05-يناير-2020

المفكّر والمؤرّخ اللبنانيّ خالد زيادة

ينشغل المفكّر والمؤرّخ اللبنانيّ خالد زيادة بقضايا الحرّية والمواطنة والعدالة والدستور التي تدخل في صلب مشروعه، أي التحديث القومي الجديد الذي ذهب إليه قادمًا من تراث النهضويين العرب في أوساط القرن التاسع عشر، ووضع فيه مؤلّفات عديدة، منها: "الكاتب والسلطان: من الفقيه إلى المثقّف"، و"لم يعد لأوروبا ما تقدّمه للعرب"، و"المسلمون والحداثة الأوروبية"، وبالإضافة إلى "الخسيس والنفيس: الرقابة والفساد في المدينة الإسلامية"، و"المدينة والحداثة العربية".

زيادة الذي يرى أنّ أوروبا لم تعد كما كانت عليه في نهاية القرن الثامن عشر، أي مصدر أفكار تنويرية كبرى، نقل إلى اللغة العربية أيضًا مجموعة مؤلَّفات ليست بعيدة عن مشروعه واهتماماته، منها: "جنّة النساء والكافرين"، و"ثلاث رحلات جزائرية إلى باريس"، و"جدول التنظيمات الجديدة في الدولة العثمانية".

هنا حوار معه.


  • لنبدأ من فكرة أن يجد الإنسان نفسه كاتبًا فجأة، هل كان هناك، ما قبل لحظة الاكتشاف هذه، ما يوحي بأنك ستكون كاتبًا؟ ماذا عن الهواجس الأولى: الكتابة في السياسة والتاريخ؟ أم الكتابة في الأدب؟ وهلاّ حدّثتنا عن ظروف لقائك بالسياسة والتاريخ؟

فكرة أن أكون كاتبًا جاءتني مبكرًا، وذلك على سبيل التشبه بأخي الذي كان يكتب مقالات في الصحف، وكان يقتني مكتبة سرعان ما شغلت ركنًا من البيت، وبين سن الثانية عشر والخامسة عشر قرأت الكثير من الكتب: نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وبدر شاكر السياب وعبد المعطي حجازي وعبد الصبور، وقرأت كتب تاريخ العرب مثلًا كتاب بروكلمن، وكتب مترجمة لكولن ويلسون وسارتر وغير ذلك.. في نفس الوقت الذي كنت أرسم بالألوان المائية والألوان الزيتية على قماش، وكنت أكتب فيه خواطر وقصائد.

خالد زيادة: كتابة التاريخ من حيث الأسلوب هي أقرب إلى السرد الروائي. وإذا تحدّثنا عن كتب التاريخ الانساني نجد أنها أقرب إلى الروايات

ترسخت لدي فكرة الانتساب إلى كلية الفنون. وتجمعت لدي رسومات (لوحات) عديدة اشتركت فيها بالمعرض المدرسي وحصلت على الجائزة الثانية. كان ذلك عام 1968، ولكن الجائزة المالية جاءت بعد فوات الوقت، ففي أعقاب حرب حزيران 1967، وكنت آنذاك في السادسة عشر قررت أن أقطع صلتي بالرسم وأصرف وقتي في عمل السياسة، وانتسبت إلى تنظيم قريبًا من المقاومة، وكان علينا أن نقرأ الكثير من الكتب النظرية التي أغنتني وحددت اتجاهي البحثي، وحين وصلت إلى الجامعة انتسبت إلى قسم الفلسفة، وبدأت منذ السنة الأولى الكتابة في الصحافة الثقافية. وقبل أن أحصل على الليسانس، كنت نشرت في دار الطليعة تحقيقًا لكتاب سليمان البستاني "عبرة وذكرى، أو الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده".

  • هناك ما يشير دائمًا إلى اهتمامات أدبية واضحة عند خالد زيادة منها روايتك "حكاية فيصل" التي سنتوقف عندها لنطرح عليك السؤال التالي: هل شعرت، حينما كتبت هذه الرواية تحديدًا، بأنك أديب ضلّ طريقه إلى السياسة والتاريخ؟ أم أنك اهتديت إليهما؟

حين كتبت "حكاية فيصل" (صدرت عام 1999) كنت قد كتبت ونشرت خلال عقدين سابقين عدة كتب بحثية، منها: "تطور النظرة الاسلامية إلى أوروبا" و"كاتب السلطان - حرفة الفقهاء والمثقفين". كما كتبت ثلاثة نصوص جمعتها لاحقًا في كتاب بعنوان "مدينة على المتوسط"، وهي نصوص أقرب من حيث الأسلوب إلى السرد الروائي. ولا شك أنّ ذلك يرجع إلى قراءتي الأدبية المبكرة. ورغبة عميقة بالاقتراب من عالم الرواية. ولم يسعفني الوقت أن أكرر التجربة.

