17-أكتوبر-2018

ستيفان زفايغ (1881 - 1942)

"الخوف أشدّ من العقوبة. لأنّ العقوبة محدّدة دائمًا مهما كانت خطورتها". جملة كهذه، وإن جاءت في صفحاتٍ متأخّرة من رواية "الخوف" (دار مسكيلياني/ دار مسعى، 2018) ترجمة أبو بكر العيادي، للروائي النمساويّ ستيفان زفايغ؛ إلّا أنّها تُعطي للقارئ انطباعًا أوليًا عمّا يقرأهُ. فهذه الجملة، ودون شك، تُشكّل أساس الرواية وأحداثها التي تدور في مجتمعٍ برجوازي غير منفتح على الآخرين من أبناء الطبقات الأقلّ شأنًا. مجتمع يعيش أبناؤه حياة يسودها الرفاه والبذخ، واللامبالاة أيضًا.

تصاب الحياة بالتعفن نتيجة الروتين الذي لا يكاد يخضع لأيّ تَغيُّراتٍ من شأنها أن تبعث فيه الروح من جديد

في مقابل ذلك، يتبيَّن من خلال سَير الأحداث وتصاعدها مدى الضرر النفسيّ الذي يُصيب هذه الشريحة من المجتمع، أو الوافدين إليها حديثًا من خلفياتٍ غير برجوازية. وهذا الضرر، يصوّره ستيفان زفايغ من خلال إيرين، بطلة العمل الذي يتحوّل عندها، يومًا تلو آخر، إلى تعفُّنٍ ينخرُ روحها ويُعيد صياغتها وفقًا لطبيعة الحياة التي يجب أن يعيشها الأثرياء.

رواية الخوف

التعفُّن بدورهِ يجيءُ نتيجة طبيعية لروتين حياة العائلة الذي لا يكاد يخضع لأيّ تَغيُّراتٍ من شأنها أن تبعث فيه الروح من جديد. ويبني في الوقت نفسه أسوارًا تمنع إيرين من التحوّل إلى سَيِّدةٍ من سَيِّدات الطبقات العُليا مهما فعلت وحاولت. فالأمر لا يبدو مرتبطًا بجذورها وخلفيتها الاجتماعية نهائيًا، بل بطبيعة شخصيتها، ومكامن عوالمها النفسية المتوتَّرة، ومدى قابليتها أيضًا لنمط الحياة الجديد الذي يسيرُ وفقًا لخطٍّ يصيرُ الخروج عنه شكلًا من أشكال العار. يُمكن لهذا الخط والخروج عنه، دون عناءٍ يُذكر أيضًا، أن يقدّم شخصية إيرين كما هي للقارئ، أي بمعزلٍ عن مؤثِّرات بذخ الحياة البرجوازية، فتظهرُ كائنًا مثيرًا للشفقة، لا يبدو مستعدًّا نهائيًا لامتصاص الصدمات التي تهزّهُ بعنف، أو التعامل معها أيضًا. جلّ ما تفعلهُ إيرين في حالاتٍ كهذه هو أن ترفع توتّرها إلى أقصاه، فتفتح بذلك أبوابها على وسعها للخوف الذي يقذفها تارةً نحو عالم زوجها البرجوازي، وتارةً أخرى نحو عالمها الخاص الملوّن بشتّى أطياف القلق والتوتّر والانغلاق على الذات، والمتأرجح هو الآخر أيضًا بين حياة الثراء من جهة، وحياة المغامرات وخرق القواعد من جهةٍ أُخرى.

