24-يونيو-2020

محمد المرابط في شبابه

يأتي الأدباء إلى الكتابة من كل صوب، من عالم الطب والهندسة ومن العلوم الإنسانية والصحيحة، فتاريخ الأدب مكتظ بالأطباء والمهندسين والعلماء والفيزيائيين والفلاسفة وبائعات الهوى والمساجين القدامى والمجرمين والمدمنين والقتلة الذين تحولوا إلى كتّاب.

اكتظ تاريخ الأدب بالأطباء والمهندسين والعلماء والفيزيائيين والفلاسفة وبائعات الهوى والمساجين والمجرمين والمدمنين والقتلة الذين تحولوا إلى كتّاب

لا أحد مقصيّ من حقل الكتابة وولوج هذا العالم، عالم الأدب. البعض هذّبهم الوسط الأدبي والبعض استثمر كل تلك الخبرات ليجعل الأدب يقول مواضيع جديدة عليه وبأشكال جديدة تمتح من تلك التجارب الخاصة. هكذا كان الأدب حضنًا رحبًا لاستقبال العصاميين الذين لم يأتوا إليه من سُمُو تكوينهم العلمي، وكان يقبل حتى بالحد الأدنى من المعرفة: القراءة والكتابة.

اقرأ/ي أيضًا: 15 عامًا لاهثًا وراء ظل محمد شكري

لكن هذا الشرط الأدنى أيضًا سقط مع صاحب كتاب ليمون، محمد المرابط الكاتب المغربي الذي وصل إلى العالمية وترجمت أعماله إلى لغات حية كثيرة ليقرأه الملايين في العالم دون أن يحمل يومًا قلمًا.

يتحدث النقد العربي عن محمد شكري ذلك الذي تعلم القراءة والكتابة بعد أن تجاوز العشرين، حين قرر دخول المدرسة وتخرج منها معلمًا وراح يوقّع بـ"الكاتب العالمي"، ويروي ذلك في سيرته الخبز الحافي والشطار ووجوه ولكنهم يغفلون عن محمد المرابط الرجل الهامشي الذي تحدى كل شروط الكتابة وأصبح كاتبًا عالميًا فعلًا دون أن يخط حرفًا.

على سطح منزله يضحك محمد المرابط في وجه صحافية قناة ART. "قضيت شهرًا في المدرسة. حطمت وجه المعلّم وقفزت من النافذة العالية. سقطت كما لو أنني سقطت من طائرة". هكذا تمامًا سقط محمد المرابط في الأدب.  

"كلهم ماتوا وظللت حيًا" يقول هازئًا وهو يتذكر عمالقة الأدب الأمريكي والأوروبي والعربي: بول بولز، تنسي ويليامز، جين بولز، ألن غينسبرغ وجورجي كورسو وترومان كابوتي ووليام بورووز ومحمد شكري وجان جينيه.

يتنكر محمد المرابط لكل مدرسة حتى لعرّابه بول بولز. يرد المرابط على Lamarea إحدى الصحف الاسبانية عندما سئل عن تلك الصداقة التي ربطته ببول بولز: "أنا اشتغلت عند بولز ولم أكن صديقًا له. أكره بول بولز. إنه قطعة من القرف لم يكن بولز حتى كاتبًا. كان موسيقيًا وليس كاتبًا. آخر الكتب التي كتبها كانت قصصي. سرق مني مئات القصص. ومن الكتب التي وقعناها معًا، لم أتلق قرشًا. استحوذ بولز على كل شيء. لقد دمر حياتي".

هكذا ينهض محمد المرابط ساخطًا كلما سئل عن أحد ممن عرفهم. حتى محمد شكري الذي كان أكثر حظًا منه رغم أنه هو من عرفه ببول بالناشر بيتر أوين والوكيل روبيرطو دي هولاندا في بيت بول بولز، يتهمه هو الآخر بكتابة أجزاء من سيرته في طنجة على أنها سيرته الخاصة.

