28-أغسطس-2020

المؤرخ الفلسطيني شكري عرّاف

شكري عرّاف مؤرّخ وجغرافيّ فلسطيني يقيم في قريته معليا، ريف عكا، متفرّغًا للبحث والكتابة. سيرة الرجل حافلة بمغامراته العلمية والبحثية، وقائمة كتبه تطول لتصل إلى مستوى يصعب فيه تصديق أنها عمل رجل واحد. من يطالع كتبه سيخال أن وراء كلّ منها كتيبة من الباحثين، لكن الأمر ليس كذلك، فهي فعلًا ثمار جهد رجل واحد متنسك لأجل الكتابة عن فلسطين، ليس المدن والقرى وحسب، بل عن الأسواق والحمّامات، وحتى عن أسبلة المياه.

شكري عرّاف تجلٍّ معاصر لمؤلفين من أمثال ياقوت الحموي والإدريسي. 

ولد عرّاف 1931. تخصص في علوم الجغرافيا والتاريخ ومعالم البلاد، رسالته في الدكتوراه كانت حول تاريخ الشرق الأوسط. عمل مدرسًا في العديد من المعاهد والجامعات. من أعماله: "الأرض.. الإنسان والجهد: حضارة الشعب الفلسطيني المادية"، و"جندا فلسطين والأردن في الأدب الجغرافي الإسلامي"، و"مصادر الاقتصاد الفلسطيني من أقدم الفترات حتى عام 1948"، و"مساهمة في دراسة نباتات البلاد" (جزءان)، و"القرية العربية الفلسطينية: مبنى واستعمالات أراض"، و"بدو مرج ابن عامر والجليلين"، و"خانات فلسطين"، و"الكنائس في الجليل"، و"عسس السلطان وعيون الحكام (شرطة فلسطين)".

هنا حوار معه.


  • كيف بدأتَ مشروعك؟ ولماذا اخترت هذا المسار؟

كل مشكلتي في الحياة هي مشكلة تحدٍّ. درستُ في معاهد عبرية إسرائيلية. في معهد اسمه معهد معرفة البلاد. طُلب إليّ من قبل وزارة المعارف أن أساعد مدير المعهد شموئيل أڤيتسور في مشروعه للدكتوراه. وقد درس موضوع المطاحن في أودية فلسطين.

شكري عرّاف: هناك محاولة خطيرة جدًّا بدأت في عشرينيات القرن العشرين مع الوكالة اليهودية في عبرنة الأسماء العربية لفلسطين

طبعًا في ذلك الوقت، الضفة الغربية لم تكن مع إسرائيل. رافقته في معظم الرحلات في فترة الحكم العسكري. وبعد صدور الكتاب ذكرني في أكثر من موقع، ولكنني لاحظت ورود عبارات: "التوراة تقول"، "المشناة تقول"، "التلمود يقول".. فسألت نفسي: ألست هذه حضارتي أنا؟ المطحنة عربية، كل من قابلناهم عرب.. فأين أنا؟

اقرأ/ي أيضًا: حوار| خالد زيادة: الدولة الدينية مفهوم حديث

هذه الشرارة الأولى، بالإضافة إلى أن الرحلات التي قمنا بها، كانت تستعمل الأسماء العبرية، لأن هناك محاولة خطيرة جدًّا بدأت في عشرينيات القرن العشرين مع الوكالة اليهودية في عبرنة الأسماء العربية لفلسطين، وقد قصدت: "لا توجد أسماء عربية في هذا البلد".

عندما مات شموئيل رثيته وقلت له في كلمتي: "تذكر أن هناك واحدًا آخر في الطرف الآخر من الخندق سيقوم بالرحلات نفسها ويكتب رواية أخرى، عن هذا البلد". 

