13-أكتوبر-2017

يصنع المال الأسود مستقبلًا مضطربًا للديمقراطية الأمريكية (آندي كاتس/ Getty)

"ليست كل الأشياء كما تبدو"، وليست ديمقراطية الحلم الأمريكي كما تبدو ويُروّج لها، فهي بالأحرى ديمقراطية المال الأسود، تُباع وتُشترى بالتداخل، المنذر للخطر، بين المال والسياسة، كما تقول مجلة "the world weekly"، التي نشرت تقريرًا حول الدور النافذ للمال في النظام السياسي الأمريكي وتأثيره على ما يُمكن تسميته بـ"وهم الديمقراطية" الأمريكية، ننقله لكم مترجمًا في السطور التالية.


بعد نشر عدد من التقارير الصحفية التي تفضح تاريخ المنتج الهوليوودي الشهير هارفي واينستين، المليء بالجرائم الجنسية، كان الديمقراطيون من بين الأصوات الأكثر صخبًا في انتقاد الرجل، ويرجع السبب في ذلك إلى أن واينستين قد سبق وأن تبرع بما يزيد على مليون دولار لشخصيات سياسية ليبرالية منذ عام 2000، بالإضافة لـ1.5 مليون دولار في شكل "تبرعات" غير مباشرة.

إلى جانب جرائمه الجنسية، يُعرف المنتج الهوليوودي هارفي واينستين بدعمه للديمقراطيين بملايين الدولارات!

عقبَ ذلك موجة من استنزاف أموال واينستين في تمويل اثنين من المرشحين الديمقراطيين المحتملين للسباق الرئاسي القادم عام 2020، وهما كوري بوكر وإليزابيث وارن، إذ لُوحظ توجيه حجم كبير من تبرعات واينستين إلى الجمعيات الخيرية النسائية.

اقرأ/ي أيضًا: دفع أمريكا لاستحضار صورتها

وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن الجرائم المُتهَّم بها واينستين، كانت بمثابة السر الذي يعلمه الجميع منذ زمن طويل، وهو ما يثير تساؤلات كثيرة حول سبب استمرار الديمقراطيين في استجداء دعمه طوال هذه الفترة، وإلى أي مدى كان الخطاب الجماهيري للحزب المدافع عن الحقوق المدنية، مُجرد قناع زائف يُخفِي ورائه منطق انتهازي يرحب بأي شخص يساهم في الدعم المالي للحزب؟

منذ صدور القرار التاريخي للمحكمة العليا عام 1976، اعتبرت الديمقراطية الأمريكية أن إنفاق المبالغ الطائلة على الحملات الانتخابية، حق دستوري يكفله حرية التعبير.

وفي عام 2010، ساهمت حالاتان في بروز هذه الظاهرة بشكل كبير، الأولى عندما أصدرت المنظمة الفيدرالية "سيتيزنز يونايتد - Citizens United" مجموعة من القرارات المقيدة التي تمنع الشركات والنقابات من الإنفاق حسب أهوائها أو رغباتها عند خوض الانتخابات. أما الحالة الثانية، فعندما ألغت منظمة Speechnow.org الحدود الموضوعة للإنفاق على التبرعات الخاصة بالفئات المستقلة.

ثمة شروط محددة ودقيقة لتنظيم الحملات الانتخابية السياسية في حد ذاتها، تحكمها قواعد صارمة في تحديد الحد الأقصى للتبرعات الممنوحة، بالإضافة إلى الإفصاح الكامل عن بيانات المانحين. ولكن وفقًا لما صرحت به إيميلي تشارنوك، خبيرة شؤون جماعات المصالح داخل السياسة الأمريكية بجامعة كامبريدج، لمجلة The World Weekly، فإن أحكام عام 2010 سمحت للجماعات الخارجية بدعم مُرشحين معينين ماليًا بقدر ما يريدون، طالما لا يشتركون أو يُنسقون فعاليات مباشرة بالحملة الانتخابية للمرشح، وهكذا نشأت "Super PACs" أو لجان العمل السياسي الضخمة.