  • بما أننا نتحدث عن الأدب والاهتمامات الأدبية، ثمة مقولات عديدة تربط وجود التاريخ بالخطاب واللغة، بمعنى أن الموهبة الأدبية للمؤرخ تؤثر في جودة العمل. ماذا عن خالد زيادة؟ وما موقفه من ربط التاريخ بالخطاب واللغة؟

كتابة التاريخ من حيث الأسلوب هي أقرب إلى السرد الروائي. وإذا تحدّثنا عن كتب التاريخ الانساني نجد أنها أقرب إلى الروايات. وثمة في التأريخ العربي الكلاسيكي صلة بين حفظة الحديث النبوي وبين كتابة التاريخ. كان يطلق اسم رواة الحديث على حفظته، وكان المؤرخون محدثين يعتمدون أسلوب ومنهج أهل الحديث في "الجرح والتعديل" أي في نقد رواة الحديث. وبهذا المعنى فإنّ الرواية في التراث العربي هي الرواية التاريخية. فلم تكن الرواية بشكلها الحديث الذي نعرفها قد وجدت.

خالد زيادة: يستفيد التاريخ من الاقتصاد وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، ولا يمكن اليوم كتابة دون الأخذ بعين الاعتبار هذه العلوم

اقرأ/ي أيضًا: "مدينة على المتوسط": أنثروبولوجيا طرابلس.. أدب خالد زيادة

يمكن أن نستنتج من المقولة أعلاه أن المؤرخ كلما كان ساردًا جيدًا، كلما كان أكثر إقناعًا، وأقرب إلى تصوير الحقيقة. وهنا دعوة واضحة، تقريبًا، إلى الاهتمام بالنص دون إغفال المضمون، ولكن أيضًا دون أن يكون الأخير نقطة ارتكاز. كمؤرخ كيف ترى الأمر؟

من المؤكد أنّ سلامة اللغة والأسلوب والدقة والوضوح أمور ضرورية لعمل المؤرخ ولكل كتابة بحثية. ولكن في تجربتي وجدت فارقًا أو فوارق بين الكتابة الروائية والكتابة البحثية. ويتعلّق الأمر بتركيب الجملة أو العبارة واختيار المفردات، وكذلك يتعلّق الأمر بصيغة المتكلم، ففي الرواية يكون المتكلم هو الكاتب نفسه، كما فعلت في رواية فيصل. أو يكون الكاتب مجرد سارد يتحدث بصفته مراقب، والرواية تُبحر في أساليب مختلفة، يمكن أن تكتب رواية على شكل رسائل متبادلة أو على شكل مذكّرات. في الوقت الذي تنحو كتابة التاريخ إلى أساليب أكثر صرامة من الناحية المنهجية.

  • يرى الفيلسوف الفرنسي بول ريكور أن التخييل التاريخي هو الذي يضفي على الماضي الحيوية التي تجعل من كتاب عظيم، في التاريخ، تحفة أدبية. بمعنى أن التخييل يجعل من التاريخ ملموسًا. أين موقع التخييل في سيرة وتجربة خالد زيادة؟

من الضروري أن نوضح هنا أنّ كلمة تخييل التي يستخدمها الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، تعطي في اللغة العربية دلالات غيرها في الفرنسية. لأنّ الخيال يحيلنا في العربية إلى نسج حكايات غير واقعية. والمثل يقول "قصة من نسج الخيال". ومن هنا ضرورة أخذ الحيطة في الترجمة أو في فهم المقصود. وإذا عدنا إلى كلام ريكور، وهو ليس مرجعًا في كتابة التاريخ، فيجدر أن نفهمه باعتباره دعوة إلى اتساع المخيلة لتستوعب الحدث التاريخي. ليس باعتباره مجرد وقائع متراكمة ولكن سياقات ينشئها المؤرّخ نفسه.

