22-يونيو-2023
تهامي النظر

من المعرض

ولد تهامي النظر بالمدينة القديمة بالدار البيضاء،وترعرع في فرنسا، لكنه أصبح على وجه الخصوص مواطنًا لعالم لا ينفك يجوب ربوعه. ليس تهامي النظر مصورًا فوتوغرافيًّا كالآخرين. فهو يتحكم في كل تفاصيل عمله من ألفه إلى يائه، بدءا من اللقطة، دون استعمال فتحة الرؤية، قريبًا من موضوعه، مرورا بالاندفاعة، الحركة، وصولًا إلى الطباعة، ودائمًا بحجم كبير جدًا، منزويًا عن العيون بورشته الخاصة. هناك ينحت النظر الضوء، كما ينحت الآخرين الحجر، وكل صورة يخرجها تعتبر عملًا متفردًا وأصيلًا".

اخترنا في الترا صوت المقال الافتتاحي عن معرض قصيدة كحلة الذي ضمه الكاتالوغ الصادر مؤخرًا.


ثمة أعمال فنية تبدو قادمة من عهود عريقة سحيقة، صخرة أولية متدحرجة، عجينة خمرانة بأسرار الكينونة، عصارة إنسانية معتّقة عبر العصور لا تشوبها عكارة.

معرض"قصيدة كحلة"، الذي تستضيفه جدران متحف محمد السادس للفن المعاصر والحديث بالرباط، ينتمي إلى هذه النوعية النادرة.

يقترح الفنان الفوتوغرافي المغربي تهامي النظر في "قصيدة كحلة" مشهدًا بدائيًّا، أصليًّا، من أسطورة التكوين المعاصرة، يتألف من سبعين عمل تصويري متسلسل كالألواح المقدسة، يستعرض فصول المغامرة البشرية وما يتخلل مساراتها الوجودية: يقترح على المُشاهد النزول عميقًا إلى خفايا المرئي، وسبر أغوار الصورة وتأصيلها من داخلها، للكشف عن تجلياتها وإشراقاتها لحظة تخلّقها وانبثاقها من سديمها الذي احتضنها في مهاده الأولى. الأَسْود الخصيب بحضور مساحاته الفسيحة الآسرة على امتداد المعرض مرادف للمبدأ الأمومي المؤسس للوجود داخل رؤيوية هذه الملحمة الشعرية الكبرى.

يقترح الفنان الفوتوغرافي المغربي تهامي النظر في "قصيدة كحلة" مشهدًا بدائيًّا، أصليًّا، من أسطورة التكوين المعاصرة، يتألف من سبعين عمل تصويري متسلسل كالألواح المقدسة

ستارة سوداء تفصل بين الخارج والداخل، تتباطأ يد الحارس في إزاحتها. بمجرد الولوج إلى الداخل تعيد اليد الستارة إلى مكانها. ورغم أن عملية إزاحة الستارة المديدة وإعادتها كما كانت عليه لا تستغرق سوى ثوان قليلة، فإننا نشعر أننا انتقلنا مباشرة من منتصف النهار إلى منتصف الليل بحركة واحدة. نحن إذن في معرض "قصيدة كحلة" للمصور الفوتوغرافي المغربي تهامي النظر. الأسود النقي يسود في كل مكان، من البلاط الذي تطأه الأقدام إلى الجدران حتى السقف، لكن العينين سرعان ما تتعودان على عتمة مرقَّقة تخزّن عبق ورطوبة عصور بدائية، سيادتها واستحواذها هنا يخلق لدى المشاهد نوعًا من السكينة والشعور بالأمان لدرجة نسيانها، الشعور بهالة القدسية التي تعمل على توحيد الفضاء المكاني والفضاء الزمني، في مشهدية هائلة كثيفة، متماسكة النسيج، تُعدّ هذا المشاهد لما هو أكثر من زيارة عابرة لمعرض صور فوتوغرافية، إنما للمشاركة روحيًّا وجسديًّا في تجربة مدهشة وفريدة، للغوص عميقًا حواسَ ورأسًا وسبر أغوار هذه الفجوات الضوئية العالقة بين سكون الفراغ وعتمة الجدران.            