بلغ إجمالي نفقات "Super PACs" منذ ظهورها عام 2010، ما يقرُب من 1.8 مليار دولار، على تمويل الحملات الانتخابية في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى استفادة هذه المُنظمات غير الهادفة للربح من أحكام المحكمة العليا، ما سمح للمنظمات الاجتماعية مثل، الاتحاد القومي للسلاح، وجمعية تنظيم الأسرة الأمريكية، بجمع الأموال لأغراض سياسية. وبالفعل بعد فترة وجيزة من هذا القرار المخطط إنفاذه عام 2018، أنفقت هذه الجمعيات 48 مليون دولار للتأثير على الدورة الانتخابية المقبلة.

أعضاء الكونجرس كمندوبي تسويق

من الناحية النظرية، تُنتخب الشخصية السياسية من أجل تمثيل ناخبيها. ولكن شبكة "سي بي إس - CBS" نشرت تقريرًا إخباريًا عام 2016، يشير إلى أن أعضاء الكونجرس قد أصبحوا بالفعل بمثابة مندوبي تسويق عبر الهاتف، إذ كانوا يقضون أكثر من نصف أوقاتهم في جمع التبرعات لحملتهم القادمة. وقد أشارت التقارير الواردة من كلا الحزبين إلى أن الأعضاء الجدد يتقدمون إلى الكونغرس بمبالغ متوقعة من التبرعات، خاصة المرشحين ذوي الفرص الضعيفة. وبغض النظر عن وعود المرشح بإحداث فارق، يبقى تحقيق النجاح على المستوى الفيدرالي مرهونًا باستمرار جمع التبرعات.

ويُعد أقطاب هذه الثقافة هم المانحين الأغنياء، فمن الممكن أن يهاجم أعضاء الكونغرس هؤلاء المانحين هجومًا شديدًا، إلا أنه بمجرد التوصل لاتفاق، تزداد منافعهم المشتركة. فليس من قبيل الصدفة أن تكون معظم مشاريع القوانين المُقدمة خلال هذا الفصل التشريعي للمطالبة بوضع حد للقيود المفروضة على صناعة الفحم، هي من عضوة الكونغرس الجمهورية عن ولاية وايومينغ، ليز تشيني، وهي أحد أكبر المستفيدين من أموال صناعة الفحم خلال عام 2017 حتى الآن.

على الجهة الأخرى كذلك، جاء الصدى الهائل لمطالبات الملياردير توم ستير الأخيرة للأعضاء الديمقراطيين في الكونغرس، بالتعهد باتهام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إذا نجحوا في انتخابات التجديد النصفي العام المقبل ، نتيجة لحجم التبرعات الضخم التي قدمها للحزب، والتي تتضمن ما يقرب من 90 مليون دولار إلى "Super PACs" وإلى المنظمات غير الهادفة للربح عام 2016، مهددًا بتقليص الدعم المقدم إذا رفضوا.

توم ستير متحدثًا في المؤتمر الوطني العام للحزب الديمقراطي (أليكس وونغ/ Getty)
توم ستير متحدثًا في المؤتمر الوطني العام للحزب الديمقراطي (أليكس وونغ/ Getty)

توصلت دراسة أجرتها منظمة "مواطنون من أجل المسؤولية والأخلاق" في واشنطن عام 2015، إلى أن النواب يقضون وقتًا أطول بنسبة 200% في لقاء المانحين الرئيسيين، أكثر من أي شخص آخر. وخلال عطلة الكونغرس في شباط/فبراير، فَوَّت بعض الجمهوريين بعض الاجتماعات المقررة مع الناخبين، وبدلًا من ذلك، اختاروا قضاء أوقات مع المانحين الأغنياء. وقد سمح السيناتور، جون باراسو،  باستخدام مبنى بلدية وايومينغ لجمع تبرعات لمنتجع للتزلج، بحد أدنى للتبرع 1500 دولار للفرد. كما غض رئيس مجلس النواب، باول ريان، الطرف عن استخدام مبنى بلدية ويسكونسن من قبل المؤسسات المانحة للتبرعات في ميامي مقابل 10 آلاف دولار.

يقول جوش سيلفر، مدير منظمة "Represent.us" لمكافحة الفساد، إن "الكونغرس له مصالحه الخاصة"، موضحًا: "تنحصر كافة النقاشات الخاصة بالسياسات العامة تقريبًا بين مصالح الأغنياء المتعددة، أما المصلحة العامة فتأتي بعد ذلك".