كيف ينظر خالد زيادة إلى الماضي؟ ما الذي يحدد رؤيته له؟ وكيف يتعامل مع المنتوج التاريخي؟ هل باعتباره نصًا إبداعيًا مبنيًا على تراكيب سردية وبلاغية تصوغ التفسير التاريخي؟ أم لديك رؤيتك الخاصة؟

فيما يتعلق بفهمي للتاريخ، فهناك اليوم العديد من الأعمال لمؤرخين كبار تفيدنا حول المناهج العلمية التي توصلنا إلى فهم أعمق للوقائع التاريخية. وبمعنى أدق فإنّ التاريخ يهتم بالدرجة الأولى بالوثيقة والمصادر الثانوية التي تضيء لنا جوانب لا تكشفها الكتابة الكلاسيكية أو الرسمية. ويكفي أن نطالع الكتاب الذي أشرف عليه مؤرخ القرون الوسطى جاك لوغوف والذي يحمل عنوان "التاريخ الجديد"، لنفهم بأنّ الأفكار التقليدية حول كتابة التاريخ قد تبدّلت، فتاريخ الحقبة الطويلة غير تاريخ الحقب القصيرة وغير التاريخ الآني. والتاريخ يستفيد من علوم الاقتصاد وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا ولا يمكن اليوم كتابة دون الأخذ بعين الاعتبار هذه العلوم.

  • نبقى في الماضي والتاريخ، حيث يمكن وضع مضمون كتاب "الخسيس والنفيس: الرقابة والفساد في المدينة الاسلامية". سؤالنا هنا: ما هي ملامح الرقابة والفساد في المدينة والإسلامية التي تناولها خالد زيادة؟

كتاب "الخسيس والنفيس: الرقابة والفساد في المدينة الإسلامية"، هو مجموعة من الدراسات مبنية حول "رسائل الحسبة"، والمقصود بذلك أعمال الفقهاء التي تتناول عمل المحتسب في المدينة وخصوصًا في الأسواق، انطلاقًا من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

خالد زيادة: في المدن التقليدية السابقة لعصر الصناعة والرأسمالية، كانت شروط المدن في كل الحضارات متشابهة

وعمل المحتسب هو غير عمل الشرطة التي تسجن السارقين والمجرمين. فالمحتسب يراقب الأسواق وأصحاب المهن ويراقب الإخلال بالأخلاق العامة. ومن الطبيعي الملاحظة هنا بأنّ عمل المحتسب يبدو كخاصية إسلامية منطلقًا من آية قرآنية: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ"، لكنّ ذلك لا يعني أنّ حضارات ومدينات لم تعرف من يقوم بمهمة مماثلة لعمل المحتسب. ذلك أن الحياة المدينية تفترض الرقابة.

اقرأ/ي أيضًا:  حوار| محمد المطرود: ولدتُ في بيئة أحزانها عظيمة وأفراحها صغيرة

وبالرغم من أن المحتسب كان يعين من القاضي، إلا أنّ الأمر بالمعروف كان تكليفًا يعني كلّ مسلم، فكلّ مسلم يمكنه أن يقوم بمهمة الرقابة والمحاسبة (الاحتساب)، الأمر الذي يطرح مشكلة التخصص وتوزّع المسؤوليات، كما نقول اليوم، كل مواطن خفير. أي أن كل مواطن معني بالانتظام العام.

  • اهتمامك بالمدينة ومواضيعها ومسائلها ليس خافيًا على أحد إطلاقًا. وعليه نوّد سؤالك عن الشروط الرئيسية التي يجب أن تتوافر في المدينة لتستحق هذه الصفة؟ في المقابل، ما هي الشروط التي يجب أن تتوافر في المدينة لتكون مدينة إسلامية؟

في المدن التقليدية السابقة لعصر الصناعة والرأسمالية، كانت شروط المدن في كل الحضارات متشابهة. ويمكن أن نعود هنا إلى كتاب عالم الاجتماع ماكس ڤيبر "المدينة" الذي سرد فيه خصائص المدينة في الحضارات الصينية والهندية والفرعونية والعربية.. إلخ.

السوق والمعبد، والقضاء (المحكمة) هي شروط لا بد منها ليتخذ التجمع البشري صفة المدينة. وهذا ما نجده لدى الماوردي الذي يضيف بعض الشروط الفرعية مثل الحمام وشروط طبيعية كالنهر والمحتطب... المسألة التي طرحها ماكس ڤيبر هي مسألة المدينة المستقلة التي تحكمها نخبة مدينية، ويرى أن المدينة الأوروبية في القرون الوسطى هي وحدها التي كانت مستقلة يحكمها الوجهاء أو الشيوخ المنتخبين. إلا أنّ كل ذلك لم يعد قائمًا في العصر الحديث حيث أصبحت الدولة التي تسّن القوانين وتشرف على تطبيقها عبر قيادات أو مسؤولين لا يملكون الاستقلالية، وإنما يخضعون لهرمية سلطوية.

