21-أبريل-2020

المفكر سعيد ناشيد

مرت أربعة أشهر ولا صوت يعلو فوق صوت كورونا، فالبداية من البؤرة الأولى ووهان، ثم اخترق الوباءُ الأسوار وعبرَ المحيطات إلى أن تحول العالمُ إلى غرفة بملايين الجدران بعدما كشف "كوفيد 19" عن وجهه المخيف، وبالتالي تفاقم المخاطر.

بينما يترقبُ الجميع ارتفاع الدخان الأبيض من صومعة العلم يتصاعدُ عدد المصابين والوفيات، وفي ظل هذا المناخ المثخن بالتوتر والقلق يحتاجُ الإنسانُ إلى إسباغ المعنى لما يعيشهُ، لذا لا عجب من إثارة اللغط وسيولة التأويل بشأن الحدث الأبرز يتطلبُ هذا المنقلبُ التاريخي الإصغاء إلى أصوات هادئة، كما يفرضُ استشراف مرحلة ما بعد الأزمة حول ما تمرُ به المجتمعات البشرية من لحظات فارقة ودور الفلسفة في إعادة الطمأنينة إلى النفوس.

ضمن هذا المناخ، كان لنا حوار مع المفكر المغربي سعيد ناشيد الذي ينتهج مسلك الرواقيين في اشتغاله الفلسفي، لا سيما أن يرى أن الفلسفة أداة لتحسين نمط الحياة والتخفيف من حدة التوتر والخوف حول المصير والمآل.

  • مع انتشار فايروس كورونا "كوفيد19" وتفاقم مخاطره رشحتْ عدة سناريوهات حول هذا الوباء المتعولم ذهب البعض بأنَّ ما يجري هو حرب بيولوجية بين القوى المتنافسة على قيادة العالم ثمة من يرى بأنَّ الوباء ليس إلا فخًا مالتوسيًا كيف نفهم المشهد؟

رغم أنّ فيروس كورونا قد تمّ اكتشافه منذ عام 2013 داخل كهف يعيش فيه أحد أنواع الخفافيش بإحدى مناطق الصين، إلا أن انتقاله إلى الإنسان في مطلع العام الجاري (2020)، وسرعة تفشيه بين الناس في مختلف أرجاء العالم، كل هذا قد فاجأ الجميع. وبصرف النظر عن أن بعض المختصين قد توقع منذ البداية إمكانية انتقاله إلى الإنسان، وهناك من حذر مبكرًا من خطورة الاحتمال، إلا أن الأمر يتعلق بفايروس جديد، تبقى المعلومات حوله شحيحة جدًا، وبالتالي كان يصعب التكهن بـ"سلوكه". لقد كانت سرعة الانتشار مفاجئة للجميع، بمن فيهم العلماء والخبراء وقادة الدول. وفعلًا، أمام الصدمات غير المتوقعة عادة ما تظهر ضمن الفرضيات الرائجة فرضيات قائمة على مشاعر غامضة، من قبيل الإحساس بوجود مؤامرة أو لعنة أو مخطط أو ما إلى ذلك من تفسيرات سحرية تضرب بجذورها في اللاوعي الجمعي للبشرية كافة، لكنها فرضيات قد لا تصمد طويلًا أمام اختبارات الواقع والعلم والأخلاق.

سعيد ناشيد: أمام الصدمات غير المتوقعة عادة ما تظهر ضمن الفرضيات الرائجة فرضيات قائمة على مشاعر غامضة

بالموازاة، تكتنف الإنسان رغبة غريزية في العثور على معقولية معينة للكارثة، لماذا حدث ما حدث؟ هنا يظهر نوع آخر من الفرضيات التي قد تكتسي لبوسًا علميًا لكنها لا تخلو من طابع سحري: الطبيعة تنتقم؛ الطبيعة تستعيد توازنها البيئي، الطبيعة تقوم بإبطاء معدل النمو، الطبيعة تقوم بخفض نسبية التعداد السكاني.. إلخ.

اقرأ/ي أيضًا: حوار | هل مات الربيع العربي؟.. دليل سعيد ناشيد للتغيير بالثورات الصغرى

خلاف مزاعم الكثيرين في بادئ الأمر، فقد تأكدنا بفعل التجربة وكلفتها أيضًا أن كورونا لا تصيب كبار السن بالأساس، ولا تقتل كبار السن بالأساس، كما أنها لا تستثني الأطفال الصغار، بل إنها لا تميز بين الأعمار. وبذلك النحو انهارت إحدى الفرضيات التي راجت في البداية حول أن كورونا تنتقي المسنين وتستثني الأطفال الصغار. غير أن هذه الفرضية -حتى لا ننسى- نابعة من نوع من الاستعداد الغريزي المبطن لأجل تقبل مبدأ الانتقاء الطبيعي، حتى ولو أن ضمائرنا الأخلاقية لا تتحملها.