اقرأ/ي أيضًا: روايتان قصيرتان لستيفان زفايغ

تأرجح إيرين بطلة العمل بين واقعٍ حاضرٍ يحدثُ لتوِّه، وآخر مضى وفات أوانهُ، يُضاعف من توتّرها النفسيّ، ويسيرُ بها نحو أزمةٍ في علاقتها مع مُحطيها: زوجها، وأطفالها، ومنزلها. وأخيرًا، أزمةً حادّة مع نفسها. وتبلغُ هذه الأزمة ذروتها حين تجد إيرين نفسها متورِّطةً في علاقة جسدية مع شابٍ يصيرُ فيما بعد عشيقها، ومصدر خوفها الأوّل في آن معًا. فهذهِ العلاقة التي أقامتها إيرين مع هذا الشاب البعيد والبعيد جدًا عن أبناء الطبقة المخملية، أقامتها، بقصدٍ أو دون قصد، بحيث تتمكّن من إعادة اكتشاف نفسها التي تماهت، وإن بصورةٍ غير مستقرّة، مع نمط حياة زوجها البرجوازيّ الأصيل. وأيضًا، لاكتشاف جسدها الذي تحوّل إلى مكانٍ يُفرغُ فيه زوجها رغباته بالأسلوب نفسه الذي يُمارس فيه عمله وحياته، أي باعتبار الأمر مجرّد روتين أو وظيفة ما عليه تأديتها، دون أن يخلو الأمر من الحبّ، لكن دون أن يظهر واضحًا وصريحًا وأيضًا. هكذا، تحوّلت العلاقة إلى مساحةٍ لإيرين تُجرّب فيها ما هو ممنوع وغير مُباح في العالم البرجوازيّ، دون أن يكون الأمر مقتصرًا فقط على علاقتها الجسدية بعشيقها. أي أنها مساحةً لاستعادة نفسها الأولى، أو هكذا توهّمت لبعض الوقت. بالإضافة إلى اختبار جسدها بصدقٍ وشغف دون حواجز وقيود. وأخيرًا، خرق قواعد الحياة الفارهة والمملّة، وإحداث نوعٍ من التغيير فيها.

تتحوّل العلاقة خارج الزواج، لدى بطلة ستيفان زفايغ، إلى مساحةٍ تُجرّب فيها ما هو ممنوع وغير مُباح في العالم البرجوازيّ

هذه العلاقة التي هزَّت إيرين عميقًا، وأعادت إحياء أشياء كانت قد فقدت الحياة في داخلها بفعل أسلوب الحياة غير المتغيِّر، تحوّلت يومًا تلو آخر إلى تهديدٍ مُباشر وصريح لاستقرار حياتها مع عائلتها، زوجها وأطفالها. وسببًا رئيسيًا لنوبات الخوف والقلق التي باتت تُداهمها ما أن تخرج من شقّة عشيقها نحو الشارع. بالإضافة إلى الأسئلة التي لا تنفكّ تُطاردها حينما تخرج: "ماذا لو أنّها صادفت أحدًا ما من معارفها أو معارف زوجها؟ كيف ستفسّر لهُ وجودها في مكانٍ كهذا؟ ماذا لو أنّ زوجها اكتشف أمرها؟ ما مصير سمعتها كواحدةٍ من سيِّدات الطبقة المخملية في المدينة، وإن كان ذلك زورًا؟ مصير علاقتها مع محيطها وأطفالها بعد الفضيحة؟ وكيف ستتخلّص من هذه العلاقة مع عشيقها؟".

اقرأ/ي أيضًا: ستيفان زفايغ.. تعرية النفس البشرية على رقعة شطرنج

هنا، يصيرُ الخوف ملازمًا لإيرين. لا سيما أنّ امرأةً تُصادفها عند باب مدخل المبنى الذي يقطنهُ عشيقها، تكشف أمرها، وتهدِّدها بفضح أمرها ما لم تلبّي رغباتها، لتبدأ عند هذا الحدث رحلةً من المعاناة مع الخوف الذي يصير في العمل شخصيةً قائمةً بنفسها، ومتجسِّدةً بمشاهد مختلفة، كطرق باب منزل إيرين فجأة، وملامح زوجها المتجهِّمة، وأصوات خطواتٍ تتبعها في الشارع، ويدٍ تحطُّ على كتفها فجأة أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "مانديل بائع الكتب القديمة".. التحوّل العنيف في أوروبّا

رواية "أورشليم".. تاريخ الرعب الإنساني