05-مايو-2022
تاريخ إشكالي للسجال حول الإجهاض في الولايات المتحدة (أ.ف.ب)

قبل أيام فقط، كشف تقرير نشرته صحيفة بوليتكو عن نية المحكمة الأمريكية العليا، إصدار قرار تاريخي، يتراجع عن تشريع الإجهاض، ويمنح كل ولاية الحق بحظره أو تشريعه للنساء، وهو ما يعني عودة الولايات المتحدة إلى الحالة القانونية التي كانت سائدة قبل حوالي نصف قرن. هذا القرار يحظى بأهمية كبيرة، بالنظر إلى أن السجالات حول الإجهاض في الولايات المتحدة، متشابكة، وترتبط بأشكال مختلفة من الاستقطاب السياسي والديني والعنف العرقي والميليشيات المسلحة، وحتى بالحرب على الإرهاب.

السجالات حول الإجهاض  متشابكة، وترتبط بأشكال مختلفة من الاستقطاب السياسي والديني والعنف العرقي، وحتى بالحرب على الإرهاب

المفارقة الأساسية التي تضمنها هذا التاريخ الشائك، هو العلاقة الوثيقة بين حركات محاربة الإجهاض، أو ما تم الاصطلاح عليه بحركات "نصرة الحياة" Pro-life movement، وبين تراث العنصرية والتفوق الأبيض الأمريكي، وبين عمليات اغتيال السود واليهود والسكان الأصليين. وكما تقترح كارول ميسون  في كتابها بالإنجليزية "القتل من أجل الحياة: سرديات نهاية العالم في خطاب حركات نصرة الحياة"، فإن السؤال الذي يظل ملحًا فيما يتعلق بهذا التاريخ  العنصري للإجهاض، هو كيف يمكن لمن يدعي حماية "الحق في الحياة" أن يدافع عن الاغتيال باسم إنقاذ الأرواح؟

القتل من أجل الحياة

القتل من أجل الحياة

دخلت مسألة الإجهاض نطاق الاستقطاب في أمريكا في فترة مبكرة، مع الصراعات الطائفية وأسئلة الهجرة والأغلبية الديموغرافية. كما أنها كانت جزءًا من الوصف العام ضد فئات عرقية، النساء السود والأصلانيات على نحو خاص، على أنهن متخلفات وغير جديرات بالأمومة، وفاشلات في إدارة أجسادهن. وهذه البلاغة العنصرية هي امتداد للغة الخبراء الاستعماريين البيض في أفريقيا وآسيا و"العالم الجديد"، حيث وصفوا، قلقين من تراجع "مخزون" العمالة الرخيصة في المستعمرات، الإجهاض بأنه انتحار عرقي، وقلة مسؤولية تجاه الحياة، وغياب للتحضر.

في التاريخ الأمريكي الحديث، وتحديدًا ما بعد الحرب الباردة، انتقل الاستقطاب حول مسألة الإجهاض تدريجيًا إلى خطاب قومي أبيض يؤمن بالتفوق. حيث اجتمعت الجماعات المتشددة المناهضة للإجهاض والجماعات القومية البيضاء معًا بشكل لافت في التسعينات عندما اتخذ جناح من الحركة المناهضة للإجهاض قرارًا بتشكيل جماعة مسلّحة، بالتعاون مع دعاة التفوق الأبيض والنازيين الجدد.

وعلى هذا النحو، كما تشرح ميسون في كتابها، فقد تم تصوير تشريع الإجهاض على أنه نهاية مروعة للعالم (Apocalypse)، ونوع من الديستوبيا البيضاء التي تعتمد على قلق من نهاية الهيمنة البيضاء والمخاوف الديموغرافية. كما أصبحت حركات مناصرة الحياة منخرطة مع عصابات جريمة منظمة واستهداف عرقي مثل حركة "كو كلوكس كلان" (KKK)، التي تستهدف بالأساس السود واليهود والسكان الأصلانيين والمسلمين والمثليين والملحدين. وفي هذا الوقت، استهدفت جماعات مسلّحة عديدة بما في ذلك ميليشيات متعاونة مع KKK عيادات إجهاض وأطباء ومؤسسات تنظيم الأسرة، كما وصفت الإجهاض بطريقة معادية للسامية باعتباره مدرًا للأرباح لليهود.

لاحقًا، سيتم ربط معاداة الإجهاض بالموقف المناهض للهجرة وبخطابات معادية للإسلام، وبالتهويل من المخاوف الديموغرافية. على سبيل المثال، كان هذا واضحًا في خطاب العديد من السياسيين الأمريكيين البيض من اليمين المتطرف، مثل النائب ستيف كينج، وهو شخصية برزت كرمز لكل من التفوق الأبيض ومعارضة الإجهاض. صرح كينغ حسب تقرير لمجلة "ذا نيشن": "إذا واصلنا إجهاض أطفالنا واستيراد بديل لهم على شكل شباب عنيفين، فإننا نستبدل ثقافتنا وحضارتنا".

الإجهاض والحرب على الإرهاب

في وقت مبكر من عام 2002، أعلن جورج بوش الابن في خطاب أمام الصحافة، الـ22 من كانون الثاني/يناير يومًا وطنيًا للحياة الإنسانية المقدسة National Sanctity of Human Life Day. في هذا الخطاب، أكد الرئيس الأمريكي بأن الأمة الأمريكية تأسست على حقوق لا تنازل عنها، وعلى رأسها الحق في الحياة. كانت هذه البلاغة جزءًا من مجادلة محافظة أعلن من خلالها دعمه لحركة محاربة الإجهاض، أو "نصرة الحياة". أصر بوش على أن الحق في الحياة يشمل "المواطنيين" الأمريكيين الذين لم يولدوا بعد، الأطفال المحتملين الذين قد يتعرضون للإجهاض، والذين وفق الخطاب، يجب حمايتهم بالقانون.

