تقف حائرًا وواجمًا، متسائلًا: أين ضاعت سنواتي؟

وكيف تحول ذلك الزمن الكثيف البغيض إلى زمن أحن لكل لحظة منه.

ستفكر طويلًا في جسدك الذي بدأ يفقد قدرته على ممارسة السحر الطفولي، وستفكر في روحك التي اشتاقت للانبطاح تحت سرير لا فوقه، والاختباء في خزانة ملابس قديمة عن أعين الأهل، وفي تجريب كل جديد يحمل مصيبة للعائلة.

ولن تخلص لنتائج مهمة، الزمن مضى بك ومعك وبدونك، أخذ ما أخذه وغادر تاركًا الذاكرة.

في المصائب الكبرى تعبر الأوقات سريعة جدًا، ولذلك فقد مضت أعمارنا بأسرع مما توقعنا، عشنا حروبًا وراء حروب، وعايشنا انقلابات وثورات، وعرفنا الفقر والتهجير والنزوح والغربة بأقسى أشكالها، كل ذلك كان صعبًا ومتعبًا، لكن الأصعب من ذلك أن تعيش بأمان بينما يقتل أهلك وناسك على مسمع من العالم ومرآه، بينما تقف عاجزًا عن فعل شيء سوى الاختباء وراء قهرك ودموعك كلما شاهدة مجزرة تقترف أو بيتًا يهدّ على رأس ساكنيه.

أنت اليوم تعيش حربًا جديدة على فلسطين، وتشهد قهرًا كبيرًا وقمعًا عالميًا لرأيك، لا تنخدع وتعتقد بأن هذا أمر جديد، كل ما تراه مكرر، لكنه اليوم يتميز بالوقاحة، فالمجرم صار ضحية والضحية تقدم للعالم كقاتل متسلسل يجب الخلاص منه، هذا بالضبط ما يحدث مع الفلسطينيين.

ربما لم تكن مظاهرات العالم المناصرة لفلسطين والمطالبة بوقف اعتداء اسرائيل على قطاع غزة حبًّا وتعاطفًا مع الفلسطيني كإنسان مظلوم، لكنها نتيجة حتمية للانكشاف العالمي للكيدية الغربية أمام الشعوب، الناس في تظاهراتهم ينشدون الخلاص لأنفسهم أيضًا، فهم يعلمون أخيرًا بأن الدور قادم عليهم، وأن المقصلة الرأسمالية العالمية البغيضة لن توفر رأسًا حرًّا في هذا العالم الذي ضاق بما رحب على البشر.

هذا زمنك البطيء يا ولدي الصغير، وهو زمننا السريع، وبينما نقف كجيلين قبالة بعضنا البعض وبيننا تقف الهزائم شاهدة على ما مررنا به، كذلك يقف هناك في البعيد أمل صغير، كلما اقتربنا منه ابتعد، لكنه موجود، وقد تناله يومًا ما.