قبل التقدم خطوة واحدة. تستوقفنا هذه الأبيات الشعرية، مكتوبة بالأبيض على خلفية قاتمة تشبه سبورة سوداء، كمفتاح سحري يوضع رهن إشارة الزوّار وكلمة المرور التي لا ينبغي نسيانها، لا سيما أن مصدرها شاعر العربية الأول المتنبي:      

جلا اللون عن لون هدى كل مسلك كما انجاب عن ضوء النهار ضباب

إذ حيث أنت من الظلام ضياء

يؤدي زوال اللون الزائف إلى الكشف عن اللون الأصلي، وجوده المؤقت مجرد ضباب يخفي ما هو أكثر من اللون؛ الضوء الحقيقي. الشطر الأخير، يذهب إلى أبعد من السفور البطيء، وبطريقة سريعة شائقة، يجعل الشاعر من الظلام مصدر الضوء. بشكل غير متوقع يضع المتنبي في أيدينا البطاقة التعريفية للعملية الابداعية التي يمارسها سليله تهامي النظر منذ عقود، بأسلوبه الأسود المتفرّد الذي التصق به التصاقًا حميمًا.

اختيار الأبيض والأسود اختيار أنطولوجي يعبّر عن ثنائية القوى الكونية المتكاملة، وتأكيد على أن الفوتوغرافيا في الأصل تعني الكتابة بالضوء والظل (الأبيض والأسود)، وبالتالي فإن معرض "قصيدة كحلة" الذي يختزل تجربة إبداعية استثنائية، يقترح مسارًا مغايرًا للقراءة والتأويل يتعارض كليًّا مع مفردات الجماليات الغربية الكلاسيكية: مسار جدارية شعرية مصوّرة أساسًا وتكوينًا، مستوحاة من التقليد العريق للمعلقات الشعرية لدى الشعراء القدامى، الذين يحيا الفنان في جوارهم.  

قصيدة كْحْلَة

    

ما يخلق لدى المشاهد نوعًا من الصدمة من الوهلة الأولى هو الجاذبية التي لا سبيل إلى تفادي الوقوع في دائرة سحرها. لكن من أين تنبع خيوط هذه المغناطيسية التي ننجذب إليها بغموض في عوالمها الحميمة، وتعمل بشكل خفي على تدمير دفاعاتنا قبل أن تغمرنا فيوضاتها؟ إنها المغناطيسية الفتّاكة/الناعمة ذاتها التي تنبجس من داخل العمل نفسه، الطاقات المتمركزة والقوى الخفية الكامنة التي لا تني تتفجّر وتتجدّد داخل بؤرة الصورة، وتتخللها حركةً وحيوية وتموّجا في مساحة التشكيل، بحيث لا يمْثل الجسد إلا بعد تفخيخه، تقطيع أوصاله، تشذيره، والاحتفاظ فقط بالشذرة/الشذرات الأساسية البليغة في حضورها على سطح الإطار، كأنما يستدرك الجسد غيابه من خلال تمثيليتها الفاجعة في اللحظة الأخيرة. لذلك، رغم مثول الشخوص من خلال تفاصيلها المنتقاة بعناية، والمعروضة من زاوية مقرّبة للغاية، فإنها تبدو ماثلة هناك، متحصّنة في هشاشتها ولحظيتها، على الجانب الآخر من ضفة مرئية لا يمكن عبورها، قصيدة شعرية محفوظة في سوادها لكنها لا تنكتب أبدًا ولا تتخلّق من رحم ليلها. حضورها هنا قاطع الاتجاه داخل الإطار ولا يتعدّى ظلال أطيافها المبسوطة على السطحية القاتمة، مجرد امّحاءات على وشك الامّحاء لكنها لا تمّحى، مجرّد ارتعاشات وجودية عابرة منذورة للتلاشي تختبر صمت إيماءاتها، نوافذ مشرعة تصطفق وحيدة في برد غياباتها ونسياناتها. لن نتمكن من الدخول إلى عالمها بأكثر ما تسمح به عدسة الكاميرا التي تخترق التفاصيل المشهدية كشفرة سكين حادة، مما يفرض بشكل ضمني شروط تقبّل العمل، لا كمشهد مكتمل الأركان كما هو عليه في الواقع، بل كإجراء اختزالي كما تكشفت حقيقته لمخيّلة الفنان، يستلزم من المشاهد التفاعل عاطفيًّا وحسيًّا حيال هذه الجراحة العاشقة.

ليس إعطاء المشهد المبتور في حدّ ذاته في قالبيته التشكيلية المصبوبة في صرامة هو ما يشدّنا ويأسرنا داخل الصورة فقط، بل المادّة المتحوِّلة، فيها كثافة وليونة ناضجة، النسيج الحيّ للجلد الآدمي؛ المستودع الوحيد الذي يحفظ آثار الزمن، انبثاقات الحياة وإحباطاتها، محفورة بدقة ملمترية تثير الدوّار، بإصرار الفنان على المضيّ قُدمًا في استنطاق وفكّ شيفرة هذه الهوية الفيزيولوجية.