أنا أول جغرافي عربي يدرس الجغرافيا في جامعة عبرية، وقد تحملت الكثير، على سبيل المثال تعرضت للتوقيف في مستوطنة مِتْسپي رِمون في النقب. منعوني من إكمال رحلتي لأنني عربي، ولولا تدخل من زملائي. طبعًا سوف أسرد تفاصيل هذه الحادثة في يومياتي التي سوف أنشرها على موقعي الإلكتروني.

في رحلة أخرى اسمها "رحلة المياه إلى منابع دان وبانياس في منطقة الحولة"، أوقفني أستاذي أرنون سوفير وقال لي: "الحاكم العسكري يمنعك من الدخول".

هذا الرجل أصيب قبل سنة بالسرطان مع الأسف، وأقولها مع كل ألم، فهذا الرجل عالم معروف بوصفه أحد الجغرافيين الديمغرافيين الأوائل في العالم. اتصلت به لأطمئن عليه في رأس السنة. قال لي: "شكري هل أنت متأكد أن صحتي تهمك؟"، قلت له: "نعم". قال لي: "هل نسيت ما فعلته بك؟" أجبته: "صحيح، ولكني لا أريد لك إلا الصحة". بمعنى آخر أنا أتسامح، لكن لا أتخلّى.

هذه التحديات ترغمك كإنسان ألا تقبل أن ترى الآخر يلغيك، بل يعدمك، ومن أجل هذا جاء كتابي "المواقع الجغرافية في فلسطين، الأسماء العربية والتسميات العبرية" (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2004)، الذي رصدت فيه كل موقع غيّرته إسرائيل من العربية إلى العبرية، بما في ذلك الشوارع. لهذا، فالكتاب وثيقة تاريخية لما تفعله إسرائيل، وما تفعله أيضًا في الضفة الغربية، حيث تُواصل تغير الأسماء. ولهذا لا تتحدث وسائل الاعلام الإسرائيلية عن أي اسم عربي إلا إذا كان اسم قرية وهذه قضية أخرى، أما العيون والجبال والأودية فكلها تعبرنت. هذا واحد من الدوافع التي أدت إلى أن أنهج هذا النهج وما زالت.

  • كيف تجمع المادة العلمية التي يقوم عليها بحثك؟ هل يقتصر على جهدك الفردي؟

يُطرح هذا السؤال عليَّ دائمًا. والأمر طبعًا بجهد فردي في البحث الميداني وفي المصادر. يسألونني هل تعتقد أنه سيكون لك مُستمرٌّ؟ أقول لا أدري ولا أعرف، لأن هذا النهج خاص. أتمنى أن يكون لي مستمر، حتى لو في بعض الجوانب.

  • إلى أيّ حدّ تساهم كتابة التاريخ في بناء سردية وطنية؟

قبل مدة، كانت لي مساهمة في برنامج تلفزيوني تحت عنوان "نكبة المناهج"، الذي أذيع من تلفزيون الجزيرة. وهنا أريد أن أشير إلى شيء مهم يتعلق بتدريس التاريخ الفلسطيني: هل إسرائيل مستعدة لتدريس هذا التاريخ؟ هل تحتوي مناهج التاريخ التي يدرسها أولادنا في المدارس داخل إسرائيل شيئًا من هذا النوع؟ وهل المملكة الأردنية بين 1948 و1967 وضعت منهجًا لتدريس تاريخ فلسطين؟ وأسأل سؤالًا آخر: هل الضفة الغربية اليوم حيث السلطة الفلسطينية، لديها منهج كهذا؟ هل المخيمات في لبنان، والمخيمات في سوريا، وفي الأردن، وفي قطاع غزة، هل عندهم منهاج لتدريس تاريخ فلسطين، القديم والمعاصر؟ الجواب على كل ذلك: لا يوجد، ولذلك هنا النكبة. لا أعرف من أتهم؟ في زمن الانتداب البريطاني عندما أنهى جيلي الثانوية درسنا التاريخ القديم عن طريق كتاب اسمه "بْريسْتِد" المترجم عن اللغة الإنجليزية، وهو يتحدث عن تاريخ الشرق الوسط بالعموم، وكأنهم أرادوا أن ندرس ما يدرس الطلاب البريطانيون في إنجلترا أو أنهم أرادوا لنا أن نعرف ما أرادوا هم!

