04-أغسطس-2017

ستيفان زفايغ في منزله بسالزبورغ، عام 1935

قدمت المخرجة الألمانية ماريا شرادر العام الماضي فيلم "ستيفان زفايغ.. وداعًا أوروبا" الذي يحاكي المراحل الأخيرة من حياة الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ (1881 – 1942) قبل أن ينتحر مع زوجته الشابة في البرازيل عام 1942، وهو اليهودي الذي كان معاديًا للنازية حتى أن الزعيم النازي أدولف هتلر أمر بحرق جميع مؤلفاته في ألمانيا، ومنع من تداول اسمه في الصحف، وليس خافيًا على أحد أن ستيفان زفايغ الذي تنقل بين عدد من الدول قبل أن يجد في البرازيل ملجأ أخيرًا، كان من أشد المعادين للقوميات، وضد الأفكار الصهيونية، حتى أنه وصف مؤلف تيودور هرتزل – الذي كان سابقًا صديقًا له – حول إنشاء وطن قومي لليهود بأنه: كلام فارغ.

وصف ستيفان زفايغ كلام صديقه تيودور هرتزل حول إنشاء وطن قومي لليهود بكلام فارغ

وقبل أن ينتحر ستيفان زفايغ مع زوجته كان كتب روايته الأخيرة "لاعب الشطرنج" التي قدمت لها سحر ستالة ترجمًة جديدة للعربية (دار مسكيلياني، 2017)، لنعيد معها اكتشاف جانب جديد من الصراع الذي كان يخاض ضد الحركة النازية، بعد أن استطاعت التمدد في أوروبا في أربعينات القرن المنصرم، حيثُ يقدم فيها ستيفان زفايغ بين شخصين عاش كل منهما بشكل منفصل صراعًا مختلفًا في سبيل البقاء، وكيف أن أوروبا كانت تتحول تدريجيًا إلى هواجس ذاتية متداخلة بين السيطرة والربح بعد أن بدأت هوية الإنسان تختفي تدريجيًا مقابل صعود قيم الاستحواذ.

اقرأ/ي أيضًا: مقدمة رواية "العميل السري"

أخيرًا.. نطق حمار النبي بلعام

تحاكي رواية "لاعب الشطرنج" سيرة شخصين تروى قصتهما على لسان أحد المسافرين على متن باخرة من مدينة نيويورك الأمريكية إلى العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس، فالأول هو بطل الشطرنج اليوغسلافي ميركو كزنتوفيك الذي حاز على عديد البطولات في اللعبة دون أن يتمكن أحد من هزيمته. فهو في الأساس كان ابنًا لبحار يوغسلافي من بحر الدانوب غرق قاربه بعد أن اصطدم بسفينة محملة بالملح، ليقوم أحد الرهبان برعايته إلا أن كزنتوفيك لم يكن بارعًا في الدراسة أو التعليم، إذ عندما أتم الـ14 من عمره كان لا يزال "يستنجد بأصابعه كلما واجهته عملية حسابية. وكانت قراءة أي كتاب أو صحيفة تتطلب جهدًا جبارًا...".

بعد أن يئس القس من تعليمه أصبح يقوم كزنتوفيك بالأعمال المنزلية، وحين يفرغ منها يجلس وحيدًا دون أن يصدر أي صوت أو سؤال إلى أن جاء اليوم الذي أظهر مهارته في لعبة الشطرنج عندما غلب ضابط الشرطة، وبعدها جميع لاعبي القرية في الشطرنج ما جعله يصبح مشهورًا، حتى أن القس عندما ربح كزنتوفيك على ضابط الشرطة صاح مبهورًا "يا لها من معجزة، لقد نطق حمار النبي بلعام"، مهارة كزنتوفيك في هذا السن على رقعة الشطرنج دفعت بمتعهد الحفلات كولر لتبني نفقات تعليمه اللعبة في فيينا عند أحد أهم لاعبي الشطرنج، والتي اتقنها الطفل خلال ستة أشهر لينطلق بعدها إلى عالم الشهرة.