القفز من نافذة المدرسة إلى مدرسة الحياة

ولد محمد المرابط 8 آذار/مارس 1936 في الجبال بالريف المغربي قبل أن تترك العائلة الريف وتنزل إلى طنجة. عندما قفز من نافذة المدرسة معنفًا المعلم الفرنسي الذي ضبطه نائمًا فضربه وشتمه، عاد إلى البيت ليجد أبًا لا يرحم ضرب الأب الابن الفار من المدرسة حتى طرحه أرضًا. وهو في الأرض كان الأب يشير إليه بيده الغليظة ألا يفكر في العودة إلى البيت مرة أخرى وأن عليه أن يختفي من الحي.

كان محمد المرابط يروي للمسجّل حكاياته بالإسبانية التي يتقنها شفهيًّا ليقوم بول بولز بنقلها إلى الإنجليزية 

لم ينفع تدخل زوجة الأب لثنيه عن قراره. هدّدها الزوج أيضًا بالضرب. يذكر محمد المرابط في كتاب "مسارات محمد المرابط، بول بولز، سيرة جماعية" لعبد العزيز جدير ومحمد المرابط أن أباه تزوج مرتين ورزق من كل امرأة باثني عشر طفلًا.

اقرأ/ي أيضًا: أولاد الطين.. مهمَّشو السرد الروائي

كان الأب يحرّم على زوجتيه حتى النظر من النافذة. رجولته وحدها منحته هذا التفويض المطلق، كان الوالد يجيد لغة الركل والضرب لأتفه الأمور. كان يميل إلى العنف وخلافًا لما كان يصف به محمد شكري أباه كان محمد المرابط يعطف كل تلك السيرة العنيفة بكلمات تبجيل وإجلال لوالده فيضيف "طيبوبته سليقية، كان إنسانًا رائعًا، ودودًا، متشبعًا بتقاليد وأعراف الأجداد شديد الغيرة على زوجته، يكد في حماس لا يعرف الكلل من أجل أسرته. ظل يعشق الحقيقة نصيرًا لها رافضًا الزيف وأهله".

هكذا ترك الطفل محمد المرابط البيت والتحق بالشارع دون أي إحساس بالضغينة والحقد تجاه والده.

في الشارع احتضنته المقاهي وفي المقاهي اختطف قلبه رواة طنجة الذين يحكون القصص الشعبية. حمل سكينًا منذ طفولته خوفًا من الاغتصاب. كان هناك رجال كبار، كما يقول، يلاحقونه للنيل منه وطنجة لم تكن سهلة. تقلّب بين مهن شتى، حمّال، بائع أسماك، صيّاد، طباخ، ملاكم، سائق، حارس شخصي، مهرب، نادل. منظف بالوعات. بناء. بستاني. رسام يبيع لوحاته في الطريق.

بولز لقاء حياته

كان لقاء المرابط بجين بولز هو اللقاء الذي قلب حياته. وجده الثري الأمريكي بوب تامبل على الشاطئ يبيع السمك فعرض عليه أن يشتغل عنده كل سبت طباخًا ونادلًا يؤمن الأكل والمشروبات لضيوفه. كان تامبل يحيي كل سبت حفلًا كبيرًا في بيته يدعو فيه كبار الشخصيات الأدبية والفنية في طنجة.