شكري عرّاف: لا يوجد من هو مهم في تدريس تاريخ فلسطين، ولذلك هذه هي النكبة. لا أعرف من أتهم!

أريد أن أقول ما هو أبعد من ذلك، لم أعِ حتى بعد الانتهاء من الثانوية ما معنى قضية فلسطين. في الصف الأخير، كنا نسميه الرابع الثانوي، أخرجتنا ثانوية عكا في مظاهرة ضد مشروع التقسيم، وكنا تهتف "تعيش فلسطين.. تعيش فلسطين"، دون أن نعرف لماذا يجب أن تعيش! سأقول لك الآن إنني أعمل على كتاب قد يفجّر مواقف مخيفة، منها مثلًا موقف قرأته في أحد المصادر العبرية للمؤرخ مِلِشْتاين الذي يذكر حدوث إضراب داخل المدارس اليهودية العبرية سنة 1948 لكي لا يذهبوا إلى الجيش. أنا لم أُطلق في حياتي رصاصة واحدة. ما هي قضية فلسطين؟ من جهزّني لذلك؟

اقرأ/ي أيضًا: حوار| فيصل دراج: المثقف قائم في النقد

معلم اللغة العربية أعطانا موضوعًا يقول: "إن المقاطعة سيف ذو حدين"، وكنا لا نفهم لا معنى المقاطعة، ولا معنى السيف ذي الحدين، ورحنا نبكي. نحن لم نُربَ في مدارس الانتداب على أي شيء عن فلسطين. بمعنى آخر، الوطنية التي تكون قد بُنيت فيّ أنا، أو في أمثالي، جاءت بعد النكبة، نتيجة التحدي، التحدي مرة أخرى: من أنا؟ لماذا أنا هكذا؟ لماذا وجدت في هذا الوضع؟

بعد محاضرة في جامعة بير زيت، حدّثني أحد الزملاء أنهم كانوا ذات مرة في مؤتمر وجاءت فتاة ترشدهم إلى مواقع، فقالت: أريد أن آخذكم إلى "صحراء يهوذا"، وهي عبارة مترجمة عن "مِدبار يهودا" العبرية، مع أن اسمها بالعربية هو صحراء الخليل أو بادية الخليل. تساءلت مع زميلي لماذا استعملت هذه المرشدة المصطلح العبري؟ وكان جوابه لأن الجامعة نفسها لا تعلم جغرافيا فلسطين.

القول الذي أؤمن به وأنشره دومًا هو "أنا أحبكَ أكثر إذا عرفتك أكثر". وهذا ينطبق على الوطن، فإذا لم تستكشف الأماكن وتتعرّف عليها، ملامسًا الحجر برجليك، وتاركًا الهواء والشمس يلفحان وجهك، فلن تكتمل المعادلة. لا يكتمل التواصل، حتى بين الزوجين، دون التواصل الجسدي. أجلس الآن وأمامي جبال الجليل الأعلى، منهما جبلان: عَداثِر والطويل، وبينهما مستوطنة أقيمت على قرية سعسع التي هُجّر أهلها. كان الرومان يسمون هذين الجبلين بثديي فلسطين، لأنهم لكي يصلوا إلى ميناء عكا كان عليهم أن يضعوا مقدمة السفينة بين هذين الجبلين كون الجبال تظهر قبل الساحل في البحر. برؤية الجبلين وسرد الحكاية ستترسخ تفاصيل فلسطين في الضمير والعقل والوجدان لدى الذين يرافقونني في الرحلة. وهذا بالضبط ما يساهم في إنشاء السردية الخاصة بأي جماعة.

