21-يونيو-2021

الشاعر والناقد محمد عبيد الله

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


محمد عبيد الله شاعر وناقد وأكاديمي من الأردن، من أصل فلسطيني، ولد عام 1969، حاصل على شهادة الدكتوراه، ودرجة الأستاذية في اللغة العربية وآدابها. من أعماله الشعرية: مطعونا بالغياب/1993، وسحب خرساء/2005، ومن دراساته: القصة القصيرة في فلسطين والأردن/2002، بنية الرواية القصيرة/2006، أساطير الأولين/2013، الصناعة المعجمية والمعجم التاريخي عند العرب/2019، رواية السيرة الغيرية/2020 وغيرها. فاز بعدد من الجوائز مثل: جائزة إدوارد سعيد للفكر التنويري ونقد الاستشراق، وجائزة كتارا للرواية العربية/حقل الدراسات النقدية.


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

نشأت في مخيم للاجئين هو مخيم الكرامة في غور الأردن، يقع على الضفة الشرقية لنهر الأردن قبالة فلسطين تماما، تحول المخيم إلى قرية زراعية بسبب طبيعة المنطقة وشق قناة الغور الشرقية في سبعينات القرن الماضي، فتحول اللاجئون إلى مزارعين بسطاء. تعلمت في مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، تعلمت القراءة والكتابة، والتقط لي ولرفاقي مصور الوكالة صورًا فيها ابتسامات مصطنعة إذ كان يهوله بؤسنا وقلة ابتسامنا، فيطلب منا أن نبتسم للكاميرا. اهتديت إلى الكتب غير المنهجية، من خلال مكتبة المدرسة، ربما بنيتي الجسدية الضعيفة نسبيًا وعدم ميلي إلى الشجار والنشاط الجسدي ألجأني إلى نشاط فكري تمثل في القراءة ثم حوّلتني القراءة إلى وجهها الآخر وهو الكتابة. أول قراءاتي كانت من تلك المكتبة الثرية التي كلما مرّت في خاطري شكرت وكالة الغوث عليها، كانت تبدو لي عالمًا غنيًا رغم فقر حياتنا وبساطتها وهامشيتها. أتذكر لم تكن الكهرباء قد وصلت المخيم/القرية، وبما أن أسرتي ذات الأصول البدوية قد امتهنت تربية المواشي والزراعة معا في حياة عجيبة مختلطة، فقد قرأت على ضوء القمر والسراج التقليدي الذي ينار بالكاز (الكيروسين) كان رفيقي لسنوات هي أجمل سنيّ قراءاتي الأولى. حتى نهاية المرحلة الدراسية الثانوية في نهاية ثمانينات القرن العشرين لم يعرف بيتنا الكهرباء، ولا المصابيح الحديثة الموجودة اليوم بكثرة بالغة. أقول هذا لأبنائي وطلبتي أحيانًا فيظنون أنني أختلق الحكايات وأن الكهرباء ويسر الحياة أمر ثابت منذ الأزل.

  • ما هو الكتاب أو الكتب الأكثر تأثيرا على حياتك؟

الكتب الأولى هي الكتب الأكثر تأثيرًا وخلودًا في النفس. أتذكر أن أول كتاب أثّر فيّ تأثيرًا وجدانيًا بالغًا رواية عنوانها "طفل من غير أسْرة" وهي لمؤلف فرنسي يدعى هكتور مالو ويبدو أن النسخة التي قرأتها من سلسلة "روايات عالمية" أصدرتها دار العلم للملايين، تفاعلت وما زلت إلى اليوم أتذكر الفتى البائس ريمي الصغير، الذي بدا لي قريبًا في السن والتجربة مني. وبكيت طويلًا عليه وعلى نفسي.

إلى جانب هذه الرواية أعجبتني الكتب الخيالية وكتب الأساطير ومنها في طفولتي مؤلفات كامل كيلاني، وعطية الأبراشي، وخاصة الكتب المحوّلة عن قصص عالمية خيالية، كنت أجد طلاقة الخيال فيها، وأجد اللغة البديعة والأسلوب العربي الذي كتب به الجيل الرائد من كتاب الأطفال والفتيان، وكانت تسمح لي أن أحلق مع أبطالها وبطلاتها بعيدًا عن الواقع الذي أعيش. القراءة صانت وجداني وحمت طفولتي. أخرجتني من بؤس اللجوء، وعندما قرأت جملة كنفاني "خيمة عن خيمة تفرق" بدا لي أن معناها وجود كتب تسلّي وتعلّم، وأنها يمكن أن تعني خيمتنا القديمة، فالقراءة كانت طريقي إلى ما صرت إليه، ولذلك أنا شغوف بها كتجربة حبّ لا تنتهي.

  • من هو كاتبك المفضّل؟ ولماذا أصبح كذلك؟

لي كتاب مفضّلون كثر، يهيأ لي أنهم عائلتي التي أجتمع بها وأحب أفرادها واحدًا واحدًا. يحضرني منهم الآن غسان كنفاني الذي قرأته في بيئة المخيم أول مرة، وقلّدت كتاباته في تدريباتي المبكرة، وكتبت مثله عن فتى لاجئ يغامر ويقطع نهر الأردن ليواجه الأعداء على الضفة المقابلة لنهر بديع عرفنا ضفته الشرقية وأقمنا بجوارها، وتطلعنا بشوق وحنين إلى الأخرى في طفولتنا. كتب غسان قصصًا وروايات وكتابات تقترب من بيئتنا ولا تفتقر إلى التحريض على الخيال، جعل من الفقراء واللاجئين المشرّدين أبطالًا، علّمنا أن نحبّ أنفسنا رغم بؤسنا، وأن الفقر والغنى مسألة نسبية وقابلة للتأويل؛ شعرت أنّ أم سعد هي أمّي أو جدّتي، وأن الكادحين أفضل من الطبقة الغنية أو المتنفّذة. قرأته في مراحل مختلفة من حياتي وما زال يأسرني ويعجبني. من الشعراء أعجبني السياب بأحزانه وصدقه، ومحمود درويش بحكم فلسطينيته وحضوره المبكر في حياتنا وقراءاتنا، مع قدرته على العمق والتجدد كلما تعمقت ذائقتنا، درويش شاعري المفضّل حتى اليوم.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