ديمقراطية خارج السيطرة

وبالفعل، عندما تَخفى على الناخبين المصالح الدافعة للاستثمار، يصير بالإمكان التستر على الرسائل السياسية. وأوضحت شيلا كرومهولتز، المديرة التنفيذية لمركز "السياسة الاستجابية - Responsive Politics"، أثناء شهادتها أمام لجنة السياسة والاتصالات بمجلس الشيوخ، في حزيران/يونيو، مسار "المال الأسود" في الانتخابات الأمريكية، إذ تسمح قدرة المؤسسات غير الربحية على إخفاء الجهات التي يتلقون منها أموالهم بتمويل مجهول وغير محدود للرسائل السياسية.

"المال الأسود" مجهول المصدر، يلعب دورًا بالغ الأهمية في تحديد مسار العملية الانتخابية في الولايات المتحدة

وعلى سبيل المثال، شهدت الانتخابات الخاصة في ولاية جورجيا منح شبكة العمل الأمريكية، صاحبة "المال الأسود"، مبلغًا قدره 3.5 مليون دولار لصندوق القيادة بالكونغرس وهي لجنة جمهورية خاصة لتقييم المشاريع، وذلك بغية تمويل حملة إعلانية شرسة ضد المرشح الديمقراطي جون أوسوف، سعيًا لربطه "بممارسات العنف والفوضى الليبرالية".

وقالت شيلا، إن الناخبين "يقيمون الحملات ووسائل تواصلها بشكل منطقي، عندما يكون لديهم معلومات حول مروجي هذه الرسائل"، بينما على الجهة الأخرى، يسفر التمويل المجهول عن "سلب قدرة الناس على التفكير النقدي في الرسائل وربما استبعادها"، على حد قولها.

اقرأ/ي أيضًا: الديمقراطية.. على حافة الهاوية

تزداد منظمات "المال الأسود" انتشارًا. وقد سعت مؤسسة "أميركيون من أجل الازدهار" التابعة للشقيقين كوخ، جاهدة في جميع أنحاء الولايات المتحدة لتعطيل أية محاولات لتشديد اللوائح المتعلقة بجمع التبرعات. ففي داكوتا الجنوبية، على سبيل المثال، ضغط الشقيقان اعتراضًا على إجراء  يقترح خفض حدود التبرعات، بالإضافة إلى المزيد من الشفافية فيما يتعلق بالجهات المانحة والتمويل العلني للانتخابات.شهد هذا التشريع موافقة 52% من جمهورالناخبين، إلا أنه تم التراجع عنه في نهاية المطاف بسبب سلسلة من الاعتراضات القانونية من جماعات الضغط المحافظة المستقلة.

يرى جوش سيلفر، أن ذلك يُعد "فشلًا في نظام الديمقراطية الأمريكية"، مُضيفًا: "يدرك الليبراليون والمحافظون أن المؤسسة تستغلهم، لكنهم لا يعرفون السبب ولا كيفية معالجة الأمر".

ظهور ترامب

أقسم دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية، على "تجفيف المستنقع"، إلا أن هذا الوعد يبدو أنه قد ذهب أدراج الرياج في اللحظة التي وضع فيها ترامب قدمه في البيت الأبيض.

استمتعت جماعات الضغط التجارية الكبرى باقتناص الفرص لتشكيل السياسة تحت إدارة ترامب، فقد شهدت وكالة حماية البيئة (EPA) وحدها سلسلة من التعيينات غير الأخلاقية تقريبًا، من ضمنها تعيين "عدو البيئة" المشهور مايرون إبيل، رئيس معهد المشاريع التنافسية الليبرالي المدعومة من كوخ، ليكون رئيسًا للوكالة في فريق ترامب الانتقالي، وكذا ترشيح المدافع عن صناعة الفحم، أندرو ويلر، نائبًا للوكالة.

كذلك كشفت الوثائق التي حصلت عليها مؤخرًا جماعة الرقابة الحكومية، المعروفة باسم "أمريكان أوفرسايت"، عن أن جدول رئيس وكالة حماية البيئة سكوت برويت، هيمنت عليه اللقاءات مع أعضاء جماعات الضغط للصناعات غير المتجددة، مقارنة بأنصار البيئة. فعلى سبيل المثال، في الأسبوع الأخير من نيسان/أبريل الماضي، وفي غمار الاجتماعات الوزارية العامة، عُقدت جلسات مع الجمعية الوطنية للتعدين، وكبار المديرين التنفيذيين في مجال صناعة السيارات، والتحالف صاحب الاسم المضلل "استعادة ممراتنا المائية"، وهي مجموعة للصناعات الكيميائية تسعى إلى إرساء قواعد تنظيف جديدة. ويُعرَف برويت بتشكيكه في المناخ وآثاره، مستخدمًا دوره السابق كمحام عام في أوكلاهوما، للعمل في مجال الوقود الحفري لعرقلة اللوائح الفيدرالية.