يعكس ستيفان زفايغ في شخصية كزنتوفيك صورة فاقعة لغرور النفس البشرية التي وجدت في حروب بيادق الشطرنج فرصة للانتقام، والشعور بفخر النصر،  فهو مثلما كان صغيرًا عندما أصبح عمره 21 عامًا، وصار بطلًا عالميًا في لعبة الشطرنج بقي يحمل معه صمته الذي لم يحاول كسره إطلاقًا، لا بل على العكس فنظرة الخجل التي ظهرت على ملامح وجهه حين هزم ضابط الشرطة تحولت في شبابه لنظرة استخفاف بالآخر، ويقابلها نظرة ذاتية مفرطة لشخصه رغم أنه لم يسمع يومًا بوجود فنانين عباقرة كرامبرانت، وبيتهوفن، لذا لم يكن "من الغريب أن يمتلأ بذاته إذن، طالما أنه لا يشك لحظة في وجود قيم أخرى في العالم غير الشطرنج والمال".

أن تتعلم فن الشطرنج في المعتقل

على ظهر السفينة المبحرة إلى بيونس آيرس شاهد راوي القصة لأول مرة كزنتوفيك بعد أن سمع أخباره في الصحف إلا أنه كان يتفادى التصادم أو الحديث مع الركاب – أي كزنتوفيك – رغم محاولة الراوي على مدى ثلاثة أيام التقرب منه، وعلى ظهر السفينة نفسها اجتمع الراوي مع المهندس الاسكتلندي ماك كونور الذي يقال إنه جمع ثروته من التنقيب عن النفط في كاليفورنيا الأمريكية، إذن نحن هنا أمام شخصية ثانية مليئة بحبها للمال، لكنها تصور الإنسان الذي يسعى لامتلاك أي شيء في المال الذي حصله من عمله، والذي وصل بمنقب النفط الاسكتلندي لدفع مبلغ 250 دولار أمريكي للعب مباراة واحدة مع كزنتوفيك لأن مدير أعماله أخبره ألا يلعب الشطرنج دون مقابل مالي.

كانت "لاعب الشطرنج" رسالة ستيفان زفايغ إلى الإنسانية جمعاء بعد أن فقد الأمل في الإنسان كما حلم به ودافع عنه

حدد موعد المباراة في اليوم التالي الساعة الثالثة، وحضرت مجموعة من الأشخاص لمشاهدة المباراة التي كان لا بد على بطل الشطرنج من التعامل مع مجموعة اللاعبين اتحدوا لمواجهته قابلهم باستخفاف شديد. كان ينقل بيدقه ويذهب إلى النافذة دون أن ينظر إليهم، وعندما يقومون بتحريك بيدقهم كانوا يعلمونه بذلك عبر الطرق بالملعقة على كأس زجاجي من دون أن يجلس أو ينظر إليهم تمكن كزنتوفيك من هزيمتهم، وفي المباراة الثانية أثناء جدالهم على نقل بيدق الفيل أطل رجل من بين الجمع فوق رأسهم وأخبرهم بالحركة الصحيحة التي تمكنهم من إنهاء المباراة بالتعادل تجنبًا للهزيمة، وكانت هذه المرة الأولى التي ينظر فيها كزنتوفيك عند عودته لخصومه، أراد أن يعرف من هذا الوافد الجديد الذي نصب فخ التعادل محطمًا غروره لأول مرة أمام زمرة من الهواة.

اقرأ/ي أيضًا: لبيدرو مايرال.. في مديح النقصان

لم يكن هذا الشخص إلا السيد (ب) الذي كان يدير مكتبًا للمحاماة مع والده في فيينا قبل أن يدخلها النازيون، حيثُ كان مكتبهم يدير ثروة العائلة الملكية بسرية تامة في الوقت الذي كانت النازية شرعت بتجنيد المهمشين في البلدان المجاورة كجواسيس لها، وكان من نصيب مكتبهم أحد الجواسيس المجندين من قبل الشرطة السرية الألمانية إبان تلك الحقبة، وعندما دخل النازيون فيينا لم يرسلوا بعض المعتقلين إلى معسكرات الاعتقال التي أنشأوها، بل قاموا باعتقالهم في غرف داخل فندق "الميتروبول" حتى يتمكنوا من الحصول على معلومات حول الثروات التي يحتفظون بها.

