17-يناير-2017

الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب (درو أنجرير-Getty)

يمثل الصعود العالمي للشعبويين تهديدًا خطيرًا لحقوق الإنسان، والتي توجد لحماية الشعوب من حكوماتها. لكن اليوم، يعكس جيلٌ جديد من الشعبويين هذا الدور. مدعين التحدث باسم "الشعب"، يتعامل الشعبويون مع الحقوق كعائقٍ أمام تصورهم لإرادة الأغلبية، عقبةٌ لا داعي لها أمام الدفاع عن الأمة في وجه الأخطار والشرور المتخيلة. بدلًا من قبول أن الحقوق تحمي الجميع، هم يشجعون الناس على تبني اعتقادٍ خطير بأنهم لن يحتاجوًا أبدًا إلى حقوقهم ضد حكومةٍ تتجاوز دورها مدعيةً التصرف باسمهم. هكذا بدأ كينيث روث، المدير التنفيذي لمنظمة هيومن رايتس ووتش لحقوق الإنسان، مقاله بمجلة فورين بوليسي الأمريكية، والمقتبس من تقرير المنظمة الدولية بعنوان "الصعود الخطير للشعبوية" المنشور هذا الأسبوع.

مستغلة السخط، تزدهر سلالة من السياسيين عبر تصوير الحقوق على أنها تحمي فقط المشتبه به بالإرهاب أو طالب اللجوء على حساب الأغلبية

وتابع روث بأن جاذبية الشعبويين قد نمت مع تصاعد السخط الشعبي على النظام القائم. في الغرب، يشعر الكثيرون بأن التغير التكنولوجي والاقتصاد العالمي واللامساواة المتزايدة قد تركوهم بالخلف. يزرع الإرهاب الترقب والخوف. البعض غير مرتاحين تجاه المجتمعات التي أصبحت أكثر تنوعًا ثقافيًا ودينيًا وعرقيًا. هناك شعورٌ متزايد بأن الحكومات والنخب تتجاهل مخاوف الجمهور.

اقرأ/ي أيضًا: أين ينتصر الشعبويون في العالم؟..ولماذا؟

في مرجل السخط ذاك، تزدهر سلالة معينة من السياسيين عبر تصوير الحقوق على أنها تحمي فقط المشتبه به بالإرهاب أو طالب اللجوء على حساب أمن ورفاهة وثقافة الأغلبية المفترضة. إنهم يستخدمون اللاجئين ومجتمعات المهاجرين والأقليات ككبش فداء. الحقيقة هي ضحية متكررة. عداء المهاجرين وعداء الأجانب ورهاب الإسلام وكراهية النساء تتصاعد.

لكن إذا انتصرت أصوات التعصب تلك، فإن العالم يخاطر بدخول عصرٍ مظلم. لا يجب أبدًا أن نستخف بنزوع الديماجوجيين الذين يضحون بحقوق الآخرين باسمنا اليوم إلى التخلي عن حقوقنا غدًا عندما تتهدد الأولوية الحقيقية، وهي الاحتفاظ بالسلطة.

ويشير روث إلى أن حملة دونالد ترامب الرئاسية الناجحة هي تجسيدٌ حي لسياسات التعصب. بوضوحٍ أحيانًا، وعبر الرمز والمراوغة في أحيانٍ أخرى، انتهك ترامب المبادئ الأساسية للكرامة والمساواة. نمّط ترامب المهاجرين وشوه صورة اللاجئين وهاجم قاضيًا بسبب أصوله المكسيكية وسخر من صحفي من ذوي الاحتياجات الخاصة وأنكر العديد من اتهامات التحرش الجنسي وتعهد بسلب النساء القدرة على التحكم في قدرتهن الإنجابية.