في سلسلة الأعمال التصويرية المعنونة "أيادي العالم" تطالعنا هذه اليد الهائلة تتدلى في الفراغ وتشغل بأصابعها المبسوطة مساحة الإطار كلها، ونتعرف في جلدها المحفور بالبصمات والخطوط والالتواءات والتجعدات على خرائطية العذاب الإنساني وبطلان المساعي البشرية، اليدان اللتان تلتفّ أصابعهما كطوق نجاة حول رسغها في حركة آسية حانية للغاية تحاولان إنقاذ اليد المبتورة من السقوط عميقًا في قيعان لا قرار لها بعدما مرت عليها بصلافة سكين قدرية. لكن تصميم هذه اليد المأساوية على السقوط حتمي ولا تراجع فيه. إنها مجرد يد تمائمية معلّقة على بوّابة القدر، تلويحة مقلوبة إلى الأسفل تتحرّى مرجعيتها السفلية الغائرة، بسبب انعدام الأفق. لكن رسوخ القبضة المفرودة على قاعدة الإطار رسوخًا تشكيليًّا متمكنًا وآسرًا، جعل منها في الآن نفسه، قبضة قوية مرهوبة تهدد بسحب كل من يتجرأ على المثول أمام مأساويتها إلى أعماقها.

الإطار الأسود الرفيع يختفي في العتمة، مفسحًا للأشكال بالانفساح والذهاب إلى أبعاد مضاعفة ولانهائية. كما أن الزجاج الذي يسجن الصورة كالأيقونة بالداخل غير موجود أصلًا. الورق الطبيعي المستعمل في الطباعة ليس مجرد سند هش كما هي قماشة الصباغة المنذورة للاختفاء بمجرد نزول الألوان من الفرشاة، بل النطاق الجلدي الذي تولد، تحيا وتتنفّس فيه الصورة وتحافظ على درجة حرارتها، بينما يتقدم في العمر بالتدريج، ويعتريه ما يعتري الشيخوخة، من أعراض ظهور الجفاف والكدمات وتجعد البشرة. المُشاهد المدعوّ إلى تلبية نداءات هذه الكائنات الغامضة المضيئة بمجرد الوقوف أمام حطام نيازكها المرتطمة بالأرض للتو، يجد نفسه وجهًا لوجه في مجابهة حقيقية، ويجد صعوبة في مقاومة رغبة الاقتراب إلى أقصى حدّ من هياكلها النورانية، لأن كل شيء في براح الصورة الفسيحة، في أطراسها الموشّاة والمحفورة بمسامها وعروقها وتجاعيدها وطبقاتها المتراكبة؛ ينبض وينتفض محرّضًا على اللمس والجسّ من شدة الإيحاء بالحركة والحيوية.

المشاهد مدفوع إلى الانخراط بكل جوارحه في طقوس هذا السكون القادم من عهود بدائية، واختراق سرية الصمت الذي يمنحنا إياه تقابل وتماثل الشخوص داخل الإطار، في علاقة ترابط توأمية تكتسب قيمة دراما مقدسة

ما الذي تفعله هذه الأجساد العارية حتى من عريها، في براءتها الأولى وطهرانيتها بعد أن أشبعت رغباتها من المتعة الحسية، وتجرّدت من إيحاءاتها الجنسية مغلقة جفونها الواسعة على العتمة التي ترسو عليها كمراكب عادت أدراجها؟ لكن الجسد العاشق حتى في سكونه واستراحته ونومه أيضًا يواصل وحده الإبحار إلى أعماق خصيبة غائرة. فمثلًا هذه الفتاة المغمضة الجفنين، خصلات ثلاث تخترق وجهها الغافي في ثبات السكينة وصحو الصفاء، وتستند بخدها إلى إحدى يديها المتشابكتين، تتخللهما فيما يشبه الحوار الموسيقي اليدان المتشابكتان لرفيقها المرئي فقط من خلال هذه التفصيلة، تبدو في غفوتها القصيرة بجفونها المغلقة، كأنما تنتظر فقط عودة جسدها من طقوسه ولن يتأخر بالرجوع كي يسحبها رفيقها الخفي الموجود في المقدمة بيديه من يديها. وأيضًا هذه الصورة التي التُقطت بجراوند زيرو في أندر نيويورك، لمشرد يجلس وحيدًا في هيئة متأملة مستغرقة، يرتدي معطفًا شتويًّا طويلًا، ويلف وشاحًا من الصوف على عنقه، قيثارة مستريحة بين فخذيه، رأسه المستدير امحى في العتمة، مجرد كتلة صماء تقشعر في الخارج من البرد، مترجمةً ومبتعثة بقوة في هذه اللطشات البيضاء القابسة التي تسربل الجسد بأكمله، بحيث يبدو للعين زوبعة فراش على أهْبة الهجرة واللحاق بالرأس المحلّقة إلى أصقاع الدفء والموسيقى التي انتهى المشرد ربما من عزفها للتو.