أحب أن أقرأ كتبًا أمتلكها، لأجد حرّية في الكتابة على هوامشها ووضع ملاحظاتي عليها، وكثيرًا ما أسجل ملاحظات وأنسخ فقرات أو جملًا تعجبني أو أتصوّر أنها يمكن أن تفيدني في بعض اهتماماتي البحثية والنقدية، خاصة أن قراءاتي متنوعة ومتشعّبة بحكم عملي في التعليم الجامعي والاهتمامات البحثية والأدبية التي أرتادها. ولكن أجمل الكتب التي أحببتها هي كتب إبداعية وليست دراسات أو بحوثًا، منها ما ذكرته عن نثر غسان كنفاني وشعر محمود درويش، ومنها كتب مترجمة مثل: مؤلفات فرانز فانون، ورسول حمزاتوف، ولويس أراغون على سبيل المثال.

في عقود سابقة كنت أكتب ملاحظات على دفاتر حتى لا تضيع، وقد تراكمت عندي وما زالت إلى اليوم دليلي إلى عشرات الكتب، فما أسرع ما ينسى المرء ما قرأ، والكتابة والتوثيق فعلًا يذكّر الإنسان بمحتوى الكتاب وروحه. في زمن آخر صرت أقيد ملاحظاتي بالطرق التقنية على الكتاب الإلكتروني أو في ملخصات مطبوعة على الحاسوب، التسجيل الخطي أكثر ثباتًا وتأثيرًا بالتأكيد، ولكن لكل زمان دولة ورجال، كما يقولون.

  • هل تغيرت علافتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

لم تتغير كثيرًا، فمكتبتي التقليدية الورقية موجودة وغنية بالكتب، وإلى جانبها مكتبة إلكترونية ضخمة بدأت تكوينها من نحو عشر سنوات أو أزيد من ذلك، مرتبة ومصنفة وفق اهتماماتي وقراءاتي، دربت نفسي لأقرأ بالطريقتين، وأحيانًا يتوفر الكتاب لدي بشكليه الورقي والإلكتروني، وكل صيغة تساند الأخرى، لا أستطيع أن أحمل أثقال الكتب، ولكن الحاسوب يحمل مكتبة ضخمة يمكنك متابعة تصفحها والاستفادة منها كل حين، بالتأكيد القراءة الورقية لها جمالها وطقوسها عندنا نحن الذين نشأنا مع الورق والأحبار، ولكن لا بد من الاستفادة مما أتاحته التقنية والاستفادة من الكتب الإلكترونية المتاحة.

  • حدّثنا عن مكتبتك؟

بدأت بإنشاء مكتبة منذ كنت طالبًا في المدرسة، كانت صندوقًا أو اثنين، ثم صنعت رفوفًا بنفسي، ونمت على مر السنوات حتى غدت مكتبة يعتد بها لولا طوفان الكتب الإلكترونية. كنت أحرص على اقتناء الكتب وأقدّم ذلك على أي أمر آخر، ولذلك عندما أسمع الحديث عن المقارنة بين الكتاب ورغيف الخبز، أجد نفسي أسارع إلى تقديم الكتاب، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. الكتاب ضروري مثل الخبز تمامًا، وليس فعالية ثانوية كما يتصور كثيرون.

أعتز بكتبي القديمة، التي أنارت لي طريقي، وكنت فيما مضى أسجّل اسمي وتاريخ اقتناء الكتاب على الصفحة الأولى، ولذلك كلما عدت إليها يأخذني الحنين إلى زمن مضى. كما أعتز بالكتب المهداة إليّ من كتاب وشعراء تصادف أن التقيتهم أو عرفتهم.

السفر أيضًا ارتبط عندي بالكتب، فقد كنت وما زلت أحرص على استثماره لاقتناء الكتب التي لا تتوفر حيث أقيم. أفدت أيضا من معارض الكتب ومواسمها سواء في الأردن أو خارجه، ومن أجمل اللحظات التجوال الحر في معرض مترامي الأطراف مخصص للكتب، حضرت كثيرًا من هذه المواسم، من أجملها وأوسعها معرض القاهرة للكتاب.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

حاليا أعيد قراءة كتب الناقد الكبير فيصل دراج للإسهام في كتاب تكريمي سيصدر عنه. وأعيد قراءة كتابي مفاتيح التراث: معجم الأديان والمعتقدات والمعارف قبل الإسلام، الصادر حديثًا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2021، لمعاينته من موقع القارئ، والاستفادة من تقييمه لتحرير الكتب الأخرى المكمّلة لهذا المشروع في المرحلة القريبة القادمة. أقرأ في كتب متعددة لغايات أكاديمية تتصل بمناقشة الرسائل، وبالاطلاع على الجديد، منها الروايات المرشحة مؤخرا في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، قرأت معظمها، أتوقّع أن تحظى "دفاتر الوراق" للروائي الأردني جلال برجس بالجائزة لهذا الموسم، فقد وجدته أضاف خيوطًا كثيرة إلى موهبته تؤهّله لتمثيل جيل جديد من الروائيين المجتهدين المجدّدين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة طارق إمام

مكتبة عمار لشموت