  • في البداية صرّح السياسيون بإن إيجاد اللقاح سيتمُ في غضون مدة قصيرة، لكن مرت أشهر لا يزال العالم يترقب صعود دخان الأبيض من المختبرات. هل أصبح "كورونا" موضوعًا مسيسًا؟

بالنسبة للعلماء والخبراء فقد كانت تقديراتهم منذ البداية هي أن الوصول إلى لقاح مناسب سيحتاج إلى شهور طويلة لأجل إجراء التجارب المخبرية، ثم التجارب على الحيوانات، ووصولًا إلى التجارب على الأشخاص المتطوعين، وذلك قبل الإعلان عن اللقاح. وكل هذا يتطلب جدولًا زمنيًا من العمل والاختبار والتتبع، قد يستغرق عامًا كاملًا.

غير أننا نتفهم تصريحات بعض الساسة المتحمسين لفكرة قرب الوصول إلى اللقاح، باعتبار أن ذلك ينم عن رغبة قد تكون مبررة لدى المسؤول الأول لكل بلد في أن يكون بلده أول من سيتوصل إلى اكتشاف اللقاح، لكل ما يعنيه ذلك من فخر وطني، ونصر انتخابي كذلك.

  • من المتوقع مزاحمة الذكاء الاصطناعي لطاقات وقدرات الإنسان، كيف يمكن الاستفادة من خبرات متراكمة على صعيد الذكاء الصناعي في محاربة الوباء؟

لقد مرّ الإنسان الصانع (الهوموفايبر) بمرحلتين أساسيتين، مرحلة طويلة كان الإنسان فيها يصنع الأدوات، وهي المرحلة التي استمرت منذ العصر الحجري الأول إلى حدود مرحلة ما بعد الحضارة الصناعية، لكنه وصل الآن إلى مرحلة جديدة، حيث إنه لا يستطيع أن يصنع الأدوات وحسب، بل يستطيع أن يصنع الأدوات التي تصنع الأدوات، ذلك أنه يصنع الآلات التي تصنع الآلات، ويصنع الروبوتات التي تصنع الروبوتات، وينشئ البرمجيات التي تنشئ البرمجيات، وعلى سبيل المثال فهو الآن يصنع روبوتات تصنع سيارات قد تكون بدورها ذاتية القيادة، ويصنع آلات تصنع طائرات قد تكون بدورها بلا طيار، وهو يصنع أيضًا أجهزة قادرة على برمجة أجهزة أخرى، بل إنه يقترب من المرحلة التي تنتج فيه الأجهزة المبرمجة برمجيات أعلى منها، وربما هكذا دواليك بنحو تصاعدي. هذا كله مثير بلا شك ومريب كذلك. لكن التطور آخذ طريقه بلا تردد، ولا مجال للتراجع، بل لعل كارثة كورونا سترفع من سرعة التحول. يجب أن نستعد علميًا وعمليًا لهذا التحول، وعلينا أن نستعد أيضًا في مستوى القدرة على سن القوانين والتشريعات المناسبة، وكذلك في مستوى التربية والتنشئة الاجتماعية المطلوبة.

سعيد ناشيد: وصل الإنسان الآن إلى مرحلة جديدة، حيث إنه لا يستطيع أن يصنع الأدوات وحسب، بل يستطيع أن يصنع الأدوات التي تصنع الأدوات

لا شك أن تقنيات الذكاء الاصطناعي قد أظهرت فعاليتها في محاربة جائحة كورونا، وذلك من خلال القدرة على إجراء الفحوصات والكشف عن المعطيات الصحية عن بعد، لكن الرهانات العلمية والعملية تبقى أكبر من هذا الحد، ذلك أن تقنيات النانو قد سمحت للبرمجيات بالوصول إلى خلايا الإنسان لغاية التحكم في المعطيات الوراثية، في أفق العمل على تحسينها، وهناك مشاريع دولية واعدة في هذا المضمار.

اقرأ/ي أيضًا: دليل التدين العاقل: في الضدّ من خطاب العنف

لا شك أن المخاوف التي أثارتها جائحة كورونا ستجعل كثيرًا من الأموال والجهود تتجه نحو علم الجينات، حيث يتم توظيف الذكاء الاصطناعي للتعديل الوراثي للإنسان، لأجل ضمان الوقاية الجينية والجذرية من الأمراض كافة، ضمن استراتيجية ثورية غير مسبوقة تتعلق بتحسين النوع البشري، وأعتقد أن الإيقاع سيترفع في هذا المجال عقب كارثة كورونا. ومرة أخرى يتعلق الأمر بواقع سيفرض نفسه على الجميع آجلًا أم عاجلًا، بيد أنه يتعلق أيضًا بتحديات جديدة أمام المؤسسات التشريعية، وكل هذا يجب أخذه بعين الاعتبار.

