07-مايو-2017

قصر الحاج، ليبيا

تستمرّ القرية بالتخلّي عن بيوتِ الوحلِ لصالحِ الإسمنت، وتستمرّ الكثافةُ بأكلِ الفراغِ، إنّه شكلُ الحياة الذي لا تتلفه الشظايا، إنّه النصرُ على اليأس الذي بدأ يأكل جذعَ شجرةِ الزيزفون في حوشِ "البيبة" كنملةٍ بيضاء.

منذُ ثلاثةِ أعوامٍ ماتَ أحدُ رجال القرية بنوبةِ سكّري، لم يبكِ عليهِ أحد، فبرّرَتْ ذلكَ إحدى العجائز: "مو الحمد لله ما مات بشي قصف". قبلَ الحربِ بقليلٍ لا يُذكر، كان إذا توفّي رجلٌ مسنٌ تحزنُ القريةُ كلّها، يتم إيقاف أجهزةِ التلفزة، لا تنشرُ النسوةُ غسيلَهنّ حتى ينشرَ أهل الميّتِ غسيلَهم، وبعد جهدٍ جهيد من الأهالي يتمّ تشغيل التلفاز في بيتِ أهلِ الميْت. هو ليس طقس حزن، هي حالة احترامٍ فطريّةٍ للإنسان، حالة حياة.

بعدَ الحربِ اختلفت علاقات الناس، الكلّ بات يخاف من الكلّ، كأنّ الموتَ حدثٌ عابر ستستمر بعده الحياة كما لو أنّه لم يكنْ، كما لو أنّ الموتى الذينَ ناموا معًا في مقبرةٍ واحدة ورصاصاتٍ مختلفة سيستيقظونَ في صباح اليومِ التالي.

هرب غالبية الشباب على ظهرِ حصانِ الرزقِ خارجَ الحدود، وارتدتِ النساءُ الأسودَ الشرعيّ بحكمِ الحزنِ المتدلّي حتّى من أسلاكِ الكهرباء، أما الشيوخ فقد صمدوا أمامَ اللامعقول كثيرًا، وآنَ لهمْ أنْ يستريحوا في بيوتهم من زحمةِ هذا الغيابِ ووحشَتِه، ما عادتِ الطرقاتُ تحفلُ بجلساتِهم، ما عادَتْ شمسُ العصرِ تسندُ ظلالَها على أكتافِهم. 

وحدَهُ داليم الدشّاوي ظلّ يجلسُ عند البئرِ الهرِم وسطَ القرية، يطلق أسهمَ الفرحَ العابرِ على شفاهِ المارّة كما "كيوبيد"، يحرسُ الذكرياتِ من سيول وادي مقيريفة، يحرسُ رائحةَ الخبزِ من الذبول، ويعتكفُ أمامَ المسجدِ في صلاةِ الجمعة، كي يرى الناسَ وهم يصطفُّون كتِفًا على كتفٍ مثل دبكةٍ في عرسٍ كبير، يُفرِحُهُ الحدث الجماعيّ حتى لو كانَ صلاة الجنازة. هوَ لا يصلّي لأنّه يعرف أنّ الله سيصطفيه إلى الجنّة.

داليم الدشّاوي ليسَ اسمًا لفيلسوفٍ أوروبيّ أو متصوّف فارسيّ، ولا عنوانًا لرواية عالميّة، هو أحمد الإبراهيم، درويشُ القرية الذي لُقّبَ بـ"داليم" وكانَ لقبُ والدهِ "الدشّاوي"، لا أحدَ يعرفُ من أينَ جاءتْ ألقابُ العجائزِ الجميلة بغرابتها، فالفعل "دلَمَ" موجود لكنّ اسم "داليم" لم يرِد في المعجم، على أيّةِ حالٍ لا فائدة من كثرة الأسماءِ إنْ كنّا سنعلّقها في النهايةِ على رأس الشاهدة.