الحياة كفائض

ما ميز هذا الخطاب على نحو خاص، هو تنقله السريع والسلس بين الحرب على الإجهاض والحرب على الإرهاب، باعتبارهما معًا دفاعًا عن الحياة الأمريكية. فأحداث 11 أيلول/سبتمبر، حسب الرئيس المحافظ، "دفعت الشعب الأمريكي إلى حرب غير محددة المدة للحفاظ على الحياة نفسها وحمايتها". كما تقترح ميليندا كوبر في كتابها بالإنجليزية "الحياة كفائض: التكنولوجيا الحيوية والرأسمالية في زمن نيوليبرالي"، فإن هذا الخطاب ينتهي إلى صورة صادمة، "يظهر فيها الأطفال الذين لم يولدوا بعد، وكأنهم ضحايا أبرياء لعمل إرهابي محتمل". ستنتهي هذه "الحرب العادلة" كما هو معروف، إلى مآسِ هائلة. سيموت مئات آلاف الأطفال العراقيين والأفغان، في حرب تدافع، ربما بشكل رمزي، عن حق أطفال آخرين، لم يولدو بعد في الحياة.

بالتأكيد فإن خطاب بوش طرح سؤالًا أوليًا ومباشرًا عن حملات "نصرة الحياة" والسياقات العنصرية والعرقية التي نشأت فيها، وهو: حياة من تلك التي تستحق النصرة؟ في هذا الخطاب المليء بالمفارقات، يصبح الأطفال الذين لم يولدو بعد ذوات دستورية، لها حقوق على الدولة وفي القانون، وتأمين صحي، ترتبط أجسادهم التي لم تتشكل بعد، بقيم الدولة الأمريكية. أما المفارقة الأكبر، فأن هذا كله حدث في اللحظة التي قامت بها السياسات الأمريكية بنزع أي صفة قانونية عن ملايين البشر، في حالة استثناء مفتوحة، تم تبرير الجرائم من خلالها باعتبارها لا تخضع للنظم القانونية الأمريكية. فُتحت سجون من الأبشع في العالم خارج الحدود والقيم الأمريكية، في غوانتنامو وأبو غريب وغيرهما، وتدرب المحققون الأمريكيون والجنود المبتدئون الأوروبيون والأستراليون كما تظهر تقارير، على تقنيات القتل والتعذيب من خلال أجساد المعتقلين العارية من أي صفة قانونية. وفي نفس الوقت الذي أصبحت فيه أجساد الأطفال الأمريكيين التي لم تتشكل من لحم ودم بعد، أجسادًا قانونية لها حقوق وقيم، تم نزع القانون والحقوق والقيم عن أجساد أخرى من لحم ودم.

جوديث بتلر: حوار حول الجندر ومنهجها في التحليل - حاورها: د. يوسف الصمعان •  مجلة حكمة

ستمتد المفارقة التي تضمنها خطاب بوش على طول السنوات العشرين التالية. ستفتح نقاشات طويلة عن العدالة العرقية والحياة المتساوية وعن حياة السود التي (لا) تهم، وستكون الحركات المناهضة للإنجاب في المعظم في الصف المعادي للحياة – الحياة غير البيضاء بطبيعة الحال. ستتكشف تقارير مفجعة عن فضائح الحرب على الإرهاب، وسيتحدث المسؤولون الأمريكيون عن مئات آلاف الأطفال الذين ماتوا في حروبهم كأعراض جانبية. ستنخرط نفس الإدارات الأمريكية "المؤيدة للحياة" في حملات من القتل والتدمير الممنهج، وسيتم اغتيال وسرقة آلاف الأطفال السود والأصلانيين في تقارير موثقة. سيفصل أطفال عن عائلاتهم على الحدود المكسيكية مع الولايات المتحدة، وستستمر هذه الإدارات في خضم نضالها لحماية الحياة المحتملة، في سرقة الحياة القائمة.

ستنخرط نفس الإدارات الأمريكية "المؤيدة للحياة" في حملات من القتل والتدمير الممنهج، وسيتم اغتيال وسرقة آلاف الأطفال السود والأصلانيين

لكن ما هي الحياة سوى مسألة استحقاق، كما تسأل جوديث بتلر. فالفصل بين ما هو حياة وما هو ليس حياة ليس فصلًا بيولوجيا، ولا تستطيع أجهزة المختبرات تقديم إجابة حوله.  ليس إلا سؤال أهلية، سؤالًا عن الحق في الوجود. هنا، يموت آلاف السود والسكان الأصليين كل سنة فقط لأنهم لا يملكون أي وصول إلى الرعاية الصحية، ويمنح جورج بوش تأمينًا صحيًا حكوميًا للأطفال غير المولودين. يموت ملايين الأطفال دون أن يمثل موتهم فقدانًا للحياة أو خسارة في خطاب النخب الأمريكية، لكن أطفالًا لم يولدوا يملكون حياة يجوز التباكي عليها، ويصبح التحسر عليها جزءًا من استقطاب سياسي ضخم، وجزءًا من وعود صناع السياسة الأمريكيين، بل ومن قيم الأمة، والأهم مبررًا لشن حرب استمرت لعقود ولا تزال مستمرة.