  • حاول عدد من الفلاسفة بلورة آراء وتصورات بشأن ما يشهده العالم من الخوف والتوتر جراء وقوع البشر فريسة في قبضة فايروس، برأيك هل تكون هذه الأزمة دافعًا للعودة إلى رواق الفلسفة؟

أثناء كل كارثة ماذا يحدث؟ اليساريون يتهمون الرأسمالية، البيئيون يتهمون الصناعة، النباتيون يتهمون اللاحمين، المؤمنون يتهمون الكفار، وأحيانًا يتهم الجميع السماءَ، أما أنا فلا أتهم أي أحد. أعتبر أن الشر موجود منذ الأزل في الطبيعة والعالم والحياة وبنحو جذري كذلك. بالمناسبة أتفق مع "تشاؤم" فولتير وشوبنهاور، غير أني أعتبر ذلك "التشاؤم النظري" هو شرط السعادة العملية، بحيث أن الكارثة ليست عقابًا من الله أو الطبيعة، بل هي ظاهرة طبيعية بالتمام، وإن كانت لا ترحم هشاشتنا ولا ترحم أطفالنا فالسبب بكل بساطة أن العالم لم يُخلق لأجل إرضائنا. كلنا طفيليات ترقص في النهاية، وإلى النهاية. لذلك. أقول إن الوظيفة الأساسية للفلسفة هي العزاء، لست أنا الذي يتحدث هنا، أنا فقط أتفق مع فلاسفة العصر الروماني، والذين أجمعوا على الوظيفة العزائية للفلسفة، ومارسوا الفلسفة على ذلك النحو، بل إن المفهوم المحوري لمعظم نصوص الفلسفة الرومانية هو العزاء بالمعنى الفلسفي للكلمة.

  • ما المقصود بالعزاء الفلسفي؟

العزاء الفلسفي خطاب برهاني يحمي قدرة الإنسان على التفكير والحياة والعيش المشترك في عالم غير آمن. وأما اليوم فقد تأكدنا بالدليل الإضافي بأننا نعيش فعلًا في عالم غير آمن، وأن ذلك الحال هو قدرنا في كل الأحوال.

  • سينتهي هذا الوباء عاجلًا أم آجلًا وربما تصبحُ هذه التجربة بدايةً جديدة في مسيرة التطور العلمي والحضاري ويكتسبُ البشر مزيدًا من المناعة ولكن هل تشهدُ المجتعات البشرية فعلاً تحولات على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي أم أن الإنسان يصنع تاريخه لكن ليس على دراية بما يصنع على حد قول ماركس؟

كورونا ليست مجرد أزمة، بل كارثة كونية بكل المقاييس، لقد فُرض الحجر الصحي على نصف سكان الأرض في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ. هناك اقتصاديات كثيرة مرشحة للانهيار. الزعامة الأمريكية للعالم تترنح. الرئيس الأمريكي نفسه وبعد أن سخر من "الفايروس الصيني" لبعض الوقت اضطر مرغمًا أن يتخذ قرارًا غير مسبوق تاريخ الولايات المتحد الأمريكية، إذ أعلن تصنيف جائحة كورونا باعتبارها كارثة وطنية، وهي حالة سياسية ودستورية بالغة الدقة.

سعيد ناشيد: لا شك أن المخاوف التي أثارتها جائحة كورونا ستجعل كثيرًا من الأموال والجهود تتجه نحو علم الجينات

كما هو الحال في كل الكوارث السابقة، هذه الكارثة لها ما بعدها. لا نستطيع أن نتوقع كل شيء، لكن الأكيد أن كل شيء سيتغيّر. بلا شك، ستتغير كثير من المعطيات حول وظيفة الدولة وعلاقتها بالخدمات الاجتماعية من قبيل الصحة والتعليم، وحول تقنيات العمل الإنتاجي والخدماتي عن بعد، سواء بالنسبة للمقاولات أو الإدارات.

اقرأ/ي أيضًا: الحداثة والقرآن.. تمرحل النصّ

هذا، وسيدرك الجميع في النهاية أن لا وجود لمكان آمن، ولا وجود لوضع اجتماعي آمن، وأن امتلاك جنسيات متعددة، وأرصدة مالية في الجنات المالية، كل ذلك قد لا يمنح للمرء أي خلاص فردي أو عائلي، وقد لا يمنحه أي امتياز في النهاية. إن المغزى العميق للحجر الصحي أننا نتضامن كنوع بشري لأجل كسر سلسلة انتقال العدوى، وأننا مجرد حلقات في السلسلة، وأن لا أحد يمكن أن ينجو لوحده. قبل أيام قليلة مات أحد أثرياء العالم بسبب فيروس كورونا، لقد أصيب جهازه التنفسي فجأة واختنق بسرعة، كان يمتلك كل شيء، لكنه مات وهو يبحث عن شيء مجاني في الأخير، الهواء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار| يولاندا غواردي: مهمة الأدب تدمير الكليشيهات

كارمن ماريا ماتشادو: يزعجني كتّاب يتهيبون الحديث عن اللذة