إلا أن ما يظهر حتى الآن، هو أن جماعات الضغط هذه قد حصدت تشريعات مناسبة من هذه العلاقات. وفي الواقع، فإن انسحاب إدارة ترامب من اتفاقية باريس للمناخ، والإنهاء المُقترح لخطة الرئيس أوباما للطاقة النظيفة، يَعِدان بازدهار ملحوظ للصناعات غير المتجددة.

وصرحت شيلا كرومهولتز لمجلة "The World Weekly" بقولها، إن ازدراء ترامب "للإفصاح والمساءلة"، قد أضفى نكهة فريدة على عملية تسييل الديمقراطية، أو تحويلها إلى نقود. فمنذ تنصيب ترامب، استضاف فندق ترامب إنترناشونال في واشنطن -والذي رفض ترامب التخلي عن فوائده- مجموعات صناعية مثل الجمعية الوطنية للتعدين ومعهد البترول الأمريكي، إلى جانب مجموعة من كبار الشخصيات الأجانب مثل الرئيس الروماني كلاوس يوهانيس. وتشير الزيادة المفاجئة في أسعار الغرف في عام 2017 عن الأسعار المتوقعة، إلى عالم غامض من المصالح المالية المحيطة بترامب.

افتتاح ترامب لفندقه في واشنطن (جابين بوتسفورد/ واشنطن بوست)
افتتاح ترامب لفندقه في واشنطن (جابين بوتسفورد/ واشنطن بوست)

مستقبل مضطرب

هناك إجماع كبير على أهمية المال ودوره في الفوز بالانتخابات، لكن الخلاف يكمن في كيفية إصلاح الوضع الراهن. تقول شيلا كرومهولتز مديرة مركز السياسة الاستجابية: "إلى أن يتبنى الجمهور الأمريكي التمويل العام، فإن الصفقة التي يقبلون بها حاليًا تتمثل في تقديم المهتمين والمانحين السريين المال للمرشحين"، مُضيفةً: "وبقبول ذلك كحق دستوري خاضع للحماية، فستقع مسؤولية مراقبة تضارب المصالح وحماية النظام من الفساد على كاهل الناخبين".

فيما يرى سيلفر مير منظمة "Represent.us"، أنه على الأمريكيين الذهاب أبعد من ذلك ،واتخاذ اللازم من أجل "تصحيح مسار الديمقراطية الأمريكية". هذا وتضم مجموعة Represent.us أفرادًا من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري، يعملون على تنسيق "حركة شعبية لتغيير قوانين تصويت الأمريكيين، وطريقة حكم الساسة"، وهم يعملون من خلال فروعهم المنتشرة في أنحاء أمريكا (أكثر من 40 فرعًا)، من أجل حظر تبرعات جماعات الضغط للسياسيين، والكشف الكامل عن جميع مصادر المال الأسود.

تسيّد المال الأسود للموقف في  النظام السياسي وتأثيره النافذ عليه، يرسم مستقبلًا مضطربًا للديمقراطية الأمريكية

وبغض النظر عن ذلك، فالديمقراطية النقدية، حيث يلعب المال دور البطولة في التأثير على النظام الديمقراطي؛ ترسم مستقبلًا مضطربًا للديمقراطية الأمريكية، وقد أظهرت دراسة أجريت في جامعتي هارفارد ويوتا في عام 2013، أن فكرة تخلُل المال عبر السياسة، أضعفت أخلاقيات الأشخاص، إذ تسببت تحليلات الجدوى الاقتصادية في حجب المعايير الاجتماعية للأخلاق. كما أن استمرار الاعتماد على الأثرياء يضع مبادئ جميع الأحزاب في خطر. وفي نهاية المطاف، هل يحقق الحزب السياسي ربحًا حقيقيًا إذا جنى ثروة، وباع روحه في المقابل؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

مرة ثانية.. أمريكا تنسحب من اليونسكو بسبب المال والانحياز إلى إسرائيل!

حلفاء الأمس أعداء اليوم.. 5 أسباب وراء انقلاب رجال الأعمال على ترامب