وفي إحدى المرات التي سيق فيها (ب) للتحقيق قام على غفلة من الشرطة الألمانية بسرقة كتاب موضوع على الرف، وعندما عاد للغرفة وجد أنه كتاب يتحدث عن أشهر 150 مباراة شطرنج بين أشهر اللاعبين، في البداية ساده شعوره بالهزيمة من موضوع الكتاب لكنه مع الوقت تحول إلى مدمن على اتقان الخطط المذكورة في متنه، وصنع من الخبز والغطاء الصوفي رقعة وبيادق علمته فنون حرب الشطرنج التي كان يلعبها سابقًا لتمضية الوقت، لكنها مع مرور الوقت أصابته بهيستريا أوصلته إلى مراحل متطورة من الهلوسة جعلت الطبيب يمنعه من لعبها نهائيًا لأن ممارستها ستوصله إلى الجنون.

الهزيمة الأولى لبطل الشطرنج العالمي كزنتوفيك

في اليوم الثاني بتمام الساعة الثالثة اجتمع كزنتوفيك والسيد (ب) في نفس المكان على متن السفينة في أجواء مليئة بالتحدي، اليوم السابق قدِم كزنتوفيك إلى الموعد متأخرًا 10 دقائق، لكنه في مباراته مع السيد (ب) جاء بالموعد المحدد، وأمام أعين الجميع تمكن الرجل الذي أتقن خطط اللعبة التي تحتاج لكثير من التفكير من هزيمة كزنتوفيك لأول مرة، لكن المباراة الثانية لم تكتمل انتهت بعد أن أصاب السيد (ب) نوبة هيسترية ذكرته بفترات المعتقل النازي.. انتهت بطلب من الراوي للسيد (ب) بإيقافها بعد أن أصيب بحالة جنونية جعلته يخاطب بيادق كزنتوفيك على رقعة الشطرنج بشكل مختلف عما كانت متوزعة عليها، وكان كزنتوفيك أخر رجل نهض من على كرسيه بعد أن رمق المباراة التي انتهت في بدايتها بنظرة أخيرة، وكانت أخر كلماته "على الرغم من كونه من الهواة، فإن له موهبة مذهلة".

قبل انتحاره بخمسة أسابيع كتب ستيفان زفايغ لصديقه هرمان كيستن "ليس هناك شيء مهم أقوله عن نفسي. كتبت قصة قصيرة حسب أنموذجي المفضل البائس، وهي أطول من أن تنشر في صحيفة أو مجلة وأقصر من أن يضمها كتاب وأشد غموضًا من أن يفهمها جمهور القراء العريض وأشد غرابة من موضوعها في حد ذاته"، إذ أن رواية "لاعب الشطرنج" لم تتجاوز في متنها القصي أكثر من 75 صفحة، لكنها كانت رسالة ستيفان زفايغ "إلى الإنسانية جمعاء بعد أن فقد الأمل في الإنسان كما حلم به ودافع عنه، الإنسان الذي تحول إلى آلة تدمير لا هاجس لها غير السيطرة والربح.." ربما تكون هذه الكلمات التي كتبها مدقق الرواية شوقي العنيزي على غلافها الخلفي، بمثابة الوصف المختصر لسيرة السيد (ب) ولاعب الشطرنج الذي تحول من خادم في منزل قس إلى بطل عالمي، لا يلاعب خصومه إلا بمقابل مادي يعززه بنشوة النصر بعد ظنه بأنه لا يمكن لأحد هزيمته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"آخذك وأحملك بعيدًا"..رواية عن بؤساء إيطاليا

مقطع من "المتطوعون".. رواية مواسير سكلير