  • لماذا غاب الاهتمام الفلسطيني بحياة وتاريخ مدن مثل صفد وطبريا إلى درجة تجعل من معرفتهما شديدة الصعوبة؟

هناك العديد من الكتب لمؤلفين يمكن القول إنها كتبت من باب الواجب. الوحيد الذي درس صفد هو مصطفى العباسي، لكنه كتب عن صفد في فترة الانتداب واحتلالها، دون أن يتحدث عن صفد سابقًا أو لاحقًا. طبعًا شكرًا له، فقد وضع صفد على أجندة البحث والدراسة، خصوصًا في قضية الحرب العربية – الإسرائيلية، لكنه الآن أنجز كتابًا عن طبريا بالعبرية، سوف يترجمه إلى العربية، سوف أصدره في "مركز الدراسات القروية" الذي أشرف عليه. لكن المؤسف حقًا أنّ مدينة بيسان لم يكتب عنها أحد. أعتقد أن التغطية الأشمل لتاريخ هذا البلد لا تكمن في ما أنجزته من كتب وحسب، وإنما في تثبيت الأسماء العربية الضائعة.

في يوم من الأيام، جاءني مرشد سياحي أرسله أحد تلاميذي سابقًا، سألني عن وادي مستعملًا اسمه العبري "تْسِئِليم" على أنه الاسم العربي. طبعًا هناك مخطط، لكنني أتحدى الجهل قبل أي شيء، خصوصًا جهل شعبنا بنفسه الذي يقتلني فعلًا. من المفروض إذا كنت تهتم بتاريخ عائلتك أو قريتك عليك أن تكتب، فأسوأ حبر في العالم أفضل من أقوى ذاكرة.

  • كتبت عن البدو، على سبيل المثال في "بدو مرج ابن عامر والجليلين بين الماضي والحاضر". البدو غائبون في التاريخ الفلسطيني المعاصر، خصوصًا في منطقة الجليل. ما الذي دفعك إلى ذلك؟

كنت أعمل محاضرًا في جامعة سيدني حين أخبرني أحد روادها اليهود أنهم سيفتحون في كلية أورانيم، شرقي حيفا، مساقًا لتعليم البدو، وطلب مني أن أتواصل معه إن عدت، وفعلًا عدت وتواصلنا وعملنا ثلاث عشرة سنة، خرّجنا فيها حوالي 700 طالبة. خلال هذه السنوات كنت أسأل الشباب الذين يأتون إلينا في أورنيم، من أين أنت؟ ما هو أصلك؟ وكان جهلٌ خفت منه على الرعيل القادم.

شكري عرّاف: لا تزال كثير من المعلومات مكنوزة في صدور الناس، لهذا لا يزال المجتمع الفلسطيني قيد الاكتشاف

لهذا قرّرت أن أكتب عن هذه القبائل من أجل طلابي. ذهبت إلى الأردن بصحبة زوجتي روز، وبقينا نتقصى من قبيلة إلى قبيلة، بالإضافة إلى قراءتي للمصادر المتوفرة، خصوصًا بالعبرية، فاليهود كتبوا كثيرًا عن البدو. أنجرت الكتاب لكي أعطي لأولادي البدو في قبائلهم المختلفة شيئًا من الصورة المتكاملة عنهم، اَملًا أن أكون قد فتحت ثغرة في هذا المجال. وبعدها بدأ بعض الشباب بالكتابة عن قبائلهم بأشكال مختلفة، البعض منها ذاتي، والبعض الآخر موضوعي، أظنّ أن هذا الكتاب أثار الشجون الطيبة وحرّك شيئًا في الكتابة التاريخية عن البدو.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة في كتاب حواريّ.. في نفي المنفى

  • المواد التي توفرها بحوثك تصلح لكتابة الأدب بشكل كبير، هل فكّرت شخصيًّا بكتابة رواية أو سيرة ذاتية؟

لم أفكر على الإطلاق. أنا غير مبني لأكون أديبًا مع أن لديّ مخزونًا يصلح للأدب، لكن حتى تصقلها وتحولها إلى مادة أدبية، فلست في هذا الوارد.