خالد زيادة: كل الحركات الدينية التي تقول إنّها ترجع إلى الأصول والسلف هي في الواقع حركات حديثة ومعاصرة

  • لماذا تقتصر فكرة العودة إلى الجذور عند الحركات المتشدّدة والأصولية على التشدّد وممارسة العنف فقط؟ بينما نرى وكما جاء في كتابك "الخسيس والنفيس" أن هناك وجوهًا مجهولة يمكن العودة إليها. لماذا يُسقط كل ما عدا التشدد والعنف من المتن دائمًا؟

كل الحركات الدينية التي تقول إنّها ترجع إلى الأصول والسلف هي في الواقع حركات حديثة ومعاصرة، نجد تفسيرها في صراعات الحاضر وتعقيدات الحداثة وفشل التحديث. فادّعاء العودة إلى الأصول يحمل في طياته مقاومة للتغريب والتطور الرأسمالي إلا أنّ هذه المقاومة تعبّر أيضًا عن مفارقة للواقع. وانحراف عن تشخيص حقيقي لصراعات الحاضر ومتطلباتها.

أما العودة إلى الأصول بالنسبة لهذه الفرق المتشددة فهي عودة انتقائية، يختارون ما شاؤوا من الآيات والأحاديث ويفسرونها ويؤولونها، مع إهمال آيات أخرى وأحاديث أخرى وإنكار ما أنجزه المسلمون في ميادين الآداب والعلوم والفكر.

  • نود أن نسألك هنا عن الأسس التي وضعت الدولة الإسلامية في تناقض مع المجتمع المدني؟ وكذا الأسس التي أدت إلى التسلّط الراهن للدولة على المجتمع؟

أولاً وفي البداية أريد أن أنقض مبدأ التناقض الذي يُشغل الفكر العربي والذي يضع الدين إزاء المدني أو في مواجهته، لقد فهم المفكرون أو بعضهم أنّ تاريخ أوروبا ونهضتها قد حدث نتيجة علمنة المجتمع ضد الدين. والذي حدث هو إبعاد الديني عن المجال السياسي، هذا من جهة، أمّا من جهة أخرى فإنّ مفهوم الدولة الاسلامية هو مفهوم حديث، وهناك من يعتقد أنّ الخلافة هي التعبير عن الدولة الاسلامية، ولو افترضنا ذلك، فإنّ مفهوم الدولة قد تحول عبر الزمن، فالدولة التقليدية كانت تشغل حيّزًا ضيقًا وتتعاطى في أمور محدودة، فالدولة التقليدية كانت تهتم بالأمن والضرائب، أمّا الدولة الحديثة فتشمل اهتماماتها كل مجالات الحياة الاجتماعية.

خالد زيادة: إذا لم تُحصّن الدولة بالديمقراطية وتداول السلطة، فإنها تسقط في الاستبداد

الواقع أنّ الفصل بين المجالين الديني والدولتي نجده منذ عصر المماليك والعصر العثماني. وهذا ما يحتاج شرحه إلى مجال أوسع من هذا الحديث. وباختصار، فإن الدولة الدينية هو مفهوم حديث، والاسلام ليس ضد ما هو مدني، ويمكن أن يكون العكس هو الصحيح.

  • أخيرًا، ما هي ظروف لقائك بمسائل الحداثة والحضارة المدينة والعمران وأحوال السلطنة العثمانية؟ وإلى أي حدّ ترى نفسك منشغل بهذه المسائل؟

ينبغي أن أعود إلى سنواتي الجامعية المبكرة في قسم الفلسفة، فقد أثار اهتمامي ما يطلق عليه "فكر النهضة"، أي المؤلفات التي انطبعت بتأثير أوروبا، وخصوصًا مؤلفات الطهطاوي وخير الدين التونسي وعلي مبارك وآخرين. وحين ذهبت لدراسة الدكتوراه أخترت أن أبحث عن جذور التحديث الأمر الذي أعادني إلى مطلع القرن الثامن عشر وليس إلى حملة بونابرت على مصر عام 1798. ومنذ ذلك الوقت كرّست أغلب أعمالي للبحث في مؤثرات التحديث على الفكر العربي والمجتمع العربي.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| بسام أبو ذياب: أستوحي من الطقوس الدينية تعابير جسدية للرقص المعاصر

أما تسلّط الدولة على المجتمع فهو بطريقة من الطرق نتيجة من نتائج الحداثة. ذلك أنّ الدولة الحديثة ذات النموذج الأوروبي هي ذات طابع تسلطي وتدخلي، وهذا لا يعني أنّ الدولة التقليدية لم تكن تسلّطية ولكنها لم تكن تدخلية، أمّا الدولة الحديثة فيشمل نطاقها جميع المجالات الاجتماعية، كما ذكرت سابقًا، ومن هنا: إذا لم تُحصّن الدولة بالديمقراطية وتداول السلطة، فإنها تسقط في الاستبداد.