داليم هو الشخصُ الذي لم تصبْه الحربُ بدروشتِهِ، بقي متّزنًا بطبيعةِ علاقتِهِ مع الأشياء والناس، بقي محافظًا على كاريزماه، حتّى قانون الغابة الذي سنّهُ الخليفة لم يستطِعْ أنْ ينالَ من هيكلِه شيئًا، الزمنُ فعلَ ذلكَ، كسرَ رباعيتَه، أوقدَ الشيبَ في رأسِه رغم أنّه في أوجِ الثلاثين، وأبقى على "سكسوكته" كما هي. مذ عرفته لا يصطفّ مع أحدٍ في نزاعات القرية، ولا يكره أحدًا. قد أغيبُ عنهُ لسنواتٍ دون أن يراني، وعندما ألتقيه، يسألني كمَنْ فارقه يومَ أمس: "شلونك علي؟". لا ينسى أحدًا، هو الذاكرة التي أتقنَتْ في الفترةِ الأخيرة محاولاتِ نسيان الموتى الذينَ يكثرون، حاولَ أن لا يعرف كيفَ ماتوا، كذبَ على نفسهِ وقال: هذا يومهم.

داليم صديقُ الجميع، عرّابُ القرية، يحضرُ الأعراس كلّها ويفرحُ من قلبه، كما يحضرُ المآتمَ كلّها ويحزنُ من قلبه، لا يمكنُهُ أن يصطنعَ ذلك، لأنّهُ واضحٌ مثل أغنيةٍ في الشتاءِ. كان كلّما مرّتْ زفّة عرس يقفُ وسطَ الطريقِ ويأخذ "حقَّ الدربِ" كما هي عادةُ الفرحِ الموشّى بالدُعابة، اليوم صارتِ الأعراسُ خجلى من الزغاريد، وصارَ داليم يزغردُ كلّما ضاقَ الفضاءُ بفعلِ الطائرات لينتصرَ على صوتِ الصواريخ التي تهزّ أجواء القرية بقصفها المدينة، وقد يصلُ بهِ الأمرُ إلى إرباكِ ليلِ القرية بأغنيتِه التي تعبّر عن وجعِ الشهوةِ داخلَه: "مجاريح يا أهل الهوى مجاريح.. مجاريح لأقطع (عضوي) وأستريح".

يتناقلُ أهلُ القرية في غرباتهم من السعودية إلى ليبيا فلبنان ضحكةَ داليم عبر الواتساب كأغنية تراثيّة، يحاولون الخوضَ عبرها في تفاصيل ذكرياتهم، يؤنسونَ وحشتَهم بها، ويضحكون على الحياةِ التي أصبحَت تحصيلَ حاصل الدهشة، فيما داليم متصالحًا مع نفسهِ كحكيم صدقَه مستقبله. تُرى هل يعرف أنه جزءٌ مهمٌ من المكانَ الذي نفقد علاقاتنا بهِ؟ هل يعرفُ أنّنا نتمنى كلّنا أن نكونَهُ، أنْ نصرخَ دونَ خوفٍ أو خجلٍ من أحدٍ، أن نشتمَ عهرَ الرئيسِ، وقذارةَ الخليفة، أنْ نقول لمن أكلوا الثورة: "حرامية عرصات"، وأنْ نسمّي غرائزَنا بمسمّياتها الحقيقيّة، وهل يعرف أن "الحجر الأبيض" سيصبحُ رماديًا لولاه؟ ليتنا مثلكَ يا داليم، نفرحُ بصدقٍ ونحزنُ بصدقٍ ولو بقصدِ الحقيقة المحمولة على الغرائز، ليتنا كبرنا بصمتٍ مثلَما كبُرتَ، ليتنا نحبّ مثلَكَ من قلبٍ صافٍ، ونكرَهُ مثلَكَ بقولِ: "آني ما أحبك". ليتنا حقيقيّونَ مثلك.

تصعدُ الشمسُ من صوبِ الفراتِ بحِبالٍ متآكلة لصالحِ غيمِ المواسِم، تأخّر الحصادُ كثيرًا، اشتعلَ الوقودُ في بئرِهِ وانتهى زمنُ السكينة. النارُ تأكلُ الأخضرَ واليابِس، والحربُ تدخّنُ كعجوزٍ لم تصدّقْ كلّ هذا، وداليم ما زال يجلسُ وسطَ القرية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

للابتسامة وجوهٌ أخرى

امرأةٌ تُطعمُ الكيكْ للبطِّ