  • بعد هذه التجربة وهذا العدد الوافر من الكتب، هل يمكنك استنباط أنساق معينة لقراءة المجتمع الفلسطيني الذي بات مجتمعات بحكم تمزّق الأمكنة والجغرافيا؟

الناس يهمها في المقام الأول لقمة الخبز، طبعًا الكثير من الناس تهمهم الحرية وعدم الاضطهاد. لكن لقمة الخبز أهم من قراءة الخبز وأهم من الوطن. كثير من الناس يقولون لي إنهم لا يريدون أن يتحدثوا أكثر عن تهجيرهم. أسألهم لماذا؟ فيقولون لي نخاف من دير ياسين. بمعنى آخر، هناك أبعاد كثيرة تؤثر، صحيح أن دير ياسين في قلبه وذاكرته، لكن كثيرين من الناس لا يريد أن يبوحوا بما يتصل بالألم، ولا تزال كثير من المعلومات مكنوزة في صدورهم، لهذا لا يزال المجتمع الفلسطيني قيد الاكتشاف.

  • لماذا تنحصر كتابة التاريخ المحلي في مبادرات فردية غالبًا، على الرغم من أن هذا النوع واسع الانتشار في فلسطين؟

أرجو وأصلي أن يكون آلاف شكري عرّاف في المجتمع الفلسطيني. أطلب بعد أن أنشر كتبي على الإنترنت قريبًا أن يطبع الناس هذه الكتب. لا توجد جهة رسمية تشجع وترعى ما نقوم به. ربما لو لم يحالفني الحظ بزوجتي روز لما أنجزت ما أنجزت، وكثيرًا ما أتخيل لو أنني مع سواها لرمت بكل انشغالاتي بعرض الحائط. وقالت: طزّ بأبحاثك أريد أن أعيش حياة زوجية عادية. لكن زوجتي التي تقول دائمًا "من تزوجت شكري عراف عليها أن تتحمل تبعات ذلك"، طبعًا لأنها تعرف أن ما يقوم به زوجها فيه مصلحة لشعبه، وللناس جميعًا. سألتني منذ فترة بروفيسورة يهودية: "هل كان في عكا يهود؟". قلت لها لا، فقالت "بل كان فيها اثنان". قلت ما المهم في هذا، فأجابت: "أصبحت مدينة مختلطة". هذا يتصل بجهود يهودية قديمة للبحث عن يهود تواجدوا في مدن فلسطين، وبمجرد العثور على واحد يتم انتزاع الصفة العربية عن المدينة ويجري التعامل معها كمدينة مختلطة. ما يعني أنه لهم حق فيها. طبعًا أبحاثهم عن المدن المختلطة تنشر في لغات عديدة، وعبر مؤسسات كثيرة، فتُقرأ هذه الأبحاث في ثقافات أخرى ويتم تبني هذه الرواية لغياب الرأي المضاد.

على كل حال، يشتاق الجميع لمعرفة الماضي، وهذا ما أحاول تقديمه لهم. في أحيان كثيرة نكتب نوستالجيات، لكن ما المشكلة في النوستالجيا؟ أليس الشعر مليئًا بها؟ لكن الشعر يحرّك عواطف الناس لفترة قصيرة. كتابة التاريخ تصنع تأثيرًا أبعد أثرًا.

  • منذ 1948 وحتى اليوم، تقوم "إسرائيل" بتغيير معالم فلسطين التاريخية، إلى أي حد تنجح جهود المؤرخين في مقاومة سياسات إبادة البشر واغتيال المكان؟

