09-أكتوبر-2022
آموك

رواية آموك

لعلّ كلّ من يقرأ لستيفان زفايغ لأول مرة، يُدرك بشكل واضح وجلي ما يتميّز به من طريقة كتابية تجمع بين الإمتاع والجمال في أساليب التعبير، والغنى والكثافة في المضمون والمحتوى، فطريقة زفايغ في الكتابة التي تظهر في مؤلفاته كافة، تَبرز بشكل خاصّ في رواياته القصيرة التي ينهيها القارئ في جلسة واحدة، وكأنّها وجبة كتابية متكاملة فيها من العناصر اللغوية والتعبيرية ما يكفي لإشباع ذائقته الجمالية، وفيها من الأبعاد الفلسفية العميقة ما يكفي لإشباع مداركه الفكرية والعقلية.

رواية "آموك.. سعار الحبّ" هي واحدة من روايات زفايغ القصيرة، التي تتميّز بغموض وجاذبية البناء الاصطلاحي في عنوانها، فالعنوان بشقيه الغامضين على الغلاف "آموك" و"سعار الحبّ" يُمارس سطوته على القارئ

رواية "آموك.. سعار الحبّ" هي واحدة من روايات زفايغ القصيرة، التي تتميّز بغموض وجاذبية البناء الاصطلاحي في عنوانها، فالعنوان بشقيه الغامضين على الغلاف "آموك" و"سعار الحبّ" يُمارس سطوته على القارئ، ويكون كفيلًا بأن يوقظ فيه فضوله المعرفي، فينجذب إلى الرواية، ويندفع لقراءة صفحاتها، آملًا أن يكشف له عن خفاياه ومضامينه الغامضة، فيعرفَ ويتعرّف على هذا الآموك أو سعار الحبّ.

يَرد في مقدمة الرواية تفسيرًا معينًا للعنوان بأنّ "الآموك" هو سلوك إجرامي ينتشر في المناطق الاستوائية التي ترتفع فيها درجة الحرارة، وهو سعار مفاجئ يركض على أساسه المريض بلا توقّف قاتلًا كلّ من يعترضه، ولا سبيل لعلاجه إلا بقتل المريض وسقوطه صريعًا وميتًا.

فزفايغ يقوم بتوظيف الآموك في الرواية في بناء سردية متينة حول شكل من أشكال السعار الذي يُصيب الإنسان ويكون سببه الأول والأخير الحبّ والشهوة، فالرواية تضع الحبّ والشهوة في مقابل فلسفة الواجب، وتُسلّط الضوء على هذا الصراع الذي ينشب أحيانًا داخل الإنسان بين شهواته وغرائزه وواجباته المهنية، وهي رواية تتغلّب فيها الأبعاد الفلسفية والأخلاقية للإنسان على أبعاده الغرائزية والشهوانية الأخرى.

تحكي الرواية عن رجل (قد يكون زفايغ نفسه) يُسافر من الهند في باخرة بقصد العودة إلى أوروبا، ويلتقي على متنها برجل آخر غامض، يَعمل طبيبًا، يروي له قصته مع حالة مرضية غريبة أصابته أثناء تواجده في الهند عندما كانت مستعمرة من قبِل عدة قوى استعمارية أوروبية (زمن الرواية عام 1912)، وعندما انتدبته الحكومة الهولندية وأرسلته إلى إحدى القرى المعزولة فيها بقصد الإشراف على معالجة سكان المستعمرة.

يسرد الرجل حول بدايات إصابته بحالته المرضية الغريبة، بأنّ انطباعه عن الهند في لحظة قدومه إليها كان انطباعًا رومانسيًا بالكلية، فقد كان يحلم بتعلّم اللغات وقراءة الكتب المقدسة ودراسة الأمراض وإتمام البحوث، وأراد آن يكون خادمًا للإنسانية وللحضارة، ويبيّن بأنّ هذا الانطباع الرومانسي لم يستمرّ معه طويلًا، فبعد مرور فترة معينة على تواجده فيها أصابه نوع من الحنين الشديد إلى أوروبا، فالتزم بيته وأخذ يستعيد ذكرياته فيها، فيتذكّر مدنها وشوارعها، ويتحرّق شوقًا لحديث عابر يجمعه مع إحدى نسائها البيضاوات.

يُمكن اعتبار طبيعة عيشه المنعزل في القرية وتوقه وشوقه إلى نساء أوروبا ولتفاصيلهنّ الفريدة بمثابة مقدمة للحالة المرضية الغريبة التي تُصيبه فيما بعد، ويكون سببها زيارة امرأة أوروبية له في بيته.