تهامي النظر ١

هارمونية الصورة الفوتوغرافية وتعددية أصواتها تتأتى من الحوار التشكيلي الصامت بين الأبيض والأسود، الحوار اللانهائي بين الكتلة والفراغ، بين الحب والقطيعة، الحياة والموت، في المساحات اللونية المتفجرة التي تضفي على الأشكال المنبثقة داخلها ملمح النحت أو الحفر. المشاهد مدفوع إلى الانخراط بكل جوارحه في طقوس هذا السكون القادم من عهود بدائية، واختراق سرية الصمت الذي يمنحنا إياه تقابل وتماثل الشخوص داخل الإطار، في علاقة ترابط توأمية تكتسب قيمة دراما مقدسة: النورانية التي تغلف هذه الأجساد المنخطفة لا تأتي من مصدر خارجي؛ ضوؤها يحترق ويتدفق من داخلها، من انبثاقات أشواقها السحيقة، من توقها الإنساني العارم للعبور إلى الأقاصي. وفي هذا التوق وحده تتألق هذه الكائنات الليلية، وتخْلق ضوءها الخاص وتتخلّق فيه. الفتاة العارية محفوظة جيدًا من الرأس إلى القدمين، في طبقات شفافة من السيلوفان تكشف عن تفاصيل جسدها العائم في سواد الفراغ كشرنقة مضيئة، تتدلى بين اليدين اللتين تحملانها أضحية مقدسة، مومياء حقيقية مشمولة بالسر، أكملت طقوس عبورها إلى عالمها الآخر، لكن روحها الهائمة لا تزال ترفرف داخل الإطار، في ترادف الخلفية السوداء القاتمة والغلالة البيضاء المتدفقة للجسد المسجى كقطعة مستنقَذة من أبدية.

في نهاية المعرض تنتصب قامة مقتضبة، بالقرب من صرخة الميلاد للمولود الجديد الملفوظ للتو كقطعة حارقة من بركان أزلي، سمرة الوجه غامقة قليلًا، العينان تتقدان في العتمة الخفيفة، اليد اليمنى تمسك بجهاز تصوير في إهمال كما لو تمسك بكيس فاكهة، البذلة السوداء تعطي انطباعًا أن هذا الشخص الواقف بابتسامة لا تفارق شفتيه نزل للتو من إحدى إطارات الصور الفوتوغرافية البانورامية المعروضة، أو عازف سيتار في إحدى فرق الموسيقى الروحية الهندية، أو مغني جاز أفرو أمريكي، أو مجرد فرّان في إحدى المخابز الشعبية، ثم يتقدم نحو الزوار رافعًا بحركة يده الكاميرا قليلًا، ويسألهم عن انطباعاتهم عن المعرض، وعندما يلمح الاستفسار في العيون، يعرّف عن نفسه بهدوء وتواضع يشي عن نكران للذات "أنا من قام بهذا العمل" وليس "أنا الفنان تهامي النظر" كما جرت العادة، كأنما يعتذر من المُشاهد عن تحطيم "قصر البللور" إلى قطع كبيرة متناثرة لا يزال رنين أشعتها المشتبكة مدويًا في الأرجاء.                     

في إحدى قصائده النثرية المتأخرة، قام بودلير بتوبيخ "بائع الزجاج السيئ" صائحًا: "كيف؟ أليس معك زجاج ملوّن؟ زجاج ورديّ، أحمرُ، أزرق، زجاج سحريّ، زجاج الفردوس. أيّ وقح أنت، إذ تتجرأ على التجوّل في أحياء فقيرة، دون أن يكون لديك زجاج يجعلنا نرى الحياة جميلة". تهامي النظر الذي خرج من أحلك زقاق في المدينة القديمة كلها، يدّخر لنا كل الزجاج السحري الفردوسي، كل التنغيمات اللونية وتردداتها الموسيقية غير المألوفة، المعبّرة عن رؤيا شعرية أصيلة، تجعلنا لا نرى فقط "الحياة في الجمال"، بل كل الجمال في فعل الحياة نفسها، بالأبيض والأسود، ضد رغبة بودلير دائمًا.