القوة هي التي تسند كل ما يحدث. قدّمت العديد من المحاضرات دعوت فيها إلى المحافظة على الموروث الحضاري الفلسطيني من زمن الكنعانيين إلى الآن. أنجزت موسوعة من ثمانية أجزاء بعنوان "مصادر الأسماء الفلسطينية"، المجلد الثامن متخصص بالأسماء مجهولة الهوية التي ترد دومًا، والحلول عادة قد تكون في اللغات الآرامية أو السريانية. نحن لا ندعي أن لغتنا العربية استوعبت كل المصطلحات، ففي أحيان كثيرة أبقت المصطلح كما هو لكنها حرّفت الحروف المتشابهة مثل الكاف والقاف، حين تصبح قرية قاقون "كاكون"، ولذلك عندما صدر كتابي "الحضارة المادية" حوى الكثير من المصطلحات التي قضت عليها الثورة الصناعية، خذ كل مصطلحات الحدّادين القدماء الذين كانوا يعملون بأيديهم، كذلك النحاسين والصيّاغ، أين ذهبت مصطلحات هؤلاء؟ أين ذهبت مصطلحات البيادر؟ حافظت على كل هذه الأسماء في كتبي واظن أنه موضوع يستحق الدراسة فلا أستطيع بمفردي أن أسيطر على كل هذه المساحات من الأبحاث، لكنني أمنّي النفس بأنه لا بد بأن أحدًا سوف يهتم بها. مشكلتنا أنه لا توجد لدينا مؤسسات تستوعبنا، كما عند الإسرائيليين. كل اتفاق نقوم به للتعاون مع السلطة الفلسطينية يتغير بتغير الوزراء، ونحن العرب الموجودين داخل إسرائيل لدينا محدودات عديدة، منها أنها داخل دولة لها نظرتها المختلفة، وإذا ما أردت أن تكون فلسطينيًا سترفضك.

شكري عرّاف: مشكلتنا أنه لا توجد لدينا مؤسسات تستوعبنا، كما عند الإسرائيليين. كل اتفاق نقوم به للتعاون مع السلطة الفلسطينية يتغير بتغير الوزراء

من هنا أسست "مركز الدراسات القروية" الذي يعتمد على جهدي الخاص، ومردوده من بيع كتبي التي طبعتها جميعها على نفقتي الخاصة، فكلما طبعت كتابًا أقوم بتوزيعه في المدارس والجمعيات، ومن ريعه أقوم بتمويل طباعة الكتاب اللاحق، طبعًا لأن المركز جمعية غير ربحية، يأخذ تمويلًا محدودًا من الحكومة هنا بما يكفي النفقات المكتبية التي لا أستطيع القيام بها.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| جلبير الأشقر: الربيع العربي مستمر وأشكال الوعي في تصاعد

أول كتاب لي هو "الحضارة المادية" صدر عام 1982 عندما دخلت إسرائيل الى لبنان. وقتها اقترحت على زوجتي روز أن أطبع كتابي "القرية العربية.. مبنىً واستعمالات أراضٍ" وكنت قد أصبحت مستعدًا له، فقلت لها إنه لا يوجد لدينا المال الكافي فقالت: "لنبع البيت". في تلك الفترة التقيت المرحوم فيصل الحسيني وعملت معه في "جمعية الدراسات العربية" التي أسّسها في القدس وطبع الكتاب. لكنني كنت أعرف أن هذه الجمعية لن تكون قادرة على طباعة كل ما أكتبه فرحت أطبع على حسابي الخاص، ولم يكن الربح هو الهدف. ومن هنا بدأت الفكرة تتطور إلى أن أصبح المركز واقعًا.

  • كيف تنظر إلى ما يكتب في محيطك حول التاريخ الفلسطيني؟

هناك الكثير لكنه أقل من المأمول. اللافت أن كتابات كثيرة باتت تتم من قبل مرشدين سياحيين. وهذا ما يدفعني إلى التفكير بكتاب "الأسماء العبرية ماذا كانت في العربية" لمواجهة الأخطاء التي ترتكب بكثرة، والتي يأتي الكثير منها بسبب الخوف، فالإنسان أسير المكان الذي يعيش فيه. في الماضي كنت أخشى أن نتأنغل (أي نصبح إنجليزًا) لكننا الآن نتأسرل. الشباب يستعملون مصطلحات إسرائيلية في أحاديثهم. ولا يمكن أن تلومهم. على سبيل المثال لا يمكن أن نلوم محاميًا عربيًا في إسرائيل لا يعرف كتابة طلب باللغة العربية لأنه يقابل أناسًا ويرافع عنهم باللغة العبرية. اللغة العربية مفقودة. نحن نعيش في "دِلّيما".