وعن تفاصيل تلك الحالة يروي بأنّه شعر بها بشكل مفاجئ بعد أن زارته امرأة أوروبية بيضاء في بيته، وطلبت منه أن يقوم بإجهاض حملها الذي جاءها من علاقة بعشيق لها وهي امرأة متزوجة، ويسرد بأنّ كبرياء المرأة ورفضها التوسّل لها وهي تَطرح عليه طلبها كان هو السبب الأوّل في اشتهائها وتولّد الرغبة العميقة بها، وفي تمني إخضاعها عبر امتلاك جسدها العاري ومضاجعته على السرير، ويقول في تفاصيل تشكّل هذه الرغبة عنده: "كنتُ مجبرًا على تذكر أنّها كانت قبل شهرين أو ثلاثة، بين ذراعي رجل، تتلوى في فراشه، عارية مثل بهيمة، وربما لاهثة من اللذة، بينما يلتصق جسداهما مثل شفتين في فمٍ واحد"، "منذ تلك اللحظة تخيلتُ جسدها عاريًا تحت الفستان الذي كانت تلبسه.. منذ تلك اللحظة، لم تكن في ذهني فكرة أخرى غير الرغبة في امتلاكها، الرغبة في سماع هاتين الشفتين الحادتين تتأوهان، الرغبة في رؤية هذه المتغطرسة الباردة مشتعلة باللذة مثلما رأى الآخر ذلك"، "كلّ ما كنتُ أريده هو تحطيم كبريائها وتمكين الرجل الذي في داخلي من السيطرة عليها".

"الآموك" هو سلوك إجرامي ينتشر في المناطق الاستوائية التي ترتفع فيها درجة الحرارة، وهو سعار مفاجئ يركض على أساسه المريض بلا توقّف قاتلًا كلّ من يعترضه، ولا سبيل لعلاجه إلا بقتل المريض وسقوطه صريعًا وميتًا

ويُكمل عن تفاصيل شعوره بتلك الرغبة العارمة في داخله، بأنّها ما لبثت أن تحوّلت إلى حالة مرضية غريبة أصابته ويقول: "أحسستُ كما لو أنني مصاب بالحمى... وفقدتُ كل السيطرة على ذاتي... أو بالأحرى... لم أعد أفهم ما أريده بالضبط... لم أكن أفعل شيئًا غير الركض إلى الأمام، مهووسا بهدفي... آه.. انتظر، ربما أستطيع أن أشرح لك هذا أيضًا... هل تعرف ما هو "الآموك"؟ نوع من السكر لدى الماليزيين... نوع من الجنون، نوع من السعار البشري، نوبة مباغتة من التوحد القاتل لا يمكن مقارنتها بأي درجة من السكر التي يؤدي إليها تناول الكحول".

ثمّ يُبيّن بأنّ الرغبة العارمة التي شعر بها اتجاه هذه المرأة أصابته بحالة من التغييب ودفعت به إلى الركض خلفها، واللحاق بها، في كلّ أماكن تواجدها، حتى أصبح في ركضه وراءها يُشبه تمامًا الراكض في حالة الآموك، والذي يستمرّ في الركض وقتل كلّ من يمرّ به، حتى ينتهي أمره بقتله وسقوطه ميتًا.

ويوضّح بأنّ اللحظة الفارقة عنده كانت هي اللحظة التي وقف فيها أمام جسدها النازف بعد لجوئها إلى إحدى العيادات الطبية القذرة من أجل إتمام عملية الإجهاض، فقد استدعته وهي في تلكَ الحالة لينقذها، وبعد أن رآها كذلك، استفاق فيه إحساسه بالواجب الأخلاقي المهني، ولم يعد يرى فيها امرأة مشتهاة، بل مريضة تحتاج إلى المساعدة.

يَختم زفايغ روايته، بصفحات يُبيّن فيها بأنّ الرجل رغمَ فشله في إنفاذ المرأة، وموتها متأثرة بالنزيف الذي أصابها، إلا أنّه ظلّ يركض وراءها حتى النهاية، فهو يتعهد لها بحفظ سرها، وصيانة شرفها أمام زوجها، ويقوم بتزوير تقرير الطبيب الشرعي حول سبب وفاتها، وعندما ينجح الزوج في الحصول على نعشها قبل دفنها، ويأخذه ليحمله إلى مدينة أخرى على متن الباخرة، يقوم بطريقة ما بإسقاط نعشها في البحر، حتى يُنقذ سمعتها، ثمّ ينتحر بعدها بمسدس كان يملكه، فكأنّ الآموك الذي صوّره زفايغ هنا يبدأ في شكل الحبّ والشهوة تجاه امرأة، ويستمرّ في شكل آخر يتمثّل بنداء واجب أخلاقي ينبثق داخله ويُفجّر فيه رغبة عميقة بإنقاذ سمعتها وشرفها بشتى الطرق والأساليب، وكأنّه ركضٌ بدأ من أجل الحبّ والشهوة وانتهى من أجل تلبية نداء الواجب الأخلاقي.