24-فبراير-2021

مجموعة "البستان" (ألترا صوت)

ألترا صوت – فريق التحرير

تستعيد هذه المساحة الأسبوعية، كل أربعاء، ترجماتٍ منسية مختلفة الاتجاهات والمواضيع، كُتب لها أن تؤدي دورًا معينًا في لحظةٍ ما، قبل أن يطوي الزمن صفحتها فيما بعد، لتصير ترجماتٍ "طي النسيان"، بعيدة عن اهتمامات الناشرين العرب. إنها، بجملةٍ أخرى، مساحة يخصصها "ألترا صوت" لرد الاعتبار لهذه الترجمات، عبر لفت انتباه القراء والناشرين العرب إليها، في محاولةٍ لجعلها قيد التداول مجددًا.


يصف الكاتب المسرحي الأمريكي تينيسي وليامز (1911-1983)، مواطنه بول بولز (1910-1999)، بأنه أهم من الأماكن التي زارها وأقام فيها. ويعود سبب هذا الوصف، بغض النظر عن دقته وصحته، إلى أن الأعمال الأدبية التي أنجزها بولز دارت أحداثها، غالبًا، في أماكن مختلفة بعيدة عن الولايات المتحدة، ومنها المغرب، وتحديدًا مدينة طنجة التي قضى فيها أكثر من 50 عامًا من عمره.

يُقدّم الكاتب الأمريكي في مجموعته قصصًا بسيطة، تبدو حصيلة اكتشافاته وتعمقه في بيئة المغرب العربي وتقاليدها وأسرارها

وصل الكاتب والموسيقي الأمريكي بول بولز إلى طنجة لأول مرة في آب/أغسطس 1931، بهدف الاصطياف فقط، ولكن الأمر سيأخذ فيما بعد منحىً مختلفًا وأبعادًا أخرى، ارتبطت بدهشته بالمدينة وعوالمها، وشغفه بتوثيق ما رآه وعايشه، بشكلٍ أو بآخر، في كتاباته التي وصفت بأنها أقرب إلى "المغامرة"، لا سيما مجموعته القصصية المعنونة بـ "البستان" (دار توبقال للنشر، 1992)، ترجمة وتقديم إبراهيم الخطيب.

اقرأ/ي أيضًا: تُرجمَ قديمًا: ألبير كامو

يقول الناقد والمترجم المغربي في تقديمه للمجموعة، إن المدينة كانت: "بالعراك الثقافي الصامت الذي كان يجري في فضائها الهش والمثقل بالتناقضات، تمارس جاذبية على وجدانه بشكلٍ لا يقاوم، فتتعدد اقاماته فيها، وتزداد الاقامات طولًا، ويتسع مجال المعرفة ليتجاوز حدود الظاهر الخُلّب بحثًا عن العميق الثابت الذي لا يبلى".

الإقامة في طنجة والاقتراب من عوالمها، والتعرف على نمط حياة سكانها وثقافتهم، دفعت بول بولز لاكتشاف المغرب والتعرف على ثقافاته وعوالمه المختلفة، فأخذ يجول في أقاليمه النائية مدونًا ملاحظاته وانطباعاته حولها، ليجعل منها فيما بعد أساسات قصصه القصيرة التي جمعها في "البستان"، وقدّم فيها عالمًا ميثولوجيًا يتداخل فيه العنف مع البراءة، ويُقارب ضمنه فضاءً غريبًا عليه، وصل إليه بهدفٍ وبقي فيه لآخر مختلف تمامًا، حيث تحول من مجرد زائر عابر، إلى مستكشفٍ ومنقّبٍ في طبيعة المكان وبيئته وتقاليده وسلوك سكانه أيضًا.

صوّر بولز في قصصه فضاءً حيًا يضج بالأصوات والإيماءات، ومزخرف بالرموز والأوشام، بحسب تعبير الخطيب، مترجمه الذي رأى أنه انغمر دون هوادة في سحر الغرابة، بكل ما تحمله من طلسمية وعنف وأشكال هذيانية إلى حد الاذهال وأكثر، إذ إن الإقامة في طنجة جعلت من قصصه "مغربية" بحتة، وعكست في الوقت نفسه ما وصِف بـ "التواجد اليومي في وهم الآخر، حيث يتم الإلحاح على نفي الذات وتعرية الهوية من كل زخرفات الفرق".

وعلى الرغم من هذا الاهتمام بالمكان وسحره، وتأثيره على مؤلف "السماء الواقية"، إلا أن البطولة لم تذهب له وحده فقط، وإنما للشخصيات التي اتسم حضورها بالصرامة والاقتضاب والدقة، والتي يتعرف إليها القارئ وهي تسير، ببطءٍ شديد وخوفٍ باطني غير ظاهر، إلى مصيرها التراجيدي البائس، الأمر الذي منحها أهمية كبيرة داخل القصص، وجعل منها الحيز الذي يمكن عبره التعرف إلى المكان، وتخيّل ما لا يظهر منه أيضًا.  

يُقدّم الكاتب الأمريكي في مجموعته قصصًا بسيطة، تبدو حصيلة اكتشافاته وتعمقه في بيئة المغرب العربي وتقاليدها وأسرارها، وإن لم تعبّر عن ذلك بشكلٍ مباشر، إلا أنها تُقدّم ما يمكن اعتباره مدخلًا للتعرف عليها وفهمها أيضًا، إن كان عبر الوصف المباشر، أو من خلال رصد أفعال الشخصيات وسلوكها.

تضم "البستان" قصصًا شيد فيها بول بولز عالمًا ميثولوجيًا يتداخل فيه العنف مع البراءة، ويقارب ضمنه فضاءً غريبًا عليه تمامًا

في إحدى قصصه، يروي بولز حكاية أخوين، يعض كلب مسعور أحدهما، فيعزله الآخر في حظيرةٍ حتى يشفى، بناءً على طلب إمام القرية، ولكن العزل الذي كان ينبغي أن يستمر أيامًا قليلة، بلغ شهرًا كاملًا لأسبابٍ تبدو بسيطة بل ومضحكة، ولكنها تعكس في الوقت نفسه المكانة التي يحظى بها رجال الدين في الأرياف، غير أن جوهر القصة ليس هنا، وإنما في خوف الأخ من ردة فعل أخيه بعد حجره لأكثر من شهر، وتحول هذه المخاوف إلى وسواسٍ دفعه إلى مغادرة القرية دون عودة.

اقرأ/ي أيضًا: تُرجمَ قديمًا: بابا همنغواي

يعتني بول بولز في مجموعته القصصية هذه، بالتفاصيل البسيطة التي تُغيّر مسار حياةٍ بأكملها، وتُعيد رسم مصائر أصحابها. إنها حكايات عن الأحداث غير المتوقعة، يُقدّمها صاحب "يوميات طنجة" بشيءٍ من الواقعية الممزوجة بالغرابة والدهشة، ويحاول فيها استفزاز مخيلة القارئ الذي سيكتشف أن الفكرة الرئيسية الظاهرة للقصة، تحمل في طياتها أفكارًا أخرى مختلفة لا تظهر في القراءة الأولى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

محمد المرابط.. الكاتب الأمي؟

ما أكثر الملائكة في طنجة!