في أول حفل أمنه المرابط لبوب تامبل لم يكن بول بولز موجودًا فقط كانت زوجته جين. لم يكن محمد المرابط معنيًا ببول ولا بالكتابة. كان فقط يريد تأمين لقمة عيشه. بعد أن وزع الأكل والشراب على الضيوف انتبه محمد المرابط إلى إمرأة جميلة وحزينة كانت تجلس وحيدة بعيدًا عن الموجودين. كانت تشرب وتدخن بلا توقف. كانت جين باولز. عندما سألها المرابط عن سبب بقائها وحيدة أجابته أنها ليست سعيدة. ولمحاولة تغيير مزاجها عرض عليها المرابط أن يحكي لها قصة لعلها تخرجها من اكتئابها وهكذا انطلق المرابط يروي لها الخرافات وكانت تتابع بانتباه. أخبرته أن بول بولز خرج للجبال يبحث عن أنغام مغربية. وعدته في آخر السهرة أنها ستعود لتراه. وفي الأسبوع الموالي كانت هناك في الحفل ومعها بول بولز وكانت قد اخبرته أنها تعرفت إلى شخص كما  خزان للقصص. قدم له بول بولز مسجلًا وطلب منه أن يروي للمسجّل القصص التي يعرفها بصوته.  

كان المرابط يعتكف في غرفته أو يسير على البحر وهو يحدث المسجل كالمجنون. يتذكر القصص ويخترع غيرها. وفي آخر الأسبوع يجلس لبول بولز ليعيد رواية تلك القصص التي رواها للمسجل بالعامية المغربية، لكن هذه المرة بالإسبانية التي يتقن الحديث بها شفويًا كما بول بولز الذي ينقل تلك القصص إلى الإنجليزية مباشرة. هكذا ظهرت لمحمد المرابط العديد من القصص بتحرير بول بولز في مجلات عالمية قبل أن يطلب من بول أن يروي للمسجل رواية كاملة؟

صارت قصص المرابط وروايته تنشر في كل مكان من العالم: شَعراتٌ مع الحب 1967، الحشيش 1969، الليمون 1969، الصبي الذي أشعل النار 1974، أهرام حديدان 1975،المرآة الكبيرة 1977، عود في خمس عيون 1979، مقهى شاطئ الصوت 1980، الصدر 1983، زواج في الأوراق 1986.

وزار المرابط عديد البلدان منها الولايات المتحدة، وعرض رسوماته في معارض عديدة وعرض عليه حتى التمثيل في هوليود مع المخرج الشهير إليا كازان.

يجلس اليوم في سطح بيته يطعم القطط ويضحك ضحكًا كالبكاء الحقيقة ضاعت كما ضاعت حقوقه. كلهم ماتوا وظل هو حيًا لكن معدمًا يتابع الحديث عن أعماله في دور النشر العالمية ويتحسر كما لو كانوا يتحدثون عن شخص آخر.

في أول لقاء بين بول بولز ومحمد المرابط قال بول: "سأسجل قصصك وأترجمها إلى اللغة الأمريكية، وهي كالإنجليزية، ثم تنشر في مجلة أو كتاب وتحصل على فلوس".

يقول المرابط: "استغربت الأمر. قلت كيف تساوي هذه الخرافات قدرًا من المال؟ قد نكون نحن العرب سذجًا لا نفهم الأشياء ولا نقدرها حق قدرها، أو قد يكون النصارى سذجًا".

 هل كان يمكن للمرابط أن يكون موجودًا لولا بول بولز. وإذا كان بول وراء وجوده فلماذا كل هذا السخط عليه؟

اليوم يعلم المرابط أن ما كان يرويه يستحق أكثر من ذلك بكثير وأنه من كان ساذجًا بعد أن باع حقوق قصصه ورواياته بأبخس الأثمان.

اقرأ/ي أيضًا: نجيب سرور.. سيرة تمرد شاعر العقل

ليبقى السؤال مطروحًا: هل كان يمكن للمرابط أن يكون موجودًا لولا بول بولز. وإذا كان بول وراء وجوده فلماذا كل هذا السخط عليه؟ يقول روبرت بريات: "بول باولز يعرف مرابط لعقود وعقود. ولكن في سؤال "من هو؟"، أجاب: "لا أحد يستطيع أن يفهم أو يعرف محمد مرابط".

 

اقرأ/ي أيضًا:

ما أكثر الملائكة في طنجة!

العصيان المقدس.. جان جينيه في يوميات "لصوصيته"