عندما أتحدث في محاضرة بعنوان "فلسطين من أين وإلى أين؟" كوني عضوًا في لجنة أطلس فلسطين، فلسطين التي تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة فقط. وقتها طُلب من الباحثين أن يأخذوا خرائط الانتداب ويترجموها من الإنجليزية إلى العربية. وصلتني المادة وبدأت سكرتيرتي تشتكي من الجهد الكبير الذي نبذله، ولو تركت الموضوع كما هو لكان على قاريء هذا الأطلس أن يلقيه في سلة المهملات.

جاءتني باحثة يابانية تحاضر في جامعة هيروشيما، واسمها "أوي- Aoe" قالت: لي لماذا تخالف خليل السكاكيني في رأيه؟ أجبتها بأن السكاكيني رائع، ولكنه يكتب للمثقفين في القدس أو نابلس. ماذا عن 80 أو 85 % من الفلسطينيين وهم من الفلاحين؟ ماذا عن بدو فلسطين؟

  • كيف ترى مستقبل اللاجئين الفلسطينيين بعد 72 عامًا من التهجير، خصوصًا بعد "صفقة القرن"؟

أولًا صفقة القرن سوف تسقط بعد عناء شديد وبعد تطورات خطيرة، لا أدري كيف سيكون شكلها وكيف ستتم معالجتها من قبل الفلسطينيين. ثانيًا مشكلتنا هي قضية التطبيع التي نجحت فيها إسرائيل، بواسطة أمريكا، مع العديد من الدول العربية. قبل قليل تحدثت عن "فلسطين من أين وإلى أين". أود الرجوع إلى تلك النقطة لأسأل: من وضع حدود فلسطين؟ والجواب بريطانيا، ومن وضع حدود سوريا ولبنان؟ فرنسا. من جعل شرق الأردن تصبح إمارة لعبد الله الأول؟ بريطانيا. نحن عبارة عن دول رضيت أن تكون دولًا، وأن تكون لها رموز، وهذه الرموز أصبحت جزءًا من التربية الوطنية. من أجل هذا في حرب 1948 لم تكن الجيوش العربية موحدة على الإطلاق لأن كل واحد يخدم جماعته أو ملكه. الملك فاروق لا يحب الملك عبد الله، ولكن الملك عبد الله رئيس الجيوش العربية. لهذا يتفقون على أن يتركوا إسرائيل تعيش. بمعنى آخر نحن.. لم أعد أعرف من نحن! صدقًا لا أمزح. مرات كثيرة أتساءل هل فعلًا أعرف ذاتي؟ وأحيانًا أشك بذاتي. القضية لا تتعلق بي كشخص، القضية هي الناس، الشعب. قمت بمشروع في قريتي معليا. لقاءات نظرية وجولات ميدانية للتعرف على الأرض. من أجل خلق اهتمام بالهوية المحلية. في العام الماضي صدر لي كتاب "ترشيحا"، ودائمًا أقول لأهل ترشيحا الباقين فيها إنهم لا ينتمون إلى البلد إلا لأجل مصالحهم الاقتصادية، قد يكون لمثل هذا الكتاب اهتمام من قبل أهل ترشيحا الموجودين في مخيم النيرب/سوريا أو مخيم برج البراجنة/بيروت، فهؤلاء لديهم انتماء أكبر، ربما بسبب البعد والحرمان. البعض منهم جعل اسم القرية اسم عائلته "الترشيحاني". الانتماء قضية معقدة جدًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار| سعيد ناشيد: نعيش في عالم غير آمن

عصام محمد عابد الجابري: هكذا عاش أبي!