نحن نشهد تضحيةً شبيهة بطالبي اللجوء ومجتمعات المهاجرين والمسلمين في أوروبا ككبش فداء. في مقدمة الهجوم تأتي مارين لوبان في فرنسا وخيرت فيلدرز في هولندا، لكن هناك أصداءً لحجج التعصب تلك في حملة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي وخطاب فيكتور أوربان في المجر وياروسلاف كاتشينسكي في بولندا وأحزاب اليمين المتطرف من ألمانيا حتى اليونان. في جميع أنحاء القارة الأوروبية، يعود المسؤولون والسياسيون إلى عصورٍ بعيدة، بل وخيالية، من النقاء العرقي القومي المتخيل، رغم وجود مجتمعاتٍ من المهاجرين يقوَّض ذلك العداء اندماجها كأعضاء منتجين في المجتمع.

ويقول روث إن ما يجعلنا أكثر عرضة للخطر هو أننا ننسى ديماجوجيي الأمس؛ الفاشيين، الشيوعيين، وأسلافهم الذين ادعوا رؤيةً مميزة لمصلحة الأغلبية لكن انتهى بهم الأمر بسحق الفرد. عندما يعامل الشعبويون الحقوق كعائقٍ أمام تصورهم لإرادة الأغلبية، فإنها فقط مسألة وقت قبل أن يستديروا إلى هؤلاء الذين لا يتفقون مع أجندتهم. مثل تلك الادعاءات بالأغلبية غير المقيدة والهجمات على التوازنات التي تقيد قوة الحكومة هي ربما الخطر الأكبر اليوم على مستقبل الديمقراطية في الغرب. إنهم يهددون بتدمير إنجازات حركة حقوق الإنسان المعاصرة.

ويشير روث إلى أن حكم الرئيس رجب طيب أردوغان متزايد الدكتاتورية في تركيا يوضح الأخطار التي يمثلها زعيم يدهس الحقوق باسم الأغلبية. لسنوات، أظهر أردوغان تسامحًا متناقصًا مع هؤلاء الذين يتحدون خططه، سواء المتمثلة في بناء حديقة في وسط إسطنبول أو تعديل الدستور للسماح برئاسةٍ تنفيذية.

في العام الماضي، استخدم أردوغان محاولة الانقلاب كمفتتحٍ لحملة قمع ليس فقط ضد من حاولوا القيام به والذين زعم أن رجل الدين المنفي فتح الله جولن هو الذي خطط لهم ولكن أيضًا ضد عشرات الآلاف من الآخرين الذين يعتبرون من أنصاره. أصبحت حالة الطوارئ المعلنة فرصة للاستدارة نحو ناقدين آخرين متخيلين كذلك، حيث قام بإغلاق أغلب الإعلام المستقل وجماعات حقوق الإنسان.

كان هناك دعمٌ واسع النطاق لحكومة أردوغان عشية الانقلاب، بالنظر إلى تنفس الصعداء الجمعي الذي شعر به الكثيرون في تركيا عقب فشله. لكن بتأسيس سابقة القمع، وبالقضاء على استقلال المحاكم ومؤسسات القانون الأخرى، لم يعد هناك شيء يقف في وجه حملة قمع متصاعدة.

اقرأ/ي أيضًا: هل تحكم الشعبوية المجتمع الغربي؟

ويردف روث أن مصر تحت حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي مرت بتطورٍ مشابه. مستائين من حكم جماعة الإخوان المسلمين القصير بقيادة محمد مرسي، رحب الكثير من المصريين بالانقلاب العسكري الذي قاده السيسي عام 2013. لكن لم يمض وقتٌ طويل حتى أصبح يحكم بدرجة قمع أكبر بكثير من دكتاتورية الرئيس حسني مبارك التي استمرت ثلاثين عامًا، والتي تم الإطاحة بها خلال الربيع العربي القصير. افترض الكثير من المصريين أنه سوف يتم استهداف الإسلاميين فقط، لكن السيسي أشرف على إغلاقٍ جذري للمجال السياسي، مغلقًا منظمات المجتمع المدني والإعلام المستقل وأحزاب المعارضة، بالإضافة إلى زج عشرات الآلاف في السجن، عادةً بعد تعذيب مع قليلٍ من الإجراءات القضائية إن حدثت.

بعد الانقلاب العسكري، افترض الكثير من المصريين أنه سوف يتم استهداف الإسلاميين فقط، لكن السيسي أشرف على إغلاقٍ جذري للمجال السياسي

تزامن صعود موجة الشعبوية باسم أغلبيةٍ متخيلة مع ولهٍ جديد بحكم الرجل القوي. إذا كان كل ما يهم هو المصالح المعلنة للأغلبية، يذهب ذلك التفكير، لماذا لا نساند الحاكم المطلق الذي لا يظهر أي ترددٍ بشأن فرض رؤيته الأغلبوية -مهما بدت أنانية- وإخضاع هؤلاء الذين يعترضون.

لكن شغف اللحظة الذي تغذيه الشعبوية يبدو أنه يعتم على الأخطار التي يتعرض لها مجتمع يحكمه رجلٌ قوي على المدى الطويل. أدار الرئيس فلاديمير بوتين، على سبيل المثال، اقتصادًا روسيًا متدهورًا مصاب بفسادٍ هائل للمحاسيب. متخوفًا من السخط الشعبي، فرض بوتين قيودًا شديدة على حريتي التجمع والتعبير، بالإضافة إلى عقوباتٍ غير مسبوقة على الاعتراض على الإنترنت، كما شل مجموعات المجتمع المدني بينما اعتمد على العديد من المغامرات العسكرية لتشتيت الانتباه عن الآفاق الاقتصادية المتدهورة في الداخل. تسبب التدخل العسكري في أوكرانيا في عقوباتٍ غربية لم تؤد إلا إلى تعميق التدهور الاقتصادي الروسي.

اتبعت الصين تحت حكم الرئيس شي جين بينغ مسارًا مشابهًا للقمع. تمتعت الصين بنموٍ اقتصادي كبير مع تحرير القادة السابقين للمواطنين اقتصاديًا من أهواء حكم الحزب الشيوعي الذي جلب القفزة الكبيرة للأمام والثورة الثقافية الكارثيتين. لكن التحرير الاقتصادي لم يصاحبه إصلاحٌ سياسي، والذي أجهِض بسحق حركة ميدان تيانامن الديمقراطية عام 1989. جعلت الحكومات اللاحقة رغبة الحزب في الحفاظ على النمو بأي ثمن من أجل الحفاظ على السخط الشعبي تحت السيطرة تحكم القرارات الاقتصادية. ازدهر الفساد مع تصاعد الظلم الاجتماعي وتدهورت البيئة. متخوفًا كذلك من تصاعد السخط الشعبي مع تباطؤ النمو الاقتصادي، اعتمد "شي" أيضًا على أكبر حملة قمع منذ حقبة تيانامن، ما جعل حكومته أقل قابلية للمحاسبة. رغم تعميد نفسه بقائمةٍ طويلة من ألقاب القيادة، يبدو ذلك الرجل القوي خائفًا باستمرار، بسبب عدم وفائه بمطالب الشعب الصيني بهواءٍ أنظف وطعامٍ أكثر أمنا وبنظامٍ قضائي عادل وحكومةٍ قابلة للمحاسبة.

اتسمت الأنظمة الاستبدادية الأخرى باتجاهاتٍ مماثلة. أصبحت الثورة البوليفارية في فنزويلا، والتي بدأها الرئيس هوجو شافيز ويقودها الآن نائبه نيكولاس مادورو، كارثةً اقتصادية لشرائح المجتمع الأسوأ حالًا التي يفترض بها خدمتهم. حتى النماذج المفترضة للتنمية السلطوية مثل إثيوبيا ورواندا عند النظر إليها عن قرب نجد أنها عامرة بالمعاناة المفروضة من قِبل النظام. نقلت الحكومة الإثيوبية المزارعين والرعاة إلى قرىً محرومة من الخدمات لإفساح المجال لمشاريع زراعية هائلة الحجم. باسم تنظيف الشوارع، جمعت الحكومة الرواندية الباعة الجائلين والشحاذين واعتدت عليهم بدنيًا في مراكز اعتقال قذرة.

 يصعد الديماجوجيون على أكتاف المغالطة في القضايا الأخلاقية، حيث يبنون الدعم الشعبي عبر نشر تفسيراتٍ مزيفة وحلولٍ رخيصة لعلل حقيقية

بدلًا من مواجهة ذلك الصعود الشعبوي، يبدو أن الكثير للغاية من القادة السياسيين الغربيين قد فقدوا الثقة في قيم حقوق الإنسان، مقدمين فقط دعمًا فاترًا. لم يكن الكثير من القادة مستعدين للدفاع بقوة عن تلك القيم، باستثناء، أحيانًا، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، والرئيس الأمريكي باراك أوباما.

يبدو الأمر كما لو كان بعض القادة قد دفنوا رؤوسهم في الرمال، آملين أن تمر رياح الشعبوية، بينما يبدو أن آخرين، إن لم يكونوا يحاولون الاستفادة من الميول الشعبوية، يأملون في أن محاكاة الشعبويين قد تبطئ صعودهم بينما هي لا تؤدي في الواقع إلا إلى تعزيز رسالتهم.

إن أفضل وسيلة لمواجهة ذلك التوجه الشعبوي هي التأكيد القوي على حقوق الإنسان. تخدم الحكومات الملتزمة باحترام حقوق الإنسان شعوبها على نحوٍ أفضل لأنها تكون أكثر قابلية لتجنب الفساد وتعظيم الذات والعشوائية التي عادةً ما تصاحب الحكم السلطوي. إن الحكومات التي قامت على حقوق الإنسان في وضعٍ أفضل لسماع مواطنيها وإدراك ومعالجة مشكلاتهم، كما أن الحكومات التي تحترم حقوق الإنسان أكثر قابلية للاستبدال عندما تصبح الشعوب مستاءة من حكمها.

في النهاية، تقع المسؤولية على عاتق الشعوب. يصعد الديماجوجيون على أكتاف المغالطة في القضايا الأخلاقية، حيث يبنون الدعم الشعبي عبر نشر تفسيراتٍ مزيفة وحلولٍ رخيصة لعللٍ حقيقية. إن أفضل ترياق هو أن تطالب الشعوب بسياسةٍ تقوم على الحقيقة والقيم التي قامت عليها الديمقراطية التي تحترم الحقوق. يزدهر الشعبويون في غياب المعارضة. إن رد فعل شعبي عنيف، باستخدام جميع الوسائل المتاحة -المجتمع المدني، الأحزاب السياسية، الإعلام التقليدي ووسائل التواصل الاجتماعي- هو أفضل دفاع عن القيم التي مازال الكثيرون يعتزون بها رغم المشكلات التي تواجهها.

لا تصبح الأكاذيب حقيقة فقط لأنها يتم نشرها من قِبل جيش من متصيدي الإنترنت (trollers) أو حشودٍ من الأنصار. إن حجرات الصدى التي تتردد فيها الأكاذيب ليست حتمية. تظل الحقائق قوية، وهو السبب الذي يجعل المستبدين يذهبون إلى أبعد مدى لفرض رقابة على هؤلاء الذين يوردون حقائق مزعجة، خاصةً تلك المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان. لذا فإن علينا جميعًا واجب التأكيد على الحقيقة في مواجهة هؤلاء الذين يفضلون حقبة ما بعد الحقيقة.

ويختتم روث مقاله بأن القيم هشة. لأن قيم حقوق الإنسان تعتمد بالأساس، يتابع روث، على القدرة على التعاطف مع الآخرين -على إدراك أهمية معاملة الآخرين بالشكل الذي نفضل أن نعامَل به- لذا فإنها ضعيفة على نحوٍ خاص في مواجهة جاذبية الديماجوجيين التي تقوم على الإقصائية. تحتاج ثقافة مجتمع تدعم احترام حقوق الإنسان إلى رعايةٍ منتظمة، حتى لا تجرف مخاوف اللحظة الحكمة التي بنت الحكم الديمقراطي. علينا جميعًا واجب، وعلينا جميعًا ألا نؤجل القيام به.

اقرأ/ي أيضًا:

هل تصمد الديموقراطية أمام شعبوية ترامب؟

ترامب يعود بأمريكا إلى